ضربت صاعقة. وبينما كانت كورديليا تغفو نصف غفوة، استيقظت على صوت يهزّ الأرض، فشهقت وهي ترى تحت الوميض الأزرق الخاطف ظلاًّ بشريًا ينكشف بوضوح، فصرخت فزعًا.
“سموك، إنّه أنا.”
فُتِح الباب برفق دون ذلك الصوت المزعج المعتاد عند فتحه. ويبدو أنها لم تدرك صوت دخـول إدوين لأن الباب انفتح بسلاسة.
“أنا إدوين.”
كورديليا، التي فزعت لدرجة أنها سقطت من السرير وارتطمت مؤخرتها، زحفت إلى الخلف وهي تنتحب بخفوت. بدا الأمر كأنه ردّة فعل انعكاسية، لأنها لم تستوعب جيّدًا ما قاله من شدّة الخوف.
“……إدوين؟”
“نعم، إنه إدوين خاصتك.”
اقترب إدوين بحذر من كورديليا. ثم كشف عن نفسه ليطمئنها. كورديليا، وقد أُزيح عنها الخوف والتوتر دفعة واحدة، ارتجفت شفتاها.
“فـ… فزعت….”
ويبدو أنها كانت مذعورة لدرجة لم تستطع معها إتمام جملتها.
“لا بأس، تنفّسي جيدًا يا سموك.”
كانت تتنفس باضطراب، كطفلة صغيرة ينعقد نفسها وهي تبكي، حتى بدا وكأنها ستفقد وعيها. جثا إدوين على ركبة واحدة كي يصبح بمستوى نظرها، وجلس معها على الأرض، ثم بدأ يربّت على ظهرها بانتظام.
“هُه….”
ومع انتشار الدفء تدريجيًا من حيث لامست كفّه ظهرها، بدأ صدر كورديليا يستعيد إيقاعه الطبيعي. وحين شعر إدوين بذلك، سحب يده قليلاً وأبعد جسده.
في تلك اللحظة ومضة جديدة تُضيء، وصوت الرعد يهزّ الأرض بقوّة. كورديليا، مذعورة حدّ الهلع، اندفعت بلا تفكير إلى أحضان إدوين.
“لا بأس.”
كرّر إدوين طمأنتها مرات عديدة. لكن مهما قال، بدا جليًا أن كورديليا لن تهدأ بينما الرعد يزمجر والبرق يضرب بعنف.
تنفّس إدوين بصوت منخفض. وعندما لامس تنفّسه أذنها، انتفضت كورديليا قليلاً وشدّت ذراعيها حوله بقوة أكبر، كأنها تخشى أن يتركها.
“سأنهض، فلا تفزعي.”
ضمّ إدوين ظهرها بذراع، وبالأخرى حملها من أسفل خصرها. تمامًا كما فعل حين حملها خارج القاعة التي تجمع فيها الخدم. لكنها الآن لم تُبدِ أي مقاومة.
“سموكِ.”
كان ذلك حسنًا. جلس إدوين على حافة السرير وهو يحتضن كورديليا كما يحتضن طفلاً. ومع ذلك لم يستطع الابتعاد عنها؛ لأن كورديليا كانت تعانق عنقه بإحكام، رافضة تركه.
“أخاف… رأيت كابوسًا، ثم البرق والرعد…. عندما أضاء الضوء أمامي رأيت شيئًا غريبًا….”
ليتها فقط تتركه. فكّر إدوين هكذا وهو يطالع رأس زوجته اللامع الملتصق بصدره كصغير كوالا.
ذراعاها النحيلتان حول عنقه، ودفء أنفاسها الرطبة حيث دفنت وجهها، وامتلاء جسدها المضغوط عليه.
لم يكن ينوي الاقتراب منها جسديًا، أو لم يكن الظرف مناسبًا، فهذه أمور تُحرِج أي رجل. ووضعهما الآن لا يندرج ضمن “ظرف مناسب” بأي شكل.
“سموكِ، الآن….”
لكن ردود الفعل الجسدية لا تتبع الإرادة في معظم الأحيان. وما إن همّ بإبعادها قليلاً حتى رفعت كورديليا وجهها ونظرت إليه. لم تتوسل إليه وهي تبكي كي لا يغادر، لكن عينيها المغمورتين بالخوف قالتا كل شيء.
“هل ستغادر؟”
“ألستِ لا ترغبين بالبقاء معي؟”
اتّسعت عينا كورديليا دهشة من سؤاله الخافت. وصوت المطر الذي كان يختفي خلف الرعد، تولّى ملء الصمت الذي حلّ.
“ظننتُ أنكِ غاضبة مني أيضًا.”
“هذا صحيح، ولكن….”
“إذًا، هل زال غضبكِ؟”
نظرت كورديليا إلى إدوين وهي تحرك شفتيها. كانت لا تزال غاضبة، لكنها مترددة. فمن الصعب أن تقول نعم، وصعب أن تقول لا. كانت صادقة مثل جفونها الحمراء المنتفخة من البكاء، غير قادرة على الكذب.
“وإن قلتُ إنني لا أزال غاضبة، فهل ستغادر؟”
سألت بعد لحظة صمت. كان في صوتها شيء من الضيق.
“هذا يزعجني. إن كنتَ تستخدم خوفي لتتفاوض معي، فاخرج فورًا.”
“يكفي أنكِ تغضبين بمجرد رؤية وجهي. لذلك أغلقتِ الباب عليكِ، أليس كذلك؟”
“وأنت بدورك، تجاهلتني تمامًا عندما عدتَ من العمل!”
تصرفاته اللاحقة جعلتها أكثر غضبًا. المرأة—وزوجته تحديدًا—كانت كائنًا عصيّ الفهم.
“اعتقدتُ أن هذا ما تريدينه. بدلاً من إثارة غضبكِ ببقائي قربك، يفضَّل أن أبتعد حتى تهدئي.”
“كنتُ منزعجة فقط من رؤيتك. لم تعتذر حتى لأنك شككت بي.”
كان جوابها صريحًا. يا لثباتها… رأى إدوين أن كورديليا مذهلة بطريقة ما. لكنه لم يُظهر ذلك؛ فمرة واحدة كافية ليدمر كل شيء بسبب صدقه الأحمق.
“لقد أخطأت.”
كان الوقت مناسبًا للمصالحة، واستغلال الفرصة السانحة.
“وأعلم أنّه عذر، لكنني جئت لأعتذر وأدعكِ تفعلين ما تشائين… إلا أنني وجدت الباب مقفلاً.”
أمعن النظر في يدها المرتجفة وهي تدفعه. كانت تحاول إبعاده بكبرياء، وفي الوقت ذاته تخشى البقاء وحدها.
فهي لا علاقة طيبة لها بالخدم، ولا تملك وصيفة، وغالبًا قد تشاجرت مع الليدي ليمونت أيضًا.
كانت كورديليا ترتعب من الكوابيس والبرق لأنها تفتقر لشخص تتكئ عليه.
“هرب رئيس الطهاة خوفًا من المساءلة، وطُردت كبيرة الخادمات لأنها كانت مهملة. أمرٌ طبيعي. وأنا أعرف أنه من لا يؤدي عمله كما يجب، يُطرَد بحق.”
كان بوسعه تخيل مدى الامتنان الذي قد يشعر به المرء حين يكون هناك شخص واحد فقط يمد إليه يد المساعدة. وكان يعرف أن الخدم يتفادونها، ومع ذلك ترك الأمر كما هو.
“لكنّ اقتران إمرأة نبيلة بي لم يكن إلا لحماية شرف العائلة الملكية وإثبات صدق العهود…. خشيت فقط أن يشوه هذا الحادث صورة العائلة المالكة.”
انتظر إدوين حتى تصبح نفسية كورديليا أكثر هشاشة ونعومة من المعتاد. فهي بمجرد أن تدرك ما هو منطقي… تنهار.
كورديليا، المرهفة اليوم أكثر من السابق، بدأت عيناها تتذبذبان بصوت إدوين اللطيف. فهي رغم أنها أميرة مدللة تهتم بمشاعرها أولاً، إلا أنّها تفهم تمامًا معنى مسؤوليات أفراد الأسر الملكية.
“لكنّك زوجي. لم يكن عليك الشك بي.”
“لم أقصد ذلك. ولن أكرر ذلك مستقبلاً.”
زمت كورديليا شفتيها.
“ابـ… بقَ هنا الليلة.”
يا لها من أميرة مدللة حتى في لحظات المصالحة. رغم أنها استقبلت اعتذاره، فإن الألم ما زال بداخلها، وهي لا تريد مصالحة كاملة متسرعة فقط لأنها خائفة.
لو كان إدوين يتبع طبيعته، لرفض وقال إنها ليست بحاجة إليه بعد. لكنه لا يستطيع فعل ذلك مع أميرة. ولو غادر الآن، فلن تتمسك به بسبب كبريائها، لكنها ستحتفظ بهذا الجرح طويلاً.
“إدوين؟”
إذن، لم يكن أمام إدوين سوى جواب واحد. لكنه وقبل أن ينطق، رأى وميضًا عبر النافذة. وسيأتي الرعد بعد ثوانٍ.
“سأفعل.”
فالصرخة القادمة ستؤذي أذني على الأرجح.
واحتضن إدوين رأس كورديليا بقوة. فتحت عينيها دهشة ودفنت جبينها في صدره.
ومع وميض ورعد جديدين، ارتجفت قليلاً، لكنها لم تفزع كما حصل من قبل. بل اقتربت أكثر منه بهدوء. وقد احمرّت أذنها بين خصلات شعرها الذهبي.
“سأقبل عرضك. بشرط أن نكتب عقدًا مع محامٍ بعد عودتي من إستانا.”
كانت الأميرة الصغيرة ما تزال حسّاسة وضعيفة. غير قادرة على تمييز من يقترب منها بنوايا مظلمة. وغير محظوظة لأنها تزوجت رجلاً قد يستغل ضعفها.
لكنّه لم يختر ذلك الزواج، لذا قرر ألا يشعر بالشفقة عليها أيضًا.
التعليقات لهذا الفصل " 35"