كان إدوين يحدّق في وجه رئيس وزراء إستانا من وراء فنجان الشاي. وكما اعتاد أن يراه —رجل ماكر لا تُقرأ ملامحه— فقد كان وجهه خاليًا من التعبير. لم يبدُ عليه أنه ينتظر إجابة مهمة من السؤال الذي طرحه.
“أميرة روتشستر؟”
“نعم. ولِم تسأل؟”
أومأ إدوين برأسه ووضع فنجان الشاي على الطاولة. فقد كان من الصعب عليه فهم ما علاقة زواجه بهذا اللقاء، فخرج منه ردّ فعل دفاعي بشكل تلقائي.
“لا سبب كبير لذلك. كنتُ أودّ لو أمكنني تزويجك من ابنتي.”
قالها رئيس الوزراء بفتور.
كان هو صاحب السلطة الحقيقية في إستانا. ومنذ أن تعاون مع إدوين في القضاء على القراصنة، وتوثقت العلاقة بينهما، ساعده على تأسيس فرع لشركته هناك، وكان من أكبر داعميه في توسّع أعماله داخل إستانا.
“ابنتك أرفعُ من أن تكون زوجة لي.”
ولكن إدوين لم يهتمّ بابنته يومًا. وللأمانة، لم يكن يتذكر حتى مواضع عينيها أو أنفها أو شكل ملامحها.
“أهكذا ترى الأمر؟”
“تستحق أفضل من أن تكون بمقام زوجة ثانية”
رفع رئيس الوزراء أحد حاجبيه.
“وهل كانت الأميرة برأيك ليست أعلى شأنًا؟”
“هي، فـ…”
تمتم إدوين وهو يمرر أصابعه بخفة على ذقنه الحليق الأملس.
“كانت مجرد ضحية للظروف.”
“هاه. إذن الأميرة يصلح أن تكون ضحية، أما ابنتي فلا؟ لا أستطيع تخيّل مقدار الرفعة التي تراها لها.”
ضحك رئيس الوزراء ساخرًا من تبرير إدوين غير المقنع. لكن إدوين لم يُعر ردّة فعله اهتمامًا. فبصراحة، لم يهمّه رأيه على الإطلاق.
“سمعتُ أن الحكومة طالبتكم بالتخلي عن حقوق استخراج الخام، رغم أنها منحت شركة ترييد حق الاستغلال لثلاثين عامًا مقابل تغطيتكم جميع تكاليف التطوير.”
“…….”
“أتراني أقترح عليك خوض نزاع قانوني؟”
لم يكن قد جاء إلى هنا من أجل حديث تافه كهذا. ولولا استلامه إخطارًا بالتنازل عن حقوق التعدين لصالح حكومة إستانا، لما تكبّد عناء السفر بنفسه.
“صحيح أن امتلاكك عقدًا موقعًا باسم حكومة إستانا يعطيك الأفضلية، لكن ليس مستحيلاً خوض معركة قانونية.”
قال رئيس الوزراء بارتياح، وهو يعرف تمامًا أن الطرف المستعجل لم يكن هو.
“لكن، إن سلّمت بالأمر طواعية فلن نحتاج إلى ذلك.”
“…….”
“كل ما في الأمر أننا نريد اليوم أن نظهر للشعب أننا نسعى لحماية أمنهم ومعيشتهم. أحيانًا تحتاج القضايا الخارجية إلى بعض الاستعراض.”
لهذا السبب السخيف فقط؟ كبح إدوين انقباض فكه بصعوبة. فالملوك والوزراء دائمًا ما يقلبون حياة الناس لأسباب لا تخطر على بال.
“الشعب يعيش قلقًا. حتى لو قلّت جدوى التعدين، فهو سيستمر طوال المدة المحددة، ونريد منك توقيع تعهّد يضمن حماية عمّال المناجم لاحقًا، إضافة إلى وضع خطة تعويض واضحة في حال وقوع أضرار.”
أصدر رئيس الوزراء أوامره. فأجاب إدوين بالموافقة دون تردّد. إذ بعد أن حصلت العائلة الملكية في روتشستر على تخفيضات جمركية، كان من مصلحته الاحتفاظ بمنجم إستانا الذي يتيح له استخراج الحديد الخام شبه مجانًا —على الأقل إلى أن يجد منجمًا أفضل داخل روتشستر.
“لو كان هذا كل ما تريده، لكنت اكتفيت بإرسال طلب مكتوب.”
لكن لم يخلُ الأمر من التذمّر. فالسفر بحرًا إلى إستانا مرهق وممل، وفوق ذلك حمل معه التوتر لأنه لم يكن يعرف ماذا قد يطلب رئيس الوزراء منه.
رفع رئيس الوزراء فنجان الشاي إلى شفتيه. وفي تلك اللحظة، تخيّل إدوين —تخيلاً فقط، لا يمكن أن يحدث— أنه يصفع الفنجان من يده ليُريق الشاي على وجهه.
“تعرضتُ للتوبيخ إذًا بسبب الزواج.”
تمتم إدوين، فضحك رئيس الوزراء بصوت عالٍ لأول مرة.
“كنتُ على وشك أن أشعر بقليل من الذنب لتفرقتي بين زوجين جديدين، لكن بما أنك لا تكترث، فلن أفكّر في ذلك بعد الآن.”
يبدو أن عناء قدوم إدوين كله لا يدخل ضمن دائرة “الاعتذار”.
“على أي حال، أنت لا تحبّ الأميرة، أليس كذلك؟”
لم يُنكر إدوين. وأطلق رئيس الوزراء ضحكة مكتومة وهو يراقبه.
“يبدو أن ولي العهد ضحّى بالأميرة ليخفي خطأ أحد مقربيه. يا لها من مسكينة.”
كان رئيس وزراء إستانا يعرف جيّدًا أن إدوين رجل لا يهتم إلا بالمال والأعمال. لذا وجد نفسه، بشكل غير متوقع، يشعر بالشفقة على أميرة روتشستر التي لا يعرفها إلا من لوحة رسم.
“وأنا، ألا تشفق عليّ؟”
“أنت لديك المال، وقد حصلت على جائزة. لماذا أُشفق عليك؟”
رغم أنه بدا وكأنه يمزح، إلا أن الطريقة التي تعامل بها رئيس الوزراء مع كورديليا كانت واضحة تمامًا: مجرد جائزة ترفع مكانة إدوين بلقب، ولعل ميزة إضافية أنها جميلة السمعة والملامح.
“على ذكر ذلك، سمعت أن كالير زادت إنتاج الأسلحة مؤخرًا. هل ستستورد روتشستر تلك الأسلحة؟”
“لا، يبدو أنهم يستعدون لحرب ما.”
لم يغضب إدوين من طريقة تقليل رئيس الوزراء من شأن زوجته. كان فقط يتناوب في ذهنه بين تقييم الرجل البارد لكورديليا، ووجه زوجته المشرق الذي يبتسم بعينين تلمعان كطفلة.
جائزة اشتراها بالذهب.
وكلما تذكّر خصلات شعرها الذهبية التي تتلألأ تحت ضوء الشمس، ووجهها الجميل، شعر بأن هذا الوصف ليس بعيدًا جدًا عن الحقيقة. فلم يكن لكورديليا قيمة تُذكر لديه سوى ذلك.
***
بعد أن قررت كورديليا إقامة حفلة شاي بعد الظهيرة، اختارت المدعوين: السيدة ليمونت، وبعض الوصيفات اللواتي ساعدنها سابقًا في القصر.
“ضعي بطاقات الدعوة هنا.”
امتثلت لينا لأمر الأميرة ورتّبت الدعوات التي تحمل أسماء الضيوف.
“الضيوف ليسوا كثرة، أليس كذلك؟”
توقفت كورديليا قليلاً عن الكتابة بريشة الحبر. هل العدد قليل؟ فكّرت مليًّا.
لكنها سرعان ما هزّت رأسها وعادت لكتابة الدعوات بنفسها. فمهما بدا الوضع حاليًا، تبقى حفلة شاي تقيمها أميرة، ويجب أن تحمل قدرًا من الرقي والخصوصية.
“العدد كافٍ. هل تستدعين كبير الخدم ورئيسة الخادمات؟ أريد التحدث معهما عن إجراءات الضيافة. وبعد ذلك، أودّ بعض الحلوى الخفيفة… شيء حلو.”
“حالًا! سأحضرهما، وأعدّ الحلوى أيضًا!”
غادرت لينا بحماس. وخلال ذلك الوقت، أنهت كورديليا ترتيب قائمة الضيوف القليلة. عادة ما كانت الوصيفات تتكفّل بكتابة الدعوات، لكن كبير الخدم ورئيسة الخادمات هنا لا يعرفان شيئًا عن علاقاتها الاجتماعية، فلم يكن هناك خيار آخر.
“ادخل.”
كانت كورديليا تتأكد من عدد الدعوات حين طرق أحدهم الباب.
“ادخل.”
“هل استدعيتِنا يا صاحبة السمو؟”
دخل بنجامين ورئيسة الخادمات إلى المكتبة بحذر واضح. وبما أن لينا لم تكن موجودة، فقد بدت علامات التوتر جلية على وجهيهما؛ إذ لم يعتادا بعد على طبيعة الأميرة كسيدة للقصر.
“نعم. عندي أمور أودّ أن أوكلكما بها بخصوص حفلة الشاي.”
“أمركِ يا صاحبة السمو.”
قال بنجامين باحترام شديد، بينما وقفت رئيسة الخادمات بوضع مهذّب، يداها متشابكتان أمام بطنها، تُصغي جيدًا. كان واضحًا أنهما لا يزالان ينظران إلى كورديليا كأميرة أولاً، لا كفرد من أفراد المنزل.
“بنجامين، قم بختم الدعوات وإرسالها.”
“أمركِ.”
ليس أمامها خيار آخر. سلّمته الدعوات، فأجاب بنبرة وكأنه تلقّى مهمة مصيرية.
“السيدة ليمونت يجب أن تُقاد إلى أقرب مقعد مني. وأبلغوا المطبخ بحذف كل أنواع الحلوى التي تحوي مكسرات.”
“كما تأمرين.”
وبينما كانت كورديليا تذكر ملاحظاتها الدقيقة حول كل ضيف، ظلّ بنجامين ورئيسة الخادمات يهزان رأسيهما باهتمام وتركيز.
“احرصوا على تجهيز ما لا يقلّ عن ثمانية أنواع من الشاي. مفهوم؟”
“نعم.”
“وكما قلتُ مسبقًا، سنقضي الوقت في الدفيئة. وإن بدا المكان ضيقًا لاستيعاب جميع الضيوف، فسنجتمع في الحديقة، لذا اعتنوا جيدًا بالمكانين معًا مسبقًا.”
وحين أنهت كورديليا حديثها، أشارت لهما بأن بوسعهما الانصراف. فانحنى بنجامين ورئيسة الخادمات بتحية عميقة، ثم غادرا الغرفة.
لكن ما إن خرجا وأغلقت الباب خلفهما حتى تلاقت نظراتهما المفعمة بالقلق، وكأنهما يتساءلان عمّا إذا كان الأمر سيمضي على خير.
وبسبب قلة معرفتهما بأسماء العائلات النبيلة، فقد اختلطت في رأسيهما الأسماء والألقاب والأنساب كلّها. ولم يتوقف الأمر عند هذا الحدّ، إذ إن ارتباكهما وتوترهما جعلا جميع المعلومات التي ذكرتها كورديليا تتسرب من أذنيهما وتتبخر تمامًا.
“قبل قليل… تشيستر؟ آنسة تشيستر، ماذا كانت تحتاج؟”
لم تكن كورديليا على علم بذلك، وواصلت إصدار الأوامر واحدة تلو الأخرى. كانت التعليمات كثيرة إلى حدّ جعل معظمها يتلاشى من الذاكرة. وكانت ملامح بنجامين ورئيسة الخادمات تزداد شحوبًا كلما ازدادت صعوبة ما ينتظرهم من مهمة.
“لنبدأ العمل أولاً.”
أومأت رئيسة الخادمات موافقة على اقتراح بنجامين.
“ليجتمع الجميع في الردهة!”
أخذ بنجامين بطاقات الدعوة التي أعطته إيّاها كورديليا، وتوجّه إلى غرفته.
“يجب تبديل كل أطقم المائدة بأخرى جديدة، وتنظيفها بلا أي لطخة واحدة.”
وفي الوقت نفسه، سارعت رئيسة الخادمات إلى جمع جميع الخادمات في الطابق الأول، في الردهة.
“سيركّز الجميع في الفترة القادمة على التحضير لحفلة الشاي الخاصة بسمو الأميرة!”
سقط الأمر حاداً كالسيف. لم تكن سوى حفلة شاي… لكنّ الاستعدادات بدت وكأنهم يتحضّرون لحرب.
التعليقات لهذا الفصل " 27"