كان آرون قد دخل إلى غرفة الطعام كعادته ليتناول فطور الصباح قبل ذهابه إلى العمل، لكنه بدا وكأنه لمح أجواء غير مألوفة، فسأل السيدة ليان.
“يبدو أنك تعتقد أنه وبسبب عدم مقدرة رئيس الطهاة على الحضور إلى المطبخ اليوم، بات الفطور ناقصًا.”
أجابت السيدة ليان ببرود، وكأن الأمر لا يستحق الاهتمام. لكن الجو البارد الذي خيّم على غرفة الطعام كان واضحًا حتى لرجل مثل آرون ممن لا يهتمون بشؤون المنزل عادة. فألقى نظرة على هايلي، وكأنه يطلب منها تفسيرًا.
“حدثت بعض المشاكل في حفلة الشاي أمس، يا والدي.”
“…….”
“يُقال إن سموّ الأميرة كانت غاضبة بشدة، فأمرت رئيس الطهاة وكبيرة الخادمات بمغادرة المنزل فورًا. لذا نصحتُهما بأن يتجنّبا الظهور لبعض الوقت.”
كان شرح هايلي، التي تخفض جناحها دائمًا أمام آرون والسيدة ليان، مختصرًا لكنه كافٍ لفهم ما جرى، وإن لم يكن محتوى الشرح سارًّا.
“وما الذي حدث بالضبط؟”
رفع آرون إحدى حاجبيه بعد سماع موجز ما حدث. فعلى الرغم من أن كورديليا كانت أحيانًا مدللة بعض الشيء، إلا أنها في الغالب لطيفة. فإن كانت قد غضبت إلى هذه الدرجة فلا بد أن لذلك سببًا.
“يبدو أن مربّية سموّ الأميرة كانت تعاني حساسية تجاه نوع معين من الطعام. لكن رئيس الطهاة وكبيرة الخادمات لم يكونا على علم بذلك.”
والأدق أن كورديليا أخبرتهما بذلك لكن لم يعر أحد كلامها اهتمامًا، فحدثت الكارثة. هكذا فكّر آرون بموضوعية. لكن هايلي سارعت إلى الدفاع عن رئيس الطهاة وكبيرة الخادمات، مدّعية أن الحادثة لم تكن إلا مجرد صدفة.
“من الطبيعي أن تغضب. مثل هذا لا يحدث في القصر الملكي.”
كان موقف آرون واضحًا وسهلاً إذن. فقد دافع عن غضب كورديليا، مشيرًا إلى أن هذا النوع من الإهمال مستحيل في القصر.
“كيف يمكنك قول ذلك؟”
فجأة، ردّت السيدة ليان بنبرة لاذعة.
“رئيس الطهاة وكبيرة الخادمات عملا في منزل ترييد لأكثر من عشر سنوات. لقد كانوا فقط غير معتادين على خدمة سيّدة جديدة، فكيف يمكنك تقييم أشخاص خدمونا بكل إخلاص طوال تلك المدة بهذه الطريقة؟”
وبّخت السيدة ليان زوجها بعصبية، متهمةً إياه باللامبالاة التي قد تجرح الخدم كثيرًا. وكأنها تصب غضبها عليه لتعذّرها عن صبه على كورديليا نفسها.
“ثم إن الحكم على أخطاء الخدم واتخاذ قرار بشأنهم هو من صلاحيات صاحب هذا المنزل.”
“…….”
“ومهما كانت الأميرة من العائلة الملكية، فلا يمكنها أن تصبح صاحبة هذا المنزل طالما لم يحدَّد الوريث بعد. إن أرادت إبلاغك بحاجتها للتصرف بشأنهم، فذلك أمر، لكن أن تأمرهم بالخروج مباشرة؟ هذا غير مقبول.”
لم تكن كلمات السيدة ليان خاطئة. أطلق آرون تنهيدة ضجرة.
“حتى إن السيدة ليمونت قالت إنها بخير وطلبت نسيان الأمر، لكن سموّ الأميرة قالت إنها لا تستطيع ترك المسألة تمرّ هكذا.”
“…….”
“وكأنها أصبحت سيدة منزل ترييد! هل يبدو لك هذا منطقيًا؟”
قهقهت السيدة ليان بسخرية، وكأن كل تصرف من تصرفات كورديليا مثير للدهشة.
“هذا ليس تجاهلا لي فقط… بل لك أنت أيضًا، يا آرون.”
“هذا مبالغ فيه.”
“لو كانت أميرة اعتادت النظام والتراتبية، فمن المستحيل ألا تعرف لمن تعود سلطة هذا المنزل. لكنها تتجاهلنا وتستخدم سلطتها كما تشاء.”
قد تبدو كلماتها صحيحة لأول وهلة… إذا تجاهلنا حقيقة أن كورديليا كانت أميرة ساذجة نشأت بعيدًا عن هذه الحسابات.
حرّك آرون يده في الهواء بإشارة تعني: كفي عن هذا الهراء. فصمتت السيدة ليان بامتعاض.
“أحضِروا كبيرة الخادمات ورئيس الطهاة… وكذلك رئيس الخدم. وأنتِ يا صغيرتي، اذهبي لاستدعاء سموّ الأميرة.”
أصدر آرون أوامره لهايلي.
“حاضر، يا والدي.”
وعلى الرغم من أنها لم تتناول لقمة من الفطور، وقفت هايلي بطاعة تامة وغادرت بخفة؛ وجهها يوحي بالحيطة أمام حمويها، لكن خطواتها بقيت مطمئنة ومسترخية.
***
لم تمضِ فترة طويلة منذ نزولهم من السفينة حتى توقفت العربة أمام إدوين. فقد أسرع سكوت إلى مكتب تأجير العربات فور نزولهم واستأجر واحدة.
“يبدو أن وجهك عاد للحياة قليلاً.”
فتح سكوت باب العربة وظهر مبتسمًا. فقد كان يبدو مكتئبًا طوال الرحلة البحرية وإقامتهم في إستانا، أما الآن فقد استعاد جزءًا من حيويته. في تلك اللحظة، صعد إدوين إلى العربة بينما كان السائق وسكوت يحمّلان الأمتعة.
“لا مكان أفضل من موطني مهما قالوا.”
أجاب سكوت بمزاح، وهو يناول إدوين مجلة أسبوعية. كان إدوين قد طلبها قبل ذهابهم إلى مكتب الإيجار.
“هل تريد أن تعرف متى سيُمنح لك اللقب؟”
طرق سكوت جدار العربة عدة مرات، فانطلقت العربة على الفور بتلك الحركة الخشنة التي تميّز العربات المستأجرة، والتي لم تكن مريحة أبدًا كعربات عائلة ترييد.
“سيمنحونني إياه حين يأتي وقته.”
“وإن كانت العائلة الملكية قد كذبت عليك؟”
“لو بدأت تلك الأميرة العزيزة بالبكاء والعويل، فسيمنحونني اللقب غدًا. المشكلة فقط أنه لن يكون بالطريقة التي أريدها.”
رغم أن كلامه يبدو متعجرفًا، إلا أنه كان صحيحًا. فقد رأى سكوت بنفسه خلال إقامتهم في القصر الملكي إلى أي حد كان أفراد العائلة الملكية متعلّقين بكورديليا. فعبس وحرّك شفتيه بضيق وهو ينظر عبر النافذة.
“…….”
كان سكوت يغفو وهو يتابع منظر الطريق المتحرك، حين شدّ إدوين على حافة الصفحة التي كان يقلبها. وعندما سمع سكوت صوت الورق يتجعّد، فتح عينيه فجأة وجلس مستقيمًا، مراقبًا وجه إدوين.
“هل حصل شيء؟”
نظر إدوين إليه بوجه خالٍ من التعابير، دون إظهار أي غضب.
“أنت غاضب.”
لكن سكوت، الذي خبر ملامح إدوين لسنوات، أدرك الغضب المختبئ خلف ذلك الهدوء.
“المجلة نشرت شيئ عن الأميرة.”
كان ظهور أخبار عن أفراد العائلة الملكية في مجلة أسبوعية جزءًا من قدرهم. فمن يملك تلك السلطة والثروة عليه تحمّل هذه المتاعب. لذلك تعجّب سكوت قليلاً: ما المختلف هذه المرة؟
“إجبار طفلة على الركوع…”
تمتم إدوين، وهو يمسح ذقنه. كان يحلق بانتظام حتى على متن السفينة، فظل وجهه نظيفًا وناعمًا… خلافًا لسكوت ذي الملامح الخشنة.
“وإدوين ترييد، الذي أصبح خادمًا كالخنازير والكلاب التابعة للعائلة الملكية، كان يراقب ذلك المشهد من الجانب.”
فغر سكوت فاهه، وانتزع الصحيفة من يد إدوين ليقرأ بسرعة.
“لكن… لا يوجد وصف كهذا!”
طبعًا لم تذكر المجلة كلمة “كلب” ولا “خنزير”. فمن يريد الدخول في صراع مباشر مع أسرة ترييد؟
“عبارة: “إدوين ترييد، الذي أصبح شخصية مثيرة للجدل ضمن أفراد العائلة الملكية”، تحمل المعنى ذاته.”
بالنسبة لإدوين لم يكن هناك فرق. مدّ يده لسكوت طالبًا إعادة المجلة. أعادها سكوت وهو يتنهد، لكن إدوين لم ينظر فيها مجددًا.
بعد صمت طويل، توقفت العربة أخيرًا. فتح إدوين بابها بنفسه ونزل، ثم حدّق بعينين نصف مغمضتين نحو الدرج المؤدي إلى المدخل الرئيسي.
كان من المفترض أن يصل خبر قدومه مسبقًا، لكنه لم يجد أحدًا لاستقباله.
“هذا غريب… لقد بعثنا بالخبر قبل وصولنا.”
قال سكوت، الذي نزل متأخرًا حاملاً الأمتعة، وهو ينظر حوله بارتباك.
“سيدي إدوين؟”
“ضع الأمتعة في أي مكان في الردهة.”
لم يكن إدوين يحبّ في الأصل التحيات المبالغ فيها كثيرًا، ولذا لم يكن يزعجه غياب أيّ من الخدم لاستقباله. غير أنّ الأمر الآن بدا وكأنّ شيئًا ما قد حدث، فصار ذلك يثير استياءه بشدة.
“…….”
فتح إدوين باب المدخل بعنف ودخل إلى المبنى الرئيسي. وما إن فعل حتى سرت موجة خفيفة من الاضطراب في البهو الذي كان ساكنًا كأنه قد خيّم عليه الصمت المطبق؛ وكأنهم اكتشفوا متطفلا يقتحم المكان بوقاحة.
وسرعان ما أدرك إدوين أنّ جميع الخدم كانوا مجتمعين هنا.
–
الفصول القادمة ستُنشر أولًا وحصريًا على قناة التلجرام 💌 لا تفوّتوا الأحداث! الرابط في التعليقات
التعليقات لهذا الفصل " 30"