“عندما تكونين في مزاج كئيب، ابتاعي فستانًا أو جوهرة.”
لكن بعيدًا عن ذلك، كان لا بد من التخلص من هذا المزاج السيئ. وكان الملك دائمًا يعلّم كورديليا أن تنفق المال كلما شعرت بالكآبة.
“بمَ يمكنني خدمتكِ، سيدتي؟”
“فقط من هنا إلى هناك……”
أشارت كورديليا بإصبعها إلى الحُليّ المعروضة في الواجهة من أولها إلى آخرها، ثم توقفت عن الكلام. حتى الألوان البراقة المبهرة التي كانت تسحرها في العادة لم تثر اهتمامها اليوم. فبالرغم من محاولاتها لتجاهل الأمر، ظل ما حصل في الساحة يعاود الظهور في ذهنها.
“هاه…….”
تنهدت كورديليا بخفوت وضغطت بعُقدة يدها على عظمة حاجبها مرتين. ازداد تعكر مزاجها، حتى إنها بدأت تشعر بصداع قادم.
“سموكِ، أليس هناك ما يعجبكِ؟ هل ننتقل إلى مكان آخر؟”
فسّرت لينا، التي كانت بجانبها، تصرفها بطريقتها وسألت بحذر. أما الموظف، الذي خشي أن يفقد الزبونة، فاقترب سريعًا من كورديليا ليخرج جواهر ويبدأ في شرحها.
“سيدتي، ما رأيكِ بهذه الأقراط من اللؤلؤ؟ إنها من أجود الأنواع، ولونها فريد بالفعل.”
أدارت كورديليا رأسها بلا مبالاة. فهي لم تختلف كثيرًا عما تمتلكه مسبقًا.
“آه، أو ربما هذا؟ حصلنا عليه اليوم ولم يُصَغ بعد، ولكن بما أنكِ تبدين وكأنكِ تبحثين عن شيء نفيس على نحو خاص، فسأعرضه لكِ وحدكِ.”
وبمجرد أن بدت كورديليا على وشك التوجه إلى متجر آخر، أخرج الموظف علبة كان يخفيها. بدا أنه بدأ يشعر بالعناد بعدما أبت إبداء أي تفاعل مع معظم الجواهر.
“هذا…….”
“إنه حجر زمرد من أجود الأنواع. وبعد صقله سيبلغ وزنه عشرة قراريط على الأقل، وعندها سيكون منتجًا نُسعره كيفما نشاء.”
ازداد فخر الموظف عندما رأى ردّ كورديليا. ولم يكن ذلك غريبًا، فحتى دون اكتمال صقله، كان حجر زمرد بهذا الحجم نادرًا. وقد أسر حجره—الذي أخرجه كآخر ورقة رابحة—قلب كورديليا على الفور.
“ما رأيكِ؟”
“……إنه جميل.”
لأن الأخضر الصافي ذكّرها بعيني شخص ما.
“أريد استخدامه في بروش رجالي، هل هذا ممكن؟”
“بالطبع ممكن! هل لديكِ تصميم محدد في ذهنكِ؟”
“ليس حقًا. أظن أن أي تصميم سيكون مناسبًا.”
فبذلك الوجه تحديدًا، حتى لو ارتدى خيشًا، أو حُليًا صنعت من أدنى الجواهر جودة، فلن يلاحظ أحد.
“أرسلوه إلى منزل ترييد.”
وحتى مع ذلك، فإن استخدام الأشياء الجيدة يجعل المرء يشعر بتحسن. وافقت كورديليا بسرور على الشراء، وقدمت عنوان التوصيل. لحظتها اضطربت عينا الموظف فجأة.
“ن-نعم، يا صاحبة السمو.”
لقد أدرك للتو هوية الزبونة التي أمامه. فالوحيدة التي يمكنها طلب التوصيل إلى منزل ترييد، وفي الوقت نفسه لا يعرفها موظفو المتجر، هي كورديليا.
“وأيضًا، أعطني أقراط اللؤلؤ التي عرضتها قبل قليل. يمكنني أخذها الآن، صحيح؟”
“بالطبع، سيدتي.”
وبملامح من عثر على كنز قبل نهاية دوامه، انحنى الموظف مرارًا مودّعًا كورديليا وهو يقول إنه سيتوجه إلى القصر لتسليم الطلب.
لكن ما إن أنهت كورديليا التسوق حتى عادت ملامحها العابسة. كانت تشعر أنها تحسنت قليلًا عندما طلبت البروش، لكنها ما إن خرجت مجددًا من المتجر حتى عاد إليها الحزن. أخذت تفكر باستمرار بالكلمات التي وُجهت إليها وانتقدتها، فازدادت كآبتها وفقدت الاهتمام بكل شيء.
“سموكِ، هل تريدين رؤية شيء آخر؟”
“نعم.”
وبينما كان الموظف يلفّ الحُليّ بحماس، توجهت كورديليا مع لينا إلى المتجر المجاور، واشترت جميع القبعات المعروضة. ثم—بوجه خالٍ من التعبير—اشترت أيضًا ملابس جاهزة لم تكن ترتديها عادة.
ولم تتوقف عند ذلك؛ فبعد خروجها من المتجر، توجهت إلى بوتيك قريب واشترت كل تصاميم الفساتين والأقمشة. أما المصمم، الذي أصبح بدوره مثل عامل منجم وجد ذهبًا قبل نهاية يومه، فانحنى مرارًا مؤكدًا أنه سيزور القصر قريبًا.
“هل تريدين العودة إلى القصر الآن؟”
سألت لينا بحذر، محاولة قراءة مزاج كورديليا بعد جنون التسوق. فأومأت كورديليا بخضوع.
“وأين العربة؟”
“إنها بانتظارنا أمام الباب.”
قالت لينا وتقدمتها. تبعتها كورديليا بوجه بلا تعبير. وما إن فتحت باب البوتيك وخرجت حتى—
“…….”
هبّت ريح من الخلف، فحرّكت خصلة من شعرها المتدلي بجوار أذنها وحجبت رؤيتها. رفّت كورديليا بعينيها وهي ترفع رأسها.
وفي الموضع الذي اختفت منه خصلة شعرها، رأت—وكأنه مشهد من الخيال—رجلاً يقف أمام العربة.
“……إدوين؟”
تحت السماء التي بدأ الظلام يتسلل إليها، بدا جميلاً كلوحة فنية حتى تحت ضوء الشارع الوحيد. كان إدوين.
“سموكِ.”
ابتسم هو الآخر عندما رأى كورديليا.
“ما الذي تفعله هنا؟”
خرج صوتها مصدومًا قبل أن تستطيع التفكير. هرولت بخطوات صغيرة إلى جانبه.
“لقد تركتِ القبعة.”
رفع إدوين قبعة كورديليا التي كان يحملها في يده. نظرت كورديليا إلى يده أولًا، ثم رفعت بصرها مجددًا إلى وجهه، لأنها كانت تعلم أن ذلك مجرد ذريعة.
“…….”
فمهمة بسيطة مثل إيصال القبعة لم تكن بالأمر المهم. كان بإمكانه إعطاءها لسكوت، أو لأحد الخدم، أو حتى انتظار عودتها بعد انتهاء عمله. كانت لديه طرق كثيرة غير ذلك.
“هل فزعتَ لأنني اختفيت فجأة؟”
إذن فقد أقلقه اختفاؤها المفاجئ. تسللت الدغدغة إلى قلبها عند هذه الفكرة.
“ضعها لي.”
ونسيَت—وقد غابت الشمس بالفعل—أنها لم تعد تحتاج إلى القبعة. لكنها طلبت منه وضعها لها على أي حال.
رفع إدوين حاجبًا بدهشة من الطلب غير المتوقع، ثم ضحك بخفوت.
“إذن لستِ أميرة، بل ملكة.”
همس بصوت منخفض وهو يضع القبعة على رأس كورديليا، ثم أمسك بشريط الدانتيل ليعقده تحت ذقنها. كان صوت أصابعه الطويلة الجميلة وهي تحتك بالدانتيل يلامس أذنَي كورديليا برقة، فشعرت بسخونة غريبة في أذنيها.
“لو أردتُ ذلك حقًا، لكان الأمر ممكنًا.”
“……”
“وعندها كنتَ ستعاملني دومًا بكامل الاحترام.”
عندما ردّت بجرأة، ضحك إدوين بخفوت. ربما كانت تقصد أن ذلك مستحيل مادام لورنسن حيًا، لكن ضحكته الخفيفة التي لم تُصدر صوتًا كاملاً بل حرّكت الهواء من حولها فحسب—كانت تدغدغها. رفعت كورديليا ذقنها قليلاً بلا سبب.
فمدّ إدوين يده بلا تردد—وكأنه انتهز الفرصة—وعقد شريط القبعة بسرعة تحت ذقنها.
“انتهيت، يا سموكِ.”
قالها وهو يعدّل وضعها بثبات.
“الآن بعد أن أعدت لي القبعة… هل ستعود إلى مكتبك؟”
سقطت يده من على الشريط، والتفت ليقودها نحو العربة، لكن كورديليا سألته وهي تحدّق بظهره:
“لقد تأخر الوقت، لذا يجب أن نعود إلى المنزل.”
“معًا؟”
“بالتأكيد… فقد كان يومكِ طويلاً، يا سموكِ……”
التفت إدوين نحوها وهو يجيب بلطف. كانت المصابيح من خلفه تومض باضطراب، وكلما خبت وأضاءت انعكس الضوء الأبيض على وجهه قبل أن يختفي من جديد.
“هل علمت؟”
ابتسم إدوين بصمت ردًا على سؤال كورديليا المباشر. كان معنى ذلك أنه عرف ما حدث لها اليوم—فقط من كونه قد جاء يبحث عنها بهذه السرعة.
إذن، ما إن علم بما حدث، حتى أتى إليّها مباشرة. لأنه ظن أنها ستكون حزينة وكئيبة. ‘لأنه قلق على قلبي…’
ومع هذا التفكير، اجتاحها شعور غريب. أصبح سمعها ثقيلاً فلم تعد تسمع صوت لينا بوضوح. لم ترَ سوى إدوين وسط الضوء المتقطع.
“سموكِ؟”
لم تستطع احتمال هذا الشعور المجهول، فأغمضت عينيها بقوة.
“هل تشعرين بعدم الارتياح؟”
اقترب إدوين منها دون أن تدري، ورفع جانب وجهها بلمسة حذرة. فتحت كورديليا عينيها ولم تعد قادرة على المقاومة.
“يا إلهي، الضوء…….”
طَقّ—ومع صوت غير مريح—انطفأ الضوء تمامًا. وبالتزامن مع سماع صوت لينا تتمتم بذهول، عاد مصباح الشارع ليضيء من جديد. ظهر وجه إدوين بوضوح، وبشكل شديد الإشراق.
“إن كنتِ تشعرين بوعكة ما، فسأبلّغ بأن يكون الطبيب الخاص بانتظاركِ قبل عودتكِ.”
هذه المرة شعرت كورديليا وكأن قلبها يهبط. وضعت راحة يدها فوق صدرها تحاول تهدئة اضطرابها.
“لا، ليس الأمر أنني أشعر بعدم ارتياح……”
ومع ذلك، تلاشى صوتها في نهايته. كانت تعلم أنها ستبدو حمقاء بعض الشيء، لكنها لم تستطع التحكم بنفسها. فلم تتمكن من النظر إلى إدوين مباشرة، وأخذ بصرها المرتبك يهبط نحو الأرض بلا استقرار.
“الآن حالاً…….”
“لا، لا بأس. أنا بخير.”
قاطعت كورديليا كلام إدوين، الذي كان يهمّ بأن يأمر بإحضار الطبيب، وهزّت رأسها. ثم رفعت طرفي شفتيها بصعوبة محاولة رسم ابتسامة متكلفة. لم تكن مريضة، لذا لم تكن بحاجة إلى طبيب. كانت فقط قد عرفت اسم هذا الشعور.
لقد أحبّت إدوين.
صحيح أنها كانت تحب الأشياء الجميلة وتجمعها، ولهذا وجدته جذابًا منذ البداية، لكن من دون أن تنتبه أصبحت تحبه حقًا. لأنه دائمًا من يتراجع أولاً بعد الشجار ويحضنها. لأنه الرجل الذي يركض إليها كلما حدث لها شيء.
إنها تحبه. كورديليا ماير روتشيستر تحب إدوين ترييد. لم تستطع إنكار هذه الجملة القصيرة.
***
بدأت العربة، التي تقلّ الاثنين، تتحرك بسلاسة.
“سمعتُ متأخرًا عمّا حدث في الساحة المركزية.”
“…….”
شعرت كورديليا بشيء من الحرج، فظلت تحدق في أرضية العربة كأنها تريد أن تخترقها بنظرها. عندها تحدث إدوين ثانية.
“لماذا لم تخبريني بذلك حينها؟ لو علمتُ، لكنتُ تعاملتُ مع الأمر بسرعة أكبر.”
“لم تكن سوى شائعات سخيفة تنتشر هنا وهناك.”
وتذكرت كورديليا أخيرًا الأمر الذي كانت قد نسته تمامًا. فبعد أن أدركت أنها تحب إدوين، صار ذهنها صافٍ بالكامل، حتى إنها نسيت الحزن الذي شعرت به بسبب ما جرى في الساحة.
“ولكن الأمر أزعجكِ، أليس كذلك؟”
صحيح. لدرجة أنها كادت تشتري المتجر بأكمله.
ترددت كورديليا في الرد، وأطرقت برأسها وهي تحرك قدميها في حذائها بارتباك.
فإن كان السبب سابقًا هو كبرياؤها، فالسبب الآن هو الخجل من إظهار غبائها أمام الرجل الذي تحبه.
“إن الحفاظ على حياة هادئة لكِ هو حقك وواجب زوجكِ، لذا إذا حدث أي شيء، يجب أن تخبريني بدون إخفاء الأمر.”
“…….”
“لكي لا أبدو أحمق.”
لكن كلمات زوجها كانت لطيفة جدًا لدرجة أنها لم تستطع تجاهلها أكثر.
“ذهبتُ لشراء هدية أُرفقها برسالة للسيدة ليمونت، وبينما كنت في الساحة، كان الناس يتهامسون وهم يحملون صحيفة مليئة بالشائعات الكاذبة.”
“…….”
“تمامًا كما قلت، كانوا ينتقدونني وينتقدون العائلة المالكة. وعندما رأيت ذلك، صُدمت… لذا ذهبتُ للبحث عنك.”
نشرت كورديليا كلماتها كمن يشعر ببعض اليأس حين تذكرت ما حدث.
التعليقات لهذا الفصل " 39"