سأل آرون عرضًا وهو يفرغ من تناول طعامه ويستعد للذهاب إلى العمل. ظنّت السيدة ليان أنه لا يلاحظ سوى الطعام الذي يملأ فمه، لكن يبدو أنه لاحظ الضجة في المكان.
“لا بدّ أن يكون فوضويًا، فهناك ما يجب فعله.”
أجابت السيدة ليان ببرود. أدخل آرون ذراعيه في المعطف الذي قدمه له الخادم، ثم توقف وهو يلبس قفازه، والتفت نحوها.
“ما الذي تريدين قوله؟”
“وما عساني أريد قوله؟ أتحدث عن مدى تهور الأميرة.”
وما إن غادر الخادم الغرفة متفهمًا، حتى تحدثت السيدة ليان بلا لفّ ولا دوران.
“اطردها الآن.”
“ماذا فعلت؟”
“تقول إنها ستقيم حفلة شاي، وقد أعلنت ذلك وأمرت الخدم بالاستعداد بدقة.”
أرتدى آرون قفازه بوجه متضايق، وكأنه يجد في كل شيء سببًا للاستياء. لامست خامة القماش الناعمة يديه الخشنتين برفق.
“دعيها تفعل ما تريد. لا تثيري الأمر بلا داعٍ.”
“لقد تركتها تفعل ذلك. لكني أنا سيّدة قصر ترييد. أين القانون الذي يسمح لها بفعل ما تشاء دون إذن؟”
تحدثت السيدة ليان بصوت ممتلئ بالضيق، لكن آرون لم يُعر كلامها اهتمامًا. فقد كانت بطبيعتها حساسة وسريعة الانفعال، وكان يتجاهل تلك الصفات دائمًا.
“انظُر إلى قلة ذوق الأميرة. إلى أي حدّ كان إدوين يقلل من شأني حتى تتصرف هكذا؟”
“هي ما تزال صغيرة.”
“بل لأن إدوين ما يزال يحتقرني كزوجة أب!”
صرخت السيدة ليان. فأصبح آرون، الذي وجد نفسه هدفًا للغضب منذ الصباح الباكر، يقطّب جبينه تلقائيًا.
“ولماذا تذكرين هذا الآن؟”
حتى تلك اللحظة كان قادرًا على استيعاب كلامها. فهو لا يتدخل في التفاصيل الصغيرة لشؤون المنزل، كما أنه يستطيع فهم انزعاج ليان من ناحية التسلسل الهرمي في البيت.
“لأنك تذكر اسم إيديث… تلك المرأة!”
“أغلقي فمك!”
لكن ذكر والدة إدوين البيولوجية كان خطًا أحمر لا يمكن تجاوزه. وما إن صرخ آرون بغضب حتى انقطعت أنفاس السيدة ليان وتوقف صوتها المرتفع.
“من سمح لك أن تتفوهي باسم إيديث؟”
“…….”
“إنها المرأة التي فارقت الحياة بسببي وبسببك. وإدوين فقد والدته لهذا السبب!”
اقترب آرون من وجه السيدة ليان حتى كاد يلامسه، فعضّت شفتيها وهي تنظر مباشرة إلى عينيه اللامعتين بالغضب.
إيديث… تلك اللعينة التي أحبّها زوجها حبًا حقيقيًا. كانت تعرف جيدًا أن آرون يخبئ صورتها في مكان ما، ينظر إليها بين الحين والآخر.
“ولهذا كنت تلبي كل ما يطلبه إدوين حتى الآن. وتتظاهر بأنك لا ترى بارتون أيضًا!”
تحدثت السيدة ليان بحدة وكأنها على وشك أن تقيد زوجها من عنقه. لم يكن في مظهرها أثر لتلك الرصانة التي تتظاهر بها عادة أمام الآخرين.
“بارتون؟”
“…….”
“لقد كنتُ أنوي التخلص منه منذ البداية، وعليك أن تكوني ممتنة لأنني قررت تربيته كابني.”
“آرون ترييد!”
صرخت السيدة ليان بصوت باكي. في كل مرة ترى فيها آرون يعامل ابنها كأنه غريب يمتلئ قلبها حنقًا يكاد يقتلها.
“إذًا لماذا جعلتني زوجتك؟ لماذا قبلت بارتون كابنك؟ كيف تتظاهر بأنك لا تعرفنا طوال حياتك…؟”
“هذا ما كنتُ أنوي فعله.”
قاطعها آرون بصوت متجمّد. نظرت إليه السيدة ليان بخوف، وهي ترى الجدار الثابت الذي كان دائمًا بينها وبينه.
“لو لم تكن إيديث قد طلبت مني في وصيتها أن أعتني بك.”
ماذا…؟
تلاشى الكلام الذي لم تستطع نطقه في الهواء.
“كنت أنوي قتلك ودفن كل شيء. وأن أعيش عمري أتوسل المغفرة لإيديث وإدوين.”
“…….”
“لكنها، وهي تموت، توسلت إلي. قالت: سأرحل ولن أبقى في هذا العالم، فامنح إدوين أمًا وأخًا من أجله… وعندها سأسامحك على ما فعلت.”
تحركت شفتا السيدة ليان، لكن لم يخرج صوت.
“إدخالك أنتي وبارتون إلى هذا المنزل، وأنا أمقتكما، لم يكن إلا بسببها. كل ما تتمتعان به أنتِ وابنكِ هو نعمة منحتكما إياها إيديث. فلا تنسي ذلك.”
بصق آرون الكلمات، ثم استدار وغادر. بقيت السيدة ليان تستمع إلى وقع خطواته وهي تبتعد، ثم أطلقت ضحكة خاوية.
لقد كانت تعشق آرون، الرجل الشغوف بعمله. لذلك سرقت إحدى لياليه حين كان مخمورًا، وأنجبت بارتون من تلك الليلة عبثًا. ظنت أنها وجدت فرصة لتكون عشيقته، فأخبرته أنها حامل، وبعد فترة قصيرة ماتت إيديث. وبعدها أدخل آرون بارتون وأمّه إلى قصر ترييد.
ظنت أنها انتصرت. رغم أنه لم يكن لطيفًا معها، ولم يكن أبًا جيدًا لبارتون. فقد كان كذلك مع إدوين أيضًا. ومع أنه عرف أنها أساءت لإدوين فقد قبل اعتذارها. وظنت أنه من الطبيعي أن يحنّ إلى امرأة ميتة أحبّها.
لكن كل ذلك… لم يكن لأنه اختارها أو لأنه رقّ لها، بل فقط ليطلب الصفح من امرأة ميتة. ليعيش معها وبارتون حياته كلها بينما قلبه محجوز لأخرى… فقط ليرضي روحًا لا يمكنه رؤيتها.
“ها… هاها…”
انطلقت ضحكة من شفتي السيدة ليان، وما انفكت تتحول شيئًا فشيئًا إلى بكاء.
“اللعينة… حتى بعد موتها…”
بكت وضحكت في آنٍ واحد، وهي تتذكر وجه المرأة التي تحتل عقل زوجها دومًا، تلك التي ستظل شابة إلى الأبد. امرأة ماتت، ولا تستطيع قتلها ثانية.
“…….”
بعد وقت طويل من البكاء بصمت وهي متكئة على الحائط، أغمضت عينيها وفتحتهما. ومع اختفاء آخر شهقة بكاء، خيّم الصمت من جديد، وعمّ السلام.
مسحت دموعها ورتبت وجهها. ثم غادرت غرفة آرون بخطوات حاسمة.
“أين هي هايلي؟”
“السيدة الصغيرة قالت إنها ستعود إلى غرفتها لترتاح.”
تجاوزت السيدة ليان الخادمة وتوجهت إلى غرفة هايلي.
“أمي؟”
رفعت هايلي رأسها بدهشة حين اقتحمت حماتها الغرفة دون انتظار رد، فالسيدة ليان عادة لا تبادر إلى رؤيتها ولا تحبّ لقاءها كثيرًا.
“هل تذكرين وعدكِ لي يا هايلي ترييد؟”
أومأت هايلي بعد أن استرجعت الوعد من ذاكرتها البعيدة.
“كل ما في عائلة ترييد يجب أن يكون من نصيب بارتون.”
“هذا كلام صحيح.”
أجابت هايلي بهدوء. لم تعرف السبب الذي جعل السيدة ليان تغيّر موقفها فجأة، لكنه لم يكن أمرًا سيئًا.
“افصلي بين الأميرة وإدوين بأي طريقة. افعلي أي شيء حتى لا يرث ذلك الفتى عائلة ترييد.”
“حتى لو أدى ذلك إلى معاداة العائلة الملكية؟”
“نعم. أعيدي إثبات قيمتك كما وعدتني أول مرة.”
“نعم، يا أمي.”
أجابت هيلّي مستقيمة الظهر. كان ردّها مطيعًا، لكن ابتسامتها لم تكن مطمئنة؛ كانت مأخوذة بنشوة تحقيق ما تريده.
***
منذ اللحظة التي تزوجت فيها من بارتون ترييد، كانت رغبات هايلي ثابتة.
أن تجعله سيد شركة ترييد، وأن تكون هي سيدة القصر الذي تحكمه. أما المال والمجد المصاحبان لتلك المكانة فهما أمران بديهيان.
كانت تؤمن بأن تحالفها مع السيدة ليان كفيل بتحقيق ذلك. فالسيدة ليان، بصفتها ربة البيت، كانت سندًا قويًا لبارتون، وكان لقب فيكونت ليبرتي على وشك أن يضيف دعمًا قويًا له.
“إدوين والأميرة كورديليا سيتزوجان، وسيحصل إدوين على لقب دوق.”
“م… ماذا قلت؟”
إلى أن أخبرهما آرون بزواج إدوين من الأميرة كورديليا. تتذكر هايلي كيف عجزت عن سؤاله مباشرة مثل السيدة ليان، ولم تستطع إلا فتح فمها دون أن تخرج الكلمات. سحبت نفسًا طويلاً من غليونها.
“هوو…”
ثم أطلقت زفيرًا عميقًا في الهواء. ارتفع الدخان الرمادي متماوجًا كالأعشاب، أو كالأفكار المعقدة التي تختمر في صدر هايلي.
كان إدوين، الذي برز بوضوح في مجال الأعمال، يعوزه فقط دعم العائلة والغطاء السياسي. لكنه الآن حصل على أقوى دعم سياسي ممكن: العائلة الملكية.
لا يمكن أن يحدث ذلك. لماذا؟ وكيف وصلتُ إلى هذا الحد؟
كانت أطراف أصابع هايلي تنقر على حافة النافذة بإيقاع غير منتظم. لم تكن هايلي تنوي السماح لإدوين بأن يعرقل هدفها.
“…….”
لا بدّ من جعل إدوين وكورديليا ينفصلان. قبل أن يُرزقا بطفل كما يريد آرون الذي يتصرف كالأحمق فاقد الاتزان أمام الأميرة. فإذا حدث ذلك، فقد يسلّم آرون منصب الوريث لإدوين فورًا.
“من حسن الحظ على الأقل أن إدوين لا يهتم بالأميرة.”
لم يكن هناك من يعرف أكثر من هايلي كيف يتصرف إدوين عندما يقع في الحب، ولا نوع المرأة التي يفضلها. لذلك كانت متأكدة من أنه لا يهتم بكورديليا حاليًا، ولن يسعى جاهدًا لحمايتها.
وهذا يعني أن كورديليا ستبقى فريسة شهية وحدها. أما السعي لاقتناص الفرصة قرب تلك الأميرة الساذجة فليس بالأمر الصعب.
“…….”
أسهل طريقة للتفريق بين إدوين وكورديليا هي إبلاغ شعب روتشستر بالهدف الحقيقي لهذا الزواج. فليس هناك حقيقة أوضح من أنه لم يكن قائمًا على الحب، بل كان صفقة خلفية لتهدئة الجدل المحيط بالعائلة الملكية.
لكن عدد الذين يعرفون بالصفقة قليل للغاية يمكن عدّهم على الأصابع، ولذلك لا يمكن لهايلي —بصفتها فردًا من العائلة— أن تكشف الأمر بنفسها. كان يجب أن تنهار كورديليا تحت وطأة علاقتها برجل منافق وخالٍ من المشاعر. ثم، عندما تتصادم العائلة الملكية مع إدوين، سيظهر للجميع أن هذا الزواج لم يكن سوى صفقة مخادعة أبرِمت بخداع الجميع.
“يا للأسف… يا صاحبة السمو.”
أطلقت هايلي زفيرًا عميقًا من الدخان مجددًا، ورمت في الهواء اعتذارًا كاذبًا لا موجّه له.
“فلتقولي إنها لعنة الذنب الجماعي.”
كان الإيقاع بين الاثنين كفيلاً بتحقيق النتيجة التي تريدها، لكن هايلي لم ترغب في الاكتفاء بذلك. فذلك لم يكن سوى ثمن بسيط للخيانة التي تعرّضت لها.
“الدنيا بطبيعتها مرة.”
وفوق كل هذا…
“…….”
كانت هايلي تكره كورديليا. دون سبب محدد. كان حقدها على الفتيات اللواتي نشأن في النعيم، وشغفها بالمكانة والمال، ينحدر من عقدة نقص متجذّرة في أعماقها.
وبالتالي، فإن إيذاء كورديليا بشكل غير مباشر أثناء الانتقام ممن جلبها إلى هذا المكان… ليس أمرًا يستحيل حدوثه.
“لم يكن ذلك مقصودًا.”
نطقت هايلي بكذبتها بوجه خالٍ من الارتباك، وابتسمت ابتسامة توحي بالشفقة على إمرأة زوجها السابق الجديدة.
التعليقات لهذا الفصل " 26"