“بأيّ تفكير كتبت عقدًا كهذا؟”
مهما كان رأيُ الآخرين في كورديليا وإدوين، لم يتردّد سكوت في صبّ انتقاداته على إدوين الذي جاء ممسكًا بعقد مجحف.
صحيح أنّ كورديليا كانت مُلزَمة بتحقيق رغبة إدوين إنْ أخفقَت في تنفيذ شروطه، إلا أنّ إدوين لم يطلب سوى شرطٍ واحد، وهذا ما جعله في وضع غير مُنصِف إطلاقًا، إذ قد يُمسكُ الآخرون بنقطة ضعفه عند أيّ زلّة.
“هل تُصغي إليّ الآن؟”
لكن إدوين لم يُجب. أدرك سكوت أنّ إدوين يتجاهله عمدًا، فاشتعل غضبًا.
“سيدي إدوين!”
تبًّا له! كان بإمكان المرء أن يسمع الشتائم التي كتمها سكوت في صدره.
“الجوّ جميل اليوم.”
غير أنّ إدوين أغمض عينيه واستمتع بأشعة الشمس المنسكبة عليه، وكأنّه قطّ مدلّل يترفّه في الدفء.
“أنتَ من نصحني أصلًا بعدم التطرّق إلى موضوع الزوجة السابقة.”
“لكنّي لم أطلب منك أن تأتي بعقدٍ ظالمٍ من طرفٍ واحد!”
طالَ انتقاد سكوت، ففتح إدوين عينيه بهدوء ونظر إليه.
وحين يُحدّق إدوين بتلك النظرة الطويلة الساكنة، كان كلّ من الرجال والنساء على حدّ سواء يحمرّون خجلاً ويتلعثمون في نهاية كلامهم، وغالبًا ما يتلقّى بعدها إطراءً بأنّ عينيه تشعّان كبريق الجواهر تحت الشمس.
“حيل الجمال لا تنطلي عليّ.”
لكن سكوت، وقد عمل طويلاً مع إدوين، لم يتأثّر.
فهو ليس بالأحمق الذي يجهل متى وكيف يستعمل إدوين وجهه الفاتن ولسانه البليغ.
“يا للخسارة.”
تمطّى إدوين على الكرسيّ في كسلٍ، أشبه بأسدٍ ضجرٍ لا طاقة له على الحركة.
“هل أعجبتَ بالأميرة كورديليا من النظرة الأولى، صدفةً؟”
“هل يُعقل ذلك؟”
كان السؤال يقصد: هل راقت لك الأميرة إلى درجةٍ تدفعك لتقديم كلّ شيءٍ لها؟
أجاب إدوين بفتور تامّ نافياً.
“الشكر للرب إذًا، كنتُ سأستقيل إن صار مديري مسحورًا بامرأة إلى هذا الحدّ.”
“لا خيار أمامي. لن أنال الإرث ما لم أتزوّج وأحصل على اللقب. عليّ أن أبذل جهدي.”
“تبذل جهدك؟”
“لقد وُقّع العقد وانتهى الأمر، لا سبيل لتعديله. لا تُهدر طاقتك في ما لا طائل منه.”
“كما تشاء. سواء نهبت الأميرةُ ثروتك أم أنجبت وريثك، لا شأن لي بذلك.”
لم يبدُ على إدوين أيّ غضب رغم لهجة سكوت الساخرة.
ربّما لأنّ فكرة “الابن” بدت له بعيدة وغامضة للغاية، فلم يفهم كيف يغضب سكوت كأنّ الأمر يخصّه شخصيًّا.
“ولماذا أضفتَ بند الحمل والولادة في العقد؟”
صرخ سكوت في وجهه ثانية، وكأنّ الغضب أخذ يتزايد في صدره كلّما فكّر بالأمر.
“لأنّه بعد أن أستولي على شركة ترييد، لن يهمّني ذلك بعد الآن. كلّ ما أريده هو ألّا ينال الخونة ما يشتهونه أكثر من أيّ شيء.”
“……”
“أعطني تقارير الفرع.”
أجاب إدوين بصراحة ومدّ كفّه فوق الطاولة.
تردّد سكوت قليلاً، بدت شفتاه ترتجفان كمن لم يُنهِ كلامه بعد، ثم أطلق تنهيدة خافتة تعبّر عن الاستسلام.
“لماذا انخفض الإنتاج إلى هذا الحدّ؟”
“هطلت أمطارٌ غزيرة مؤخرًا فضعفت الطبقات الأرضية وحدثت انهيارات. منذ ذلك الحين، كثر من يخشون الحفر في الأعماق.”
ورغم أنّ العمل ما زال يسير بصعوبة، إلا أنّ حياة المرء أغلى من المال. ولم يكن بوسع إدوين أن يُجبر أحدًا على المخاطرة بحياته، فالوضع مربك لا محالة.
“هل سقط قتلى؟”
“رجلٌ واحد في الثلاثين من عمره.”
سيُنسى الأمر مع مرور الوقت، وسيتقبّله الناس باعتباره من مخاطر المهنة المعتادة.
طرق إدوين بأطراف أصابعه سطح الطاولة غارقًا في التفكير.
“ما وضع عائلته؟”
“لديه فتاةٌ في العاشرة، وزوجته توفّيت منذ زمن.”
“أوقفوا التعدين حتى تتماسك الأرض مجددًا. أما تلك الطفلة…”
تردّد إدوين على غير عادته، فحدّق سكوت بعينين ضيّقتين.
“هل تنوي أن تُدخلها إلى القصر…؟”
قالها بحذر وبنبرة توحي بالريبة، كأنّه على وشك التلفّظ بسخافة ما.
فأمسك إدوين قلمًا ورماه باستهزاء.
“هل ترغب بأن أفرغ رصاصة في رأسك؟”
“أجل، يبدو أنّي فقدت صوابي للحظة.”
اعتذر سكوت ببرود، مدركًا أنّ فكرته كانت دنيئة بالفعل.
“فقدت حقّها في الرعاية من والدها الميت، لذا اعتنِ بأمر كفالتها. على أن تُشيع الخبر في كلّ مكان.”
وضع إدوين الورقة التي كانت بين أصابعه على الطاولة وأصدر أوامره.
كان ما يريده أن يُعرف بأنه ربّ عملٍ مسؤول يتكفّل برعاية طفلة يتيمة فقدت والدها العامل لديه.
فمثل تلك السمعة كانت ستعود عليه لاحقًا بفوائد غير متوقعة، وتكلفة الكفالة حتى تبلغ الطفلة سنّ الرشد تُعدّ زهيدة بالمقارنة.
هكذا هو إدوين تِريد، لا يُقدم أبدًا على أمرٍ لا يعود عليه بالنفع.
ابتسم سكوت باستهزاء وقد أدرك نيّته، ثم استدار مغادرًا.
“آه، وهناك أمرٌ آخر.”
تجمّد سكوت عند الباب حين سمع صوت إدوين خلفه.
“أحتاج إلى خدمةٍ منك.”
***
كان من النادر أن يطلب آرون بنفسه التحدّث، ولذلك فوجئت السيدة ليان حين دعاها إلى لقاءٍ خاصّ.
“أحتاج إلى طلب منك.”
لم تكد تلمس فنجان الشاي حتى بادرها آرون بالكلام.
قطّبت ليان حاجبيها استنكارًا لوقاحته.
“قلتَ إنها جلسة شاي.”
لم يُجبها آرون، بل استند إلى ظهر كرسيّه بصمت.
رأت فيه ملامح إدوين، وتساءلت في نفسها: لو تقدّم إدوين في العمر، فسيبدو تمامًا مثله.
تلك الفكرة وحدها جعلت إدوين في نظرها أكثر كراهيةً واشمئزازًا.
“بعد زواج الأميرة كورديليا من إدوين، سيمكثان في الجناح الخارجي.”
“هل جُننت؟ اشترِ لهما قصرًا آخر واطردهما!”
قهقهت ليان بمرارة ثم انفجرت غاضبة.
“أليس من المفترض أن يحصل إدوين على لقبٍ نبيل؟ نحن مجرّد عوام! الخدم سيتحيّرون في كيفية التعامل مع أسيادهم!”
“ولِمَ الحيرة؟ إدوين ابني. ثم إنّ بارتون أيضًا بات يحمل لقبًا بفضل زواجه من ابنة الفيكونت ليبرتي.”
في ذهن آرون، كانت الأمور بسيطةً إلى أقصى حدّ.
حتى لو نال إدوين لقب دوق، سيبقى في النهاية ابنه المتفوّق.
“لكن بارتون أصبح أضحوكة! بعد أن ربطنا صلتنا بعائلة ليبرتي، تُدخل إدوين في علاقة مع العائلة المالكة؟!”
لكن بالنسبة لليان، لم يكن الأمر بهذه البساطة أبدًا.
لقد أرادت أن يكون ابنها بارتون هو وريث شركة ترييد، وأن تؤول إليها هذه الفيلا الفخمة.
غير أنّ آرون وإدوين كانا دومًا حجر عثرة في طريق رغباتها.
“هل قلتُ إنني سأحرم بارتون من الخلافة؟ بالطبع لا.”
“لكنّك تخلق منافسةً تميل لصالح إدوين لتُظهر ابني بمظهر الأحمق!”
“كفى.”
حذّرها آرون بصوتٍ جليديّ، لكن الشرر المتأجّج في عينيها لم يخمد أمام تهديده.
“دائمًا هذا أسلوبك! لا يهمّك ما نعانيه أنا وابنك!”
“إن كان لديك ضمير، فراجعي نفسك يا ليان ترييد.”
ردّ آرون ببرود، فتجمّدت كلماتها على شفتيها.
قبضت ليان على كفّيها المرتجفتين غيظًا.
ثم دفع آرون كرسيّه إلى الخلف ونهض، كأنه لم يعُد راغبًا في مواصلة النقاش.
توقّف نظره للحظة على يديها المرتعشتين.
“أعدّي الجناح الذي سيستخدمه إدوين والأميرة كورديليا بعد الزواج.”
“… مفهوم.”
لم يطل الموقف أكثر من ذلك.
استدار آرون وغادر تاركًا خلفه نسمةً باردة، وبقيت ليان وحدها تحدّق في ظله المتلاشي — ظلّ رجلٍ لم يلتفت إليها يومًا.
عضّت ليان شفتها السفلى حتى سال منها الدم، ثم قرعت جرس الاستدعاء بعنف.
“أمّاه.”
كانت هايلي هي من دخلت الغرفة.
“كنتُ على وشك مناداتك، تفضّلي واجلسي.”
أشارت ليان إلى المقعد المقابل، حيث كان آرون يجلس قبل قليل.
اقتربت هايلي بخطواتٍ هادئة وجلست أمامها.
“بعد زواج إدوين من الأميرة، سيُقيم هنا في القصر.”
“ماذا؟”
سألت هايلي بذهول كأنها لم تسمع جيدًا.
لكن ليان، وإن تفهّمت حيرتها، لم تكلف نفسها عناء الشرح.
“عليكِ تجهيز الغرفة التي سيقيمان فيها. افعلي ما ترينه مناسبًا.”
لم تكن ترغب حتى بتحريك إصبعٍ في أمرٍ يتعلّق إدوين.
“أنتِ تعرفينه أكثر مني، فجهّزيها بما يناسب ذوقه.”
تحدّثت السيدة ليان بنبرة تنمّ عن السخرية، وكان الغضب المتأجّج في داخلها واضحًا جليًّا. أما هايلي، فبدلاً من الردّ عليها، أومأت برأسها بصمت موافقة على كلام السيدة ليان.
“كيف حال بارتون هذه الأيام؟ وكيف يسير العمل؟”
عندها، هدأ قليلاً غضب السيدة ليان الذي فقد وجهته، فهي كانت تدرك أن سبب انفعالها لم يكن هايلي نفسها.
“إنه يحاول اكتشاف مواهب جديدة. ويبدو أنه عثر مؤخرًا على شخصٍ واعد.”
أجابت هايلي بصوت لطيف وهادئ.
“إلى متى سيستمر في اكتشاف المواهب فقط؟ متى سنرى نتائج فعلية؟”
قالت السيدة ليان وهي تضع يدها على جبهتها كما لو أن رأسها يؤلمها. ولم تحتج هايلي وقتًا طويلًا لتدرك مصدر التقييم البارد الذي كان آرون يوجّهه نحو بارتون.
“سأُحضِر لكِ بعض دواء الصداع.”
لم تستطع هايلي احتمال رؤيتها على تلك الحال، فنهضت من مكانها بخطوات حذرة تشبه تصرّف زوجة الإبن المطيعة، وقد قرّرت البحث عن الدواء لتخفيف صداع السيدة ليان المتكرّر.
لكن عندما فتحت الباب وبدأت بالنزول على الدرج، توقّفت في منتصفه. رفع الخدم الواقفون في الطابق الأول أنظارهم نحوها بوجوه يعلوها الاستغراب.
“آه، لو أن بارتون لم يكن متزوّجًا، لكانت زيجته من الأميرة فرصته الذهبية. ربما تكونين أنتِ السبب في جعل بارتون بلا فائدة.”
استحضرت هايلي وجه إدوين، الشخص الذي سيجني أكبر فائدة من هذا الزواج.
ذلك اللعين، إدوين ترييد، الذي لا يُرجى من وجوده أي نفع في حياتها.
عضّت هايلي على أسنانها بقوة، لكن في اللحظة التالية، أغلقت عينيها ثم فتحتهما لتعود ملامحها إلى هدوئها المعهود، ملامح السيدة الصغيرة الودودة والمطيعة، وكأن شيئًا لم يحدث قط.
–
تابعو حسابي على الانستقرام @beecatchuu لمعرفة اخبار الروايات ومزيد من المحتوى
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
التعليقات لهذا الفصل " 5"