بينما كانت كورديليا وتشيستر تستعيدان توازنهما، نُقلت السيدة ليمونت على ظهر أحد الخدم إلى الجناح الملحق. لم تتبع كورديليا أثرها مباشرة، بل حدّقت بوجه شارد إلى الطاولة.
خلف تشيستر وآنا، اللتان كانتا تبدوان مذهولتين، كانت الطاولة مائلة، وصينية الحلوى والكعك متناثرة على الأرض، ومفرش الدانتيل الذي داست عليه الأقدام حتى غدا فوضى، وفناجين الشاي المحطمة، كلّها مبعثرة.
“آسفة. فستانكِ يا تشيستر أصبح في حالة يُرثى لها.”
“…….”
“سأعطيكِ فستاني. حتى لو لم يكن المقاس مناسبًا، ارتديه الآن على الأقل.”
مسحت كورديليا زاوية عينها بيد واحدة وقالت بصعوبة. كانت يدها ترتجف من خليطٍ من المشاعر لا تعرف ماهيتها، وكان الخجل يشغل أعظم حيّزٍ منها بلا شك.
“حسنًا، يا سموّك.”
أجابتها تشيستر بحذر بعدما لاحظت ذلك. بدا أنها تعرف جيدًا كم قد تكون مشاعر كورديليا في أسوأ حالاتها، حتى إنها كانت حذرة في نبرة إجابتها.
“لينا. خذي تشيستر إلى غرفة الفساتين الخاصة بي، واختاري لها أفضل فستان.”
“ليس ضروريًا يا سموّك. أيّ واحد يكفي……”
“لينا.”
“نعم يا سموّك. سأفعل ذلك.”
أجابت لينا بأنها ستلتزم بأمر كورديليا، ثم سارعت لاصطحاب تشيستر وآنا إلى غرفة الفساتين. أما كوردليا، التي بقيت في الدفيئة مع الخدم المتوجسين، فسارت نحو الجناح الملحق بدافع الواجب في التحقق من حالة السيدة ليمونت.
“ماذا عن السيدة ليمونت؟”
“السيد سيورس، طبيبها الخاص، يتفقد حالتها الآن.”
أجابها الخدم ورؤوسهم مطأطأة وكأنهم يشعرون بالخجل. تجاوزتهم كورديليا واتجهت إلى غرفة الضيوف التي نُقلت إليها السيدة ليمونت.
“كيف حال السيدة ليمونت؟”
“كان لديها ردّ فعل شديد تجاه نوع معين من الطعام، لكننا قمنا بالإسعافات اللازمة، وستكون بخير بعد مرور بعض الوقت.”
كان العرق يتجمّع على جبين السيد سيورس، وكأنه هرع إلى المكان على عجل. حدقت كورديليا في وجه السيدة ليمونت المنتفخ ثم أومأت برأسها.
“أحسنت. يمكنك الانصراف.”
“نعم. سأترك عند الخادمات دواء يمكن استخدامه إن ظهرت الأعراض مجددًا.”
نهض السيد سيورس وجمع حقيبة الزيارات الطبية. وبعد أن شكرته كورديليا، جلست منهكة على الكرسي بجوار سرير السيدة ليمونت.
ومن خلف النافذة، رأت العربة التي كانت تقلّ تشستر وآنا تنطلق. لم يخطر لها حتى تلك اللحظة أنها لم تودّعهما.
لكن وهل يهم ذلك الآن؟ كل شيء أصبح فوضى.
انتقلت نظرات كورديليا إلى فستانها. كان فستانها الأبيض العزيز عليها ملوثًا ببقع خلفها الشاي. كما التصق به الكثير من التراب حين سقطت مع تشيستر على الأرض.
“…….”
ضغطت كورديليا شفتيها وهي تحاول كبح دموعها.
حقًا، كل شيء كان الأسوأ. كانت قد دعتهم لتتباهى بمدى رفاهية حياتها، وبمدى نجاح زواجها، لكن كل ذلك ذهب سدى. كانت حزينة إلى حد لا يُحتمل.
“اجمعوا كل من شارك في تجهيز حفلة الشاي. الجميع، بمن فيهم العاملون في المطبخ!”
نسيت مشية الرقي التي تدرّبت عليها. خرجت كورديليا تخطو بخطوات غاضبة، وأعطت أوامرها لأحد الخدم الذين رأته أمامها بأن يستدعي جميع من شارك في إعداد حفلة الشاي.
“هل أنتم بكامل وعيكم؟ أين ذهبت التعليمات التي أعطيتكم إياها؟”
***
لحسن الحظ، استعادت السيدة ليمونت وعيها في وقت متأخر من الليل. هدأت نار غضب كورديليا قليلاً، ولكن الشائعات المرعبة التي أحاطت بها بين الخدم لم تختفِ. بل زادت الهمسات تحت السماء المظلمة.
“سمعنا أنها قالت إنها ستطرد كبيرة الخادمات ورئيس الطهاة.”
“الناس يرتكبون الأخطاء أحيانًا. ولم تمت السيدة النبيلة حتى. لكن يبدو أنها قاسية… قاسية جدًا.”
كان قصر ترييد مكان جيدًا بالنسبة للخدم. فالسيدة ليان، ربة المنزل، لم تكن تحب استقبال الضيوف، لذا نادرًا ما يأتي أحد إلى القصر. وقيل إنها قد دعت ضيوفًا في الماضي وخجلت لعدم معرفتها بقواعد الضيافة، فبقي ذلك كصدمة لها.
لذلك، وإن حضر أحد، فلن يكون عددهم كبيرًا، وكان يكفي إعداد ما يناسب شخصًا أو اثنين لا أكثر. وحتى لو كانت هناك أخطاء في الضيافة، فكانت تؤنبهم مرة ثم تتناسى الأمر.
“ويقال إنها سألت كبيرة الخادمات إن كان رأسها رأس سحلية!”
أما كورديليا، التي أعماها الغضب من خراب حفلة الشاي، فقد قيل إنها صبّت غضبها على كبيرة الخادمات ورئيس الخدم بلا رحمة.
«بل وقيل إنها قالت لها: إن كنتِ ستضعين رأسك كزينة، من الأفضل أن تنزعيه أولاً!»
لم تكن مكانة كورديليا في القصر قوية أصلاً. فهي جديدة في منزل عائلة ترييد، ولم تمضِ وقتًا كافيًا لبناء علاقة مع الخدم. والأسوأ أنها كانت أميرة، وأقل ما يمكن أن توصف به هو أنها شخصية مهيبة.
لكن السبب الحقيقي كان شعورًا عامًّا بالرفض في هذا العصر الانتقالي. وجود العائلة الملكية ما زال قائمًا، لكن مكانتها لم تعد كما كانت.
بعض الناس ما زالوا يعترفون بوجودها، لكن دون الولاء القديم. فقط الكثير من التذمر. وكان خدم قصر ترييد من هؤلاء.
“ماذا؟ لماذا لم تأمرهم بالموت مباشرة؟ تتظاهر بالرقي بصفتها أميرة، لكن انظري كم هي أبعد ما تكون عن الرقي!”
“يبدو أنها فعلت ذلك بالفعل.”
“ماذا؟ يا إلهي.”
في الماضي، كان الخدم سيخرّون أرضًا خوفًا لو صرخت بهم أميرة. أما الآن، فصاروا يتساءلون: هل يستحق الأمر كل هذا؟ مجرد خطأ واحد؟
“لا بد أن لينا تعاني. أليست هي الآن خادمة الأميرة الخاصة؟”
“نعم. ولم تصطحب معها أي خادمة من القصر الملكي، لذا تتحمل لينا كل شيء وحدها.”
هزّت الخادمات رؤوسهن متعاطفات: كيف يمكن احتمال طبعٍ كهذا وحدها؟
“ألم يسبقها أحد من القصر؟ من الواضح من كلام الناس أن شخصيتها ليست سهلة أبدًا. ومن غير المعقول أن تكون طيبة هناك ثم تتغير هكذا هنا.”
“ربما.”
وبينما كانت الخادمات يتجمعن في ركن من المبنى يتهامسن، ابتسمت هايلي وهي تستمع إليهن خفية، ثم التفتت.
“يبدو أن الأميرة أصيبت بذعر غير مسبوق.”
قالت هايلي ببرود. وعكس الشائعة التي قالت إنها تلقت صفعة، كانت كبيرة الخادمات أمامها بوجه سليم، تجلس قبالتها مطأطئة الرأس.
“فوق المتوقع.”
قهقهت هايلي بخفّة.
“والدتي كانت مسرورة جدًا.”
“إذًا… ذاك… المال الذي وعدتِ به…….”
“بالطبع ستحصلين عليه.”
استدارت هايلي مبتعدة عن كبيرة الخادمات، وفتحت درج المكتب. فظهر كيس ثقيل في داخله.
“تأكدي من تعاون بنجامين ونسّقي معه شهادتكم، وادّعوا أن الأميرة كورديليا لم تخبركم مسبقًا بشيء عن حساسية مربيتها. ودعي لنا ما تبقى من الأمر، أنا ووالدتي سنتعامل معه.”
هزّت كبيرة الخادمات رأسها بارتياح.
“أحسنتِ. يمكنكِ الانصراف.”
غادرت كبيرة الخادمات بعد أن انحنت لها، تركض بخطوات سريعة. وعندما خلا المكتب تمامًا، فتحت هايلي نافذته مرة أخرى.
كان المكان هادئًا، والخادمات قد انصرفن منذ مدة، ولا أحد يراقبها. تأكدت من ذلك، ثم سحبت غليونًا أخفته في الدرج وحشّت أوراق التبغ وأشعلتها.
“أفسدي حفلة الشاي الخاصة بالأميرة.”
“ماذا؟ حفلة الشاي الخاصة بالأميرة؟”
“وإن غضبت، انشري الشائعات بين الخدم لتسوء سمعتها. إن فعلتِ ذلك، سأعوضك عن المال الذي بدّده زوجك في القمار.”
بناءً على أوامر السيدة ليان، استطاعت هايلي استمالة كبيرة الخادمات التي كانت تواجه أزمة مالية.
ونتج عن ذلك أن كل شيء سار كما خططتا… بل أفضل. فسقطت السيدة ليمونت، التي كانت تعاني حساسية من بعض المكونات، في فخ كبيرة الخادمات، وخرجت كورديليا عن طورها غضبًا.
“قالت إنها ستعاقبني أنا ورئيس الطهاة بأشد عقاب إن ثبت أن الساندويتش احتوى على مكسرات.”
وبالطبع، لم تضرب كورديليا كبيرة الخادمات، ولم تتفوه بكلام عن “رأس السحلية” كما قالت الشائعات. فأقصى ما يمكن للأميرة قوله كان: “كيف تقومون بعملكم بهذه الطريقة؟” أو “أنت مطرودة!”
حسنًا، كان ذلك أمرًا جيدًا في النهاية. والآن حان الوقت لمعرفة أيّ صحفي سيهرع إلى استغلال الأمر. فمن هو الأنسب لتولّي هذا العمل غير شخص لا يتردد في مهاجمة الأميرة كورديليا، واحدة من العائلة الملكية، ولا يخشى معاداة أسرة ترييد ذات النفوذ المالي؟
“هُووف.”
عندما أخذت نفسًا عميقًا ثم زفرته، دار الدخان في أرجاء المكتب. بدا لها كأنّه وجه إدوين المشوَّه. وفي الظلام، ضحكت هايلي بخفوت.
التعليقات لهذا الفصل " 29"