اكتفى إدوين بالقاء تحية عودته عن طريق إحناء رأسه لكورديليا. كان ذلك كلّ شيء. لكن بسبب هذا التصرف، شعرت كورديليا بغصّة لا تُوصَف، وأصابها جرح في كبريائها.
لم تُظهر أيّ مشاعر علناً، لكن بدا أنّ إدوين قد أحسّ غريزيا، بالأجواء الملتبسة التي تغيّرت فور ظهورها. يا لِسخف مظهرها بمجرد أن بدت كالمنبوذة بين الخدم فحسب.
فكّرت كورديليا بتلك الطريقة، فلم تكتفِ برفض تلقي تحيته، بل صرفت نظرها عنه تمامًا.
لم يتصرف إدوين بارتباك، بل صعد الدرجات الأخيرة بهدوء ثم مرّ بجانب كورديليا. وبينما كانت عيناها معلّقتين به وهو يمرّ قربها، كان خدم الملحق يخفضون أصواتهم ويتفرقون في لحظة واحدة، ثم اختفوا تمامًا.
“……سموك؟”
وهكذا لم يتبقَّ سوى كورديليا ولينا في الممرّ المتصل بالطابق الأول. على عكس ما كان عليه الحال في القصر الملكي، حين كانت تمضي وقتًا صاخبًا وممتعًا بين الكثير من الناس.
وبالواقع، عندما فكرت في الأمر، كان الأمر هكذا منذ وصولها إلى قصر ترييد.
“……أريد فقط العودة إلى غرفة النوم والراحة.”
وما إن أدركت تلك الحقيقة، حتى شعرت بوحدة مباغتة.
“إذن، سأساعد سموك في الاستعداد للنوم.”
“لا، أريد فقط أن أرتاح. أفضّل أن أبقى وحدي.”
رفضت كورديليا مساعدة لينا ثم استدارت. شعرت بنظرات لينا القلقة تطاردها، لكنها لم تملك القوة لتقول إنها بخير، فتجاهلت الأمر فحسب.
كانت تعرف أنّ إظهار مثل هذه المشاعر أمام خادمة صغيرة ليس بالأمر المناسب. لا يمكنها أن تنفجر بالبكاء وتقول إنها وحيدة أمام طفلة ترعاها. كان ذلك أمرًا بالغ القبح.
“…….”
لكن الحزن كان أقوى منها.
عادت كورديليا إلى غرفة نومها، وارتقت السرير وهي تشهق بخفوت. تحركت أطراف فستانها الخفيف بصوت خافت، لكن حتى فكرة تغيير ملابسها الى ملابس النوم لم تخطر ببالها. كل شيء بدا مرهقًا، وما إن وضعت رأسها على الوسادة، حتى تساقطت دموعها، مُبَلِّلة الوسادة.
سواء كانت أميرة أم لا، فلا يمكن لأحد أن يربح معركة جماعية نفسية بمفرده. لا سيما حين يبدو الطرف الآخر ظاهريًا وكأنه ينحني حدّ الالتصاق بالأرض لمسايرتك.
كانت تشعر بالظلم، القهر والحزن.
‘لماذا يفعل الجميع هذا بي؟ لم أكذب على أحد. لم أقترف ذنبًا……’
“كيف يتظاهر وكأنه لا يرى؟”
سرعان ما تحوّل الشعور بالظلم والحزن إلى غضب. وكان النصيب الأكبر منه موجّهًا نحو إدوين.
كيف يقول أنها لامتهم واعتبرتهم مذنبين بينما هي نفسها نسيت إخبارهم؟ كيف يمرّ بجانبها، وعيناه تلتقيان بعينيها، ثم يعبر دون أن ينطق بكلمة، كأنه غريب عنها؟
“كيف يمكنه أن يفعل ذلك بي؟”
أليس زوجها؟ أم أنّه كان زوجًا لأنه انحاز للآخرين؟
حين خطرت لها تلك الفكرة، زاد كرهها لإدوين. انكمشت على السرير، وظلت تبكي وحدها طويلاً، إلى أن بدأت شهقاتها الحزينة تخفت تدريجيًا مع سكون هواء الليل. وكذلك اهتزاز كتفيها النحيلين.
***
بعد أن أنهى إدوين استحمامه في الحمّام المتصل بغرفة الضيوف، مال جسده بلا وعي نحو غرفة نومه. كان ذلك خطأ؛ فقد كان يفكر في كورديليا التي صُدِمت بعدما تُركت وحيدة وسط تجاهل الجميع.
“…….”
لا بد من المصالحة.
تحركت عيناه نحو باب غرفة النوم. كان الباب مغلقًا بإحكام، والجو هادئًا بشكل خانق. كان بإمكانه أن يشعر بالجو البارد الذي خلّفته محاولة الجميع قراءة مزاج كورديليا وخفض رؤوسهم. كانت لا تزال غاضبة، بلا شك.
كيف يمهّد لذلك؟
تنهد إدوين بخفوت، ثم استدار نحو المكتبة الواقعة في الاتجاه المعاكس لغرفته. صادفه خادم كان يحمل الشراب، فحيّاه بانحناءة.
“هل أفتح النافذة؟”
في هذا الوقت المتأخر، لا يطلب إدوين الشراب إلا إذا كان يريد تدخين سيجار. ولأن الخادم يعرف ذلك، بادر بالسؤال. فأومأ إدوين بلا مبالاة، وفتح درج المكتب وأخرج علبة السيجار.
“سأنسحب الآن.”
فتح الخادم نافذة المكتبة بسرعة وكفاءة، وربط الستائر حتى لا تتطاير، ثم انحنى مودعًا.
“آه.”
أوقفه إدوين بصوت قصير. التفت الخادم بقلق، متسائلاً عمّا إذا كان قد أخطأ في شيء.
“إن لم يكن بنجامين قد نام بعد، فأخبره أن يأتيني قليلاً.”
فهم الخادم أنه لم يُستدعَ للتوبيخ، فأشرق وجهه قليلاً وغادر.
بقي إدوين وحده، فقطع طرف السيجار وأشعل النار ورفعه إلى فمه. ثم فتح زجاجة الشراب التي أحضرها الخادم. لم يكن لديه يدان شاغرتان، فعلق السيجار على طرف شفتيه دون اهتمام.
امتلأ الكأس الكريستالي الشفاف بالشراب الكهرماني بنعومة. نقل إدوين السيجار من فمه إلى يده، ورفع نصف الكأس نحو شفتيه. وهبط السائل عبر حلقه ببطء، ناشرًا حرارة لطيفة في جسده. فاسترخى بدنه المشدود قليلاً.
“…….”
ربما كان يجب تأجيل هذا واستدعاء بنجامين لاحقًا.
زفر إدوين دخان السيجار ببطء، متحسّرًا على قراره.
وفي تلك اللحظة، بدأت قطرات تصفع النافذة بصوت متواصل. بدا أن الجو كان ينذر بالمطر، وها هو ينهمر فعلاً. نظر إدوين نحو الخارج، يراقب الماء وهو ينحدر على أوراق الأشجار بلا اهتمام.
“سيدي إدوين، بنجامين حضر.”
كان يشعر أن النوم قد يغلبه بسهولة الآن، بعد يوم مرهق وشراب وسيجار. لكن الضيف غير المرحّب به وصل.
“ادخل.”
فتح بنجامين الباب بحذر ودخل المكتبة. رغم تأخر الوقت، كان يرتدي ملابس مرتّبة كما لو كان في وقت العمل.
“بلغني أنك طلبت حضوري.”
كان بنجامين شخصًا يحمل إحساسًا قويًا بالواجب والفخر تجاه مهنة كبير الخدم، لذلك لم يكن غريبًا عليه ارتداء ملابسه الرسمية حتى في هذه الساعة.
“لم أكن موجودًا منذ بداية الاستجواب، فأردت التأكد من أمر واحد.”
سأل إدوين بينما يدحرج الكأس في الهواء. صوت مكعبات الثلج الملتمسة لبعضها ملأ الصمت بين كلماته.
“هل صحيح أنّ جلالتها لم تُعطِ أي تعليمات على الإطلاق؟”
لم ينظر إدوين إليه وهو يسأل. بدا وكأنه غير مهتم بالحقيقة أصلاً، وظل يحرّك الكأس بلا مبالاة.
لكن بنجامين كان يعرف إدوين بقدر ما خدم في قصر ترييد. لو لم يهتم إدوين فعلاً، لما استدعاه أصلاً، ولم يكن ليتظاهر باللامبالاة وهو يحرّك كأسه.
“……أتذكّر أنها طلبت مني إرسال الدعوات، لكني لا أتذكر شيئًا آخر.”
أجاب بنجامين بأكبر قدر من الهدوء. مشيرًا بذلك إلى أنه سمع ما طلبته منه كورديليا، لكنه لم يتذكر ما قيل لرئيسة الخادمات.
“حسنًا. يمكنك الانصراف. أعذرني على استدعائك في وقت متأخر.”
“لا بأس. أتمنى لك ليلة هانئة.”
“وأرجو منك، كي لا تتكرر هذه الأخطاء، أن تكون أكثر حرصًا في خدمة جلالتها.”
“نعم.”
غادر بنجامين بعد انحناءة محترمة. قبل أن يُغلق الباب، كان إدوين قد حوّل نظره عنه واستنشق من سيجاره مرة أخرى.
وبالنظر إلى حالة كورديليا وطبيعتها، لم يكن ثمة داعٍ للتشكيك في أنها لم تُعلم الخدم بخصوص تعليمات حفل الشاي. من غير المنطقي استبعاد ذلك.
ربما كانت تبحث عن مهرب.
أفرغ إدوين الكأس دفعة واحدة ووضع السيجار في المنفضة.
استطاع، من خلال حديث قصير، أن يرى بوضوح نيّة بنجامين، لكنه لم يفكّر مطلقًا في طرده. كان بنجامين يخدم القصر منذ زمن طويل. صحيح أنّ ما فعله ليس أمرًا يمكن التغاضي عنه حتى بالمزاح، لكن لرجل في منتصف العمر لم يكن يتوقع أن تؤول الأمور إلى هذا الحد… ربما يستحق فرصة واحدة.
“…….”
وفي تلك اللحظة، سطع البرق فجأة، ثم انهمر المطر بغزارة. وبعدها بثوانٍ قليلة، أخذ الرعد يهدر ويزلزل الهواء.
وبينما كان إدوين يسير نحو النافذة لإغلاقها كي لا يدخل المطر، أمسك بمقبضها—وإذا بصراخ مذعور يخترق أذنيه. صرخة كمن رأى شبحًا، حادّة ومروّعة.
“…….”
هل عليه الذهاب لرؤية ما يحدث؟
نظَر إدوين إلى البرق الذي شقّ السماء. وبصراحة، كان يرغب بالراحة الآن؛ فقد تأخر الوقت.
“هاه…….”
لكنّه لم يستطع تجاهل الأمر. في النهاية، كان هو من يحتاج إلى تعديل الوضع.
التعليقات لهذا الفصل " 34"