كان إدوين على وشك النزول من العربة حين لمح كورديليا التي كانت تستقبله، فتسعت عيناه دهشة قليلاً ؛ فليست كورديليا من ينتظر زوجها عند الباب، ولا هي بذلك اللطف والهدوء عادة.
“كنت أنظر من النافذة، ورأيت عربتك تدخل، فنزلت.”
برّرت كورديليا سبب وجودها هنا، وهي نفسها تعرف أن الأمر لم يكن طبيعيًا تمامًا. لكن إخفاء أنفاسها المتلاحقة من سرعة هبوطها على الدرج كان ضربًا من المستحيل. وضعت يدها على صدرها الذي يرتفع ويهبط بسرعة محاولة تنظيم تنفسها.
“أفهم.”
ابتسم إدوين قليلاً ثم لزم الصمت، متظاهرًا بعدم ملاحظة حرجها.
“هل تناولتِ الطعام؟”
“لا.”
“لقد أمرتُ أن يُبلَّغكِ بأنني سأتأخر اليوم.”
التفت إدوين إلى سكوت بنظرة هادئة، ولأن سكوت كان قد أبلغها فعلاً، فقد اتسعت عيناه وكأنما يقول إنه بريء تمامًا.
“سمعت. فقط… لم يكن لدي شهية.”
ربّتت كورديليا على ذراع إدوين، تطمئنه، ثم أشارت بنظراتها إلى سكوت لتؤكد أنه لا ذنب له. عندها فقط اطمأن سكوت.
“لكن، لماذا نذهب إلى القصر الملكي الأربعاء القادم؟ بالنسبة إليّ، رؤية عائلتي أمر حسن، لكن… هل كان لدينا موعد مسبق؟”
“لم يكن هناك أي جدول. فجأة طلب ولي العهد مقابلتي، فظننتُ أنكِ سترغبين كذلك في رؤية عائلتك.”
قال إدوين ذلك وهو يصعد الدرج، ولم تلبث كورديليا أن سارت بجواره حتى وجدَت نفسها عند عتبة غرفة نومه… ناسِية تمامًا أن لديها غرفة نوم جديدة الآن.
“بالطبع أريد رؤيتهم. شكرًا لاهتمامك.”
“لا شكر على واجب.”
لم يبالِ إدوين بوجودها في الغرفة، وبدأ يفك ربطة عنقه، ثم ألقى بها وبأزرار أكمامه على الطاولة، وطوى أكمام قميصه بكسل كاشفًا ساعديه.
برغم الكلمات الموحية التي قالها صباحًا، لم يُظهر أدنى اكتراث بوجود كورديليا قربه وهو يغير ملابسه.
“وماذا فعلتِ خلال النهار يا صاحبة السمو؟”
انزلقت نظرات كورديليا نحو ذراعيه تلقائيًا، دون أن تسمع سؤاله.
“صاحبة السمو؟”
“… نعم؟”
ما إن رأت جسده بعينيها حتى سُلب تركيزها. العظم اللامع عند الترقوة الظاهرة من بين زرّين مفتوحين، وصدره القوي المشدود تحت القميص… كلها أمور جذبت بصرها بلا مقاومة.
“سألتُكِ ماذا فعلتِ نهارًا.”
“آه، فقط… تمشيت قليلاً. وشربت الشاي مع هايلي.”
ما إن أدركت كورديليا حركة عينيها، حتى صعقها الحرج، فانطلقت كلماتها متعثرة.
عندها، ارتفع حاجب إدوين بزاوية واضحة؛ ويبدو أن اسم هايلي تحديدًا لم يَرُق له.
“فقط… سمعت بالخبر الذي نُشر في الصحيفة. قالت إنها جاءت لتواسيني ظنًا منها أنني سأكون منزعجة.”
شرحت كورديليا سريعًا كيف انتهى بها الأمر لقضاء الوقت مع هايلي، دون أن تذكر شيئًا من حديثهما عن ماضي إدوين؛ لأنها كانت متأكدة أنه لن يستسيغ ذلك.
“سأغتسل وأعود.”
“ح- حسنًا.”
شعر إدوين بأن كورديليا تخفي شيئًا، لكنه لم يجبرها على الاعتراف. لم يكن ذلك من طبعه.
أما هي… فكانت تشعر بأنها امرأة منحطة لا همّ لها سوى التحديق في جسد زوجها العاري…
دفنت وجهها بين كفيها مصدومة من نفسها. ربما كان كل ما قصدَه إدوين صباحًا هو ضيقه من رؤيتها بثوب النوم الخفيف والرداء الشفاف، لكن كلماته البريئة تلك أيقظت وعيها بجسد رجل ينام بقربها كل ليلة.
خجلٌ، وارتباك، وخوفٌ من انكشاف الأمر… كل ذلك جعلها تدرك أنها لا تتذكر كيف استطاعت نسيان ليلتهما الأولى طوال هذا الوقت.
“… غرفتي.”
وفجأة تذكرت أن لديها غرفة نوم جديدة.
ربما… إن رأت إدوين أقل قليلاً، قد تخف آثار كلماته عنها؟
هربت إلى غرفتها الجديدة، غير واثقة إن كان قرارًا حكيمًا. وقفت عند الباب تتردد قليلاً قبل أن تصعد إلى السرير. بدا الغطاء باردًا على غير العادة.
“غريب…”
تمددت على السرير الرحب ونظرت ناحية الجانب الآخر. كان الفراغ إلى جانبها—ذلك المكان الذي كان إدوين يشغله كل ليلة—غريبًا جدًا. في القصر الملكي اعتادت النوم وحدها دائمًا، لكن الآن… أصبح وجود شخص بجانبها هو الطبيعي.
لكن عليها التأقلم. أغمضت عينيها… ولدهشتها، غلبها النعاس.
“آه…”
استفاقت من غفوة قصيرة على صوت ارتطام قوي. فتحت عينيها فزِعة، وإذا بالظلام يملأ كل شيء.
“من أين…؟”
نهضت تنظر نحو باب الغرفة… لا شيء. ولا حركة.
“…”
بعد ذلك الصوت، خيّم الصمت تمامًا. ومن غير المنطقي أن يكون أحد في منزل ترييد ينوي إيذاءها؛ فهي لا تحمل أي تهديد لولاية العهد.
جمعت شجاعتها، تناولت الشمعدان قرب السرير، وبدأت تتفقد الغرفة بحذر.
وفي الظلمة لاح لها مقبض باب. ترددت لحظة، ثم فتحته بعزم، ولوّحت بالشمعدان أمامها. لم يخرج أحد.
“أوه؟”
اتسعت عيناها حين رأت المشهد المألوف.
بالطبع… إنها غرفة النوم التي كانت تستخدمها منذ وصولها إلى منزل ترييد مع إدوين.
لم تكن تعرف أن لغرفة نومها الجديدة بابًا داخليًا يصل بغرفة زوجها، كما هو الحال في معظم بيوت النبلاء.
“…صاحبة السمو؟”
قالها إدوين من على سريره، وقد لاحظ الضيفة المفاجئة.
“قيل لي إن غرفتكِ أصبحت جاهزة، فذهبتِ إليها.”
“… هذا صحيح.”
“لكن الغرفة غريبة عليكِ ولم تستطيعي النوم، أليس كذلك؟”
أومأت كورديليا؛ لم تستطع قول الحقيقة بأنها نامت فورًا.
“فهمت.”
نقر إدوين لسانه دون أن يبدو متفاجئًا.
“تعالي. سأتحدث إليكِ حتى تنامي بارتياح.”
رفع الغطاء عن جانبه، مشيرًا إلى الفراغ قربه. صعدت كورديليا بحذر، ملتصقة به قليلاً. شعرت بدفء السرير والغطاء وقد صبغهما دفؤه.
“إن غلبكِ النعاس أثناء حديثنا، فنامي براحة. وإن غفوتِ بعمق، سأعيدكِ إلى غرفتك.”
هزّت رأسها، ثم أسندت رأسها على صدره. كان نبضه المنتظم يمنحها طمأنينة عميقة.
“ماذا هناك؟”
شعرت كورديليا بنظراته عليها. هل أخطأت في شيء؟ لم يخطر ببالها شيء واضح.
“هل تنوين النوم بملابس النهار؟”
“آه… م- ملابس النوم…”
ما إن تذكرت تلك الكلمة حتى بدأت تشعر بوجود صدر إدوين تحت أطراف أصابعها، فسحبت يدها قليلاً.
“أنتِ في الصباح…”
“ما سترتدينه أمر يعود لكِ يا صاحبة السمو.”
كان دائمًا بارعًا في الكلام… يزيد الدنيا تعقيدًا في قلبها. أطلقت كورديليا زفرة صغيرة.
وحينها، انزلقت عيناه من وجهها إلى كتفها حيث تتساقط خصلات ذهبية، ثم إلى يدها التي تعبث بطرف قميصه.
“والحقيقة… المشكلة ليست في ملابس النوم أصلاً.”
عندها فقط أدركت كورديليا ما كان يشعر به دومًا… ذلك التردد الغريب في عينيه، تلك المشاعر غير المعلنة… كانت رغبة. والآن أيضًا، رغم أنها بلا ثوب نوم، لم يختلف الأمر.
وفي اللحظة التي فهمت فيها ذلك، تلاشى النعاس. بدأ قلبها بالخفقان بجنون. لأنها… تذكرت تلك الليلة.
الليلة التي منحها فيها إدوين أغلى، وأشد، وأكثر لحظاتها إثارة في حياتها… رغم أنها لم تتكرر سوى مرة واحدة.
“إن كانت يداي تزعجانكِ… ففمي مناسب، أليس كذلك؟”
في تلك الليلة… كان إدوين وقحًا وفظًا، لكنه في الوقت ذاته كان أقرب إنسان إليها. كان أكثر لحظاتها اتصالاً به، جسدًا وروحًا. هذا ما شعرت به كورديليا.
أريد أن أقترب أكثر…
وحين فكرت بذلك… اشتعلت الرغبة داخلها أيضًا.
–
الفصول القادمة ستُنشر أولًا وحصريًا على قناة التلجرام 💌 لا تفوّتوا الأحداث! الرابط في التعليقات
التعليقات لهذا الفصل " 45"