“حقًّا؟”
“بالطبع. تذكّر حين تحدثنا عن العقد قبل قليل؟ فلنكتبه. أعدك بأني لن أتحدث عن زوجتك الراحلة مطلقًا بعد الآن.”
قالت كورديليا إنها ستكتب عقدًا يمنعها من ذكر زوحة إدوين الراحلة أبدًا، في بادرةٍ منها تُعبّر عن اعتذارٍ صادق.
“أشكركِ على لطفكِ.”
ويبدو أن إدوين شعر بصدقها، فشكرها بدوره.
“أحضري ورقة وقلمًا.”
استدعت كورديليا الخادمة وأمرتها بإحضار الأدوات اللازمة لكتابة العقد. وما هي إلا لحظات حتى عادت الخادمة بالقلم والورق.
“اكتب ما تشاء.”
أمسك إدوين بالقلم الذي ناولته له الخادمة، وبدأ يكتب بخط أنيق وجمل منسقة.
تعلّقت عينا كورديليا بتلك الورقة، لا تدري أَتُسمّيها عقدًا قبل الزواج أم مذكرة سابقة لها، بينما كان إدوين يخطّ الأحرف بخطٍ رشيق وواثق.
“يهدف هذا العقد بين إدوين ترييد وكورديليا مايور روتشستر «المشار إليها فيما بعد بالأميرة كورديليا» إلى توثيق الشروط المتفق عليها قبل الزواج.”
“هلّا أخبرتِني بما تريدينه أنتِ؟”
كتب إدوين بندًا واحدًا فقط مما يريده هو، ثم رفع عينيه وسألها إن كان لديها ما ترغب في إضافته.
“اسمح لي بزيارة القصر الملكي في أي وقتٍ أشاء.”
“بالطبع. ذلك من حقّكِ كلياً يا جلالتك.”
كتب إدوين ذلك الشرط فورًا وكأنّه أمر بسيط لا يستحق التفكير.
“وهل يمكنني أن أُنفق من المال ما أشاء؟”
“هذا صعب.”
لكن هذه المرة ردّ بالرفض على ما قالته كورديليا وكأنها كانت تختبره.
“حتى وإن كانت أرباح شركة ترييد ضخمة، فلو رغبتِ بشراء مملكة كاملة، فذلك غير ممكن، يا جلالتك.”
وقبل أن تشعر كورديليا بخيبة الأمل من ضعف ثروة عائلة ترييد، بادرها إدوين بالكلام، وعلى وجهه ابتسامةٌ تدلّ بوضوح على أنه يمزح.
“لا تمزح معي.”
وبينما رمقته كورديليا بنظرة متجهمة غاضبة، ضحك هو بصوت خافت.
“يجب أن تمتلكي كلّ ما هو جميلٌ في هذا العالم. إن رغبتِ في شيءٍ، فاشتريه بلا تردد. وإن لزم الأمر فسأدعمكِ من مالي الخاص.”
كانت نيتها من كتابة العقد مواساته، لكن بدا وكأنها هي المستفيدة الوحيدة منه.
“حسنًا.”
بذلت كورديليا جهدًا كبيرًا لتثبيت ملامح فمها الذي كاد أن يرسم ابتسامة، إذ لا يليق بها أن تبدو بلا وقار.
“هل من شيءٍ آخر؟”
سألها إدوين بصوت هادئ، وكأنه مستعدّ لتلبية أي طلب يصدر عنها. فترددت كورديليا قليلاً قبل أن تقول:
“وعدني ألّا تكون لك عشيقة أو علاقة أخرى خارج الزواج.”
ما إن نظرت إلى وجهه المشرق تحت أشعة الشمس الدافئة حتى خطر ببالها ذلك القلق المفاجئ، فهي سمعت كثيرًا عن نساء تعانين من خيانة أزواجهن.
“لو فعلتُ ذلك، فسيحاول القصر الملكي قتلي.”
أجابها إدوين بمرح خفيف، وكأن قلقها الطفولي أضحكه، ثم كتب الشرط بكل هدوء على الورقة.
“كن مخلصًا لي وحدي.”
“هذا أمرٌ بديهي…”
“وأقصد بذلك أيضًا ألّا تُرهقني بسبب مشاعرك القديمة تجاه زوجتك السابقة. إن كنت لا تزال متألمًا بسببها، فامتناعي عن ذكرها لا معنى له أصلاً.”
تغيّر وجه إدوين قليلًا، فتلاشت ابتسامته الهادئة، وتساءل في نفسه إلى أي مدى تظنه بسيطًا. أما كورديليا فرفعت أنفها بشموخ.
“سأفعل.”
أجابها دون اعتراض، مضيفًا البند الجديد كشرطٍ فرعيٍّ في العقد.
“وأريد أيضًا ألّا تُجبرني على الحمل أو الإنجاب حتى أوافق أنا بنفسي.”
“الحمل والإنجاب، تقولين؟”
هذه المرة ارتبك حقًّا، وظهر الاضطراب على وجهه، حتى إن القلم في يده ارتجف قليلاً.
“أنا لا أحبّ الأطفال. إنهم صاخبون وأنانيون.”
“……”
“ثم إن الحمل يُفسد مظهر الجسد، والملابس لا تعود تلائمني، وهذا مزعج.”
قالت كورديليا بصراحة تامة، دون أن تُبالي بردّ فعله. كانت تدرك أن جمالها المتوهج وبشرتها الناعمة وجسدها المتناسق لن يدوم إلى الأبد، لذا رأت أن عليها الاستمتاع بما تملكه الآن.
“……”
صمت إدوين للحظة.
“لكن لا يمكننا ألّا ننجب وريثًا أبدًا، ولا يمكنني أن أقدّم لغيري ابنًا غير شرعي، لذا… لاحقًا، بعد زمنٍ طويل، إن أنا وافقتُ حينها، فليكن.”
أضافت كورديليا هذا الاحتمال البعيد، وهي تراقب ردّ فعله بحذر.
“صحيح، إن خسرتِ جمالك الآن، فذلك سيكون مأساةً وطنية.”
لم يلبث إدوين أن قبل طلبها بسلاسة، وكأنه لم يفكر أصلًا في إنجاب وريث بينهما. لذا شعرت كورديليا بشيء غريب، وكأنها هي من وُضعت في موضع محرج.
“هل يكفي هذا؟”
“نعم، هذا كل ما عندي.”
“إذن…”
“لكن، ماذا لو خالف أحدنا ما جاء في العقد؟”
لم يكن السؤال ضروريًا، لكنها طرحته رغم ذلك.
“ما رأيكِ أن يكون العقاب أن يُحقّق الطرف الآخر أمنية واحدة، أيًّا كانت؟”
“أيًّا كانت؟ حتى لو كانت سحب اللقب أو طلب الطلاق؟”
“نعم، أيًّا كانت.”
كان اقتراح إدوين بسيطًا وواثقًا، وكأنه لا ينوي أبدًا خرق بنود العقد أو خيانة كورديليا.
“في حال أخلّ أحد الطرفين بما ورد أعلاه، فعليه أن يُحقّق للطرف الآخر أمنية واحدة، أيًّا كانت.
غير أنّ فشل الالتزام الناتج عن تغيّر رأي الطرف الطالب للبند لا يُحمَّل الطرف الآخر مسؤوليته.”
نظرت كورديليا إلى العقد، فوجدته باردًا وجافًا أكثر مما ينبغي لعقدٍ يُفترض أن يكتبه عروسان. وبينما كانت تتردد أمام إحساس غامض، وقّع إدوين دون تردد على اسمه.
“……”
لقد فات الأوان للتراجع، فأمسكت بالقلم وكتبت اسمها بخط واضح تحت اسمه:
إدوين تِرييد – كورديليا مايور روتشستر
كان الاسمان متجاورين على الورقة.
***
في اليوم التالي مباشرة، تصدّر خبر زواج كورديليا وإدوين الصفحة الأولى من المجلة الأسبوعية.
“هل قرأتِ المقال؟”
“نعم! ما الذي يحدث بحقّ السماء؟”
كان عنوان المقال يقول إن الأميرة كورديليا، صاحبة أنقى سلالةٍ ملكية، قد وقعت في حبّ سريّ برجل من عامة الشعب، وقررت الزواج به.
ورغم معارضة عائلة روتشستر في البداية، إلا أن الأميرة أصرت قائلة إنها لن تتزوج أحدًا غيره، فاضطروا للموافقة في النهاية.
كانت القصة بعيدة كل البعد عن الواقع.
اهتزّ البلد بأسره. فمهما تراجعت هيبة العائلة الملكية، فإنها لا تزال من أعرق الأسر الحاكمة. كيف تُعلن الأميرة فجأة زواجها من رجل من عامة الشعب؟! كان من الطبيعي أن يُصاب الجميع بالذهول.
تملّك الارتباك أعضاء البرلمان بغرفتيه لأسباب مختلفة؛ فمجلس الشيوخ رأى أن هذا الزواج يُهين مكانة العائلة الملكية، بينما ذُهل مجلس النواب من جرأة القصر في مواجهة الشائعات بهذه الطريقة.
ومع ذلك، اتفق الطرفان على رأي واحد:
“يا إلهي، يبدو أن العالم انقلب رأسًا على عقب!”
لقد جُنّت عائلة روتشستر الملكية.
“هل كان بينهما أيّ صلة من قبل؟”
“يقول المقال إنهما التقيا عندما زار القصر لأجل صفقة توريد بين شركته والعائلة الملكية.”
لكن سيدات الطبقة الراقية وفتيات النبلاء اللواتي لا يُعنين بالسياسة وجدن في القصة مادة رومانسية مثيرة للحديث.
فقبل أشهر عدّة، عندما جاء إدوين إلى القصر لأجل عقد توريد، التقى مصادفة بالأميرة كورديليا التي كانت تتجوّل في الحديقة حين انكسر كعب حذائها، فارتبكت، وهناك بدأت قصتهما.
انجذب إدوين إلى خصلات شعرها الذهبي المتمايلة مع نسيم الربيع وإلى عينيها الزرقاوتين، بينما سُحرت كورديليا بعضلات ذراعيه القويتين وابتسامته الهادئة حين حملها بخفة بين ذراعيه.
قصةٌ أقرب إلى الحكايات الخرافية.
“كانت الأميرة صاحبة ذوقٍ رفيعٍ جدًّا، ولم نكن نعلم من قد يفوز بقلبها، لكنها اختارت أجمل رجال روتشستر!”
ومع ذلك، لم يصدق كثيرون من العارفين بكورديليا تلك القصة. ربما كان بينهما نوعٌ من الانجذاب، لكن الرأي الغالب أن كورديليا وقعت في حبّ وجه إدوين لا أكثر.
“هناك كثيرون سيشعرون بالخيبة.”
“بالفعل، فكم من الرجال تمنّوا الزواج من الأميرة كورديليا!”
كانت كورديليا الأميرة الوحيدة في العائلة المالكة التي بلغت سنّ الزواج، كما كانت تمثّل آخر فرصة أمام أبناء جيلها من النبلاء لنيل شرف الارتباط بالأسرة الملكية. لذلك ازداد الملك كبرياء وتعنتًا، ولم يكن ليسمح بسهولة بأن تؤول كورديليا إلى أيّ شخص.
ولو كان قد أدرك أن هذا التعنّت سيكون الشرارة التي ستؤدي في النهاية إلى زواجها من رجل من العامة، لربما كان قد بادر بالبحث عن زوج مناسب لها في وقتٍ أبكر.
“الآن بعد أن أعدتُ التفكير في الأمر، أليس هناك عدد غير قليل من النساء اللواتي كنّ يرغبن في أن يصبحن حبيبات لابن أسرة ترييد الأكبر؟”
وإلا، لما سمح الملك بدخول إدوين إلى القصر من الأساس، وهو الذي يُعرف بأنه أجمل رجال العاصمة.
“في الحقيقة، لولا أنه ليس من النبلاء…”
كانت السيدات النبيلات المجتمعات في غرفة الاستقبال يعبّرن عن امتعاضهنّ برفع أنوفهنّ وتحريك مراوحهنّ بخفة.
“ثم انظري إلى وجهه وجسده، يا إلهي… لو كنتُ مكانها، لتمسّكتُ به أنا أيضًا.”
قالت الكونتيسة أستن وهي تغطي فمها بمروحتها متنهّدة بأسف، فقد سبق لها أن حاولت التقرّب من إدوين لكنها قوبلت بالرفض.
“الكونتيسة أيضًا، حقًّا… قد يكون ممتعًا كحبيب فقط، لكن الأميرة تفوقه في كل شيء من حيث المكانة.”
في هذه الأيام صار الناس أكثر حذرًا، لكن كان من الشائع بين النبلاء أن يتّخذوا عشّاقًا. ومع ذلك، رفض إدوين اقتراح الكونتيسة بابتسامة لطيفة، دون أن يبدو عليه الندم، إذ لم يكن بحاجة إلى شيء، وإن بقي في قلب الكونتيسة بعض الأسف — لا لشيء سوى لعدم نيلها فرصة أن تكون حبيبته.
“صحيح، يُقال إنه زواجه الأول رسميًا، لكنه تزوّج من قبل.”
“وفوق ذلك، لا يملك أيّ لقب نبيل. إنه ليس حتى من نبلاء ساقطين، بل مجرد رجل من العامة. لقد جلب هذا الزواج العار للأسرة الملكية حقًا.”
الزواج بين الملكيين والعامة! مهما تغيّر الزمن واضطربت الأحوال، فقد ظلّ شرف العائلة يعني شرف الفرد ذاته.
“ربما الآن هما غارقان في نشوة حبّ وردي، لكن أليست الأميرة ستندم في النهاية مع مرور الوقت؟”
كان من المعروف أن الملك والملكة يدللان بشدّة الأميرة، ولا يرفضان لها طلبًا. ولعلّهما وافقا على هذا الزواج بعد عجزهما عن كسر عنادها، لكن عاجلاً أم آجلاً، سيكون الثمن دموع الأميرة المرة.
“بالفعل، في كلّ الأحوال.”
قرر نبلاء روشيستر أن يتابعوا المشهد المقبل — سقوطًا محتومًا ونهاية مشتعلة لحبٍّ وُلد ليحترق.
–
تابعو حسابي على الانستقرام @beecatchuu لمعرفة اخبار الروايات ومزيد من المحتوى
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
التعليقات لهذا الفصل " 4"