اندفعت أفكاره كمدّ يتقدّم. فتح إدوين عينيه اللتين كان قد أغمضهما. كان قد مرّ وقت طويل منذ آخر مرة تذكّر فيها سقوطه غير المتوقّع من الدرج بعد أن دفعته السيدة ليان بيدها وهو بلا أي دفاع.
“…….”
لم يعد طفلاً يمكن لرأسه الصغير أن يُسقِطه دفعٌ من امرأة مسنّة، فقد أصبح أطول منها بمقدار رأس كامل. لذا فإن السبب الوحيد لرؤيته هذا الحلم الذي لم يراوده منذ الطفولة كان واحدًا فقط.
إنّه تحذير.
“إدوين سقط وحده؟”
“أ… أنا أيضًا رأيتُ أخي يسقط وحده من الدرج…….”
لا تنسَ. ما الذي فعلوه بك.
“ألم تكبر بما يكفي لتعرف أنّه لا يجوز لك أن تُلقي اللوم على الآخرين بسبب خطئك، يا إدوين؟”
لا تصدّق. والدك الذي وثق بأكاذيبهم.
“أَلَا تدرك بعد؟ كان الموت أفضل من العيش مجددًا كمتسوّلة.”
تذكّر. المرأة التي تمنّت الموت بدلاً من أن تعيش زوجةً لرجل خسر ثروة العائلة ومجدها وصار معدمًا.
نسي لحظاتٍ كثيرة تُرك فيها وحيدًا، عاجزًا، يدفع ثمن ثقته الحمقاء. نسي الصبيّ الذي كان دائمًا خارج سور عائلته. نسي تلك الذكريات التي اضطر فيها إلى مشاهدة نفسه عاجزًا حتى عن البكاء، ليس من الوحدة، بل من البقاء في آثار حُبّ اندثر.
بعد ذلك اليوم أيضًا، خان آرون ثقة إدوين ووقف في صفّهم. وحتى وقت متأخر جدًا، لم يُكتشف أنّ السيدة ليان كانت تسيء معاملة إدوين الصغير كلما غاب عنه نظر الآخرين.
“لماذا لم تخبرني؟”
كان آرون، الذي نادرًا ما يمكث في المنزل لانشغاله الدائم، قد نسي تمامًا أنّه تجاهل طلب ابنه للمساعدة، وبدلاً من ذلك لامه لأنه لم يخبره مسبقًا.
مع أنّه لم يُصغِ إليه يومًا كما يجب……
سواء قبل انكشاف الحقيقة أو بعدها، كان آرون مهتمًا فقط بالمحافظة على شكل العائلة.
“سأمنح بارتون أيضًا فرصة ليصبح الوريث.”
بل وذهب إلى حد القول بأنه سيمنح بارتون فرصة ليحصل على شركة ترييد كذلك. كل ما يخصّ عائلة ترييد من حق الابن الأكبر كما قال دائمًا. وعندما رفض إدوين وهرب، أصرّ آرون على إرغامه على تولّي الإرث. وحين أعلن إدوين أخيرًا أنه يريد شركة ترييد، أعلن آرون عن ذلك فورًا…
لم يكن آرون يومًا في صفّه.
“حتى لو فرض مثل هذا الشرط، فأنت تزوجتَ من أميرة ملكيّة، كما أنك الابن الأكبر للعائلة. لا يمكن أن يتجاهلك حتى النهاية.”
اعتقدت كورديليا إن آرون لن يترك إدوين أبدًا، لكن الحقيقة أنّ ما كان يهمّ آرون حقًا هو زوجته الثانية وابنهما. كان آرون شخصًا قد لا يعطي إدوين شركة ترييد أصلاً.
لقد نكث بالوعود التي قطعها عند زواجه من والدة إدوين، وكسر مرارًا العهود التي أعطاها لإدوين. حتى وعده بالاعتراف به كوريث بعد زواجه من كورديليا.
ألم يتعلّم من قبل؟ الثقة والاعتماد على الآخرين لا معنى لهما. سئم من أن ينجرف وراء تقلّبات آرون. وشعر أنّه لن يطمئن إلا إذا انتزع شركة ترييد بنفسه من يد آرون.
“…….”
وبما أنّه بلا أبناء، فإنه لن يحصل أبدًا على مكانة الوريث، لذا كان عليه قبول العرض.
“ممم…….”
وبينما كان إدوين مستغرقًا في التفكير، ارتمت كورديليا في حضنه، باحثة عن دفئه كما كانت تفعل دائمًا. فتح ذراعيه بشكل مرتبك ليحتويها. تسلّل إلى أنفه عبيرٌ حلْوٌ دفعة واحدة.
“يا للغرابة……”
استجاب جسده في لحظة. ضحك إدوين قليلاً بدهشة. كان مرتاحًا لأن مجرد تخيّل اقترابها منه لم يعد مقزّزًا كما كان من قبل. على الأقل لن يكون تحقيق رغبة آرون في رؤية حفيده أمرًا مستحيلاً.
أغمض إدوين عينيه وفتحهما، ثم التفت نحو مصدر أنفاسها المنتظمة. أظهر له بصره المعتاد على الظلام وجه كورديليا الغارق في ضوء القمر بهدوء.
كانت جميلة فعلاً. وحتى رجل ذو ذوق رفيع مثله لم يستطع إنكار ذلك، ولذلك فهم تمامًا خوف كورديليا من أن يفسد جمالها.
لكن الآن، أصبح بحاجة إلى طفل من أجل هدفه. كان عليه إقناع كورديليا التي لا تحب الأطفال وترغب في الحفاظ على جمالها.
“أيّ شيء؟ حتى لو طلبت سحب اللقب أو الطلاق؟”
بالطبع، لم يكن الحل المنطقي مجديًا. لم يبقَ سوى خيار واحد: أن يتغيّر قلبها. ولو حدث حمل غير مقصود يجعل الوضع حتميًّا، فلن تستطيع لومه.
كان عليه أن يفعل أي شيء ليوجّه الأمور نحو ذلك. حتى لو كان يعني أن يقسم لها بحب زائف.
***
تسلّل ضوء الشمس القريب من وقت الظهيرة عبر الستائر. استيقظت كورديليا عند ذلك تقريبًا.
“همم…….”
كوّرت جسدها ثم تمدّدت مطلقة تنهيدة ارتخاء.
“يبدو أنّ إدوين غادر.”
استندت إلى الوسائد الكثيرة الموضوعة خلفها، ونظرت إلى الجانب. بدت مساحة إدوين الخالية واضحة جدًا. رغم أنه لم يكن يبقى إلى جانبها أصلاً.
“سأعود لاحقًا، فاستريحي.”
ظنّت كورديليا أنّ السبب هو أنّ إدوين كان الشخص الوحيد الذي يمكنها الاتكاء عليه في منزل ترييد. لم يعجبها أنه غادر فور الزواج، لكنّه كان لطيفًا بما يكفي ليغادر بعد أن يهمس بكلمات دافئة ويطبع قبلة، لذا لم تستطع أن تكرهه تمامًا.
“…….”
مجرد إدراك غيابه جعل يومها يبدو فارغًا بشكل غريب.
“هل استدعيتِني، يا سموكِ؟”
مدّت يدها لتحرك الحبل المعلّق بجانب السرير. فدخلت لينا بعد قليل.
“هل أحضر الطعام؟”
“لا. ليس لديّ شهية. ساعديني على الاغتسال وتغيير ملابسي. أفكر في القيام بجولة في القصر.”
أومأت لينا وبدأت تتحرك بسرعة. اغتسلت كورديليا، وغيّرت ملابسها، وتزينت كما ينبغي.
“سأحضر كبير الخدم.”
“حسنًا، شكرًا.”
وحالما انتهت استعداداتها للخروج، ذهبت لينا للبحث عن كبير الخدم. كانت صغيرة السن، لكنها حاذقة وسريعة البديهة، لدرجة أنّ كورديليا لم تشعر بالحنين لخادمات القصر الملكي.
“هل استدعيتِني؟”
عاد كبير الخدم بنجامين مع لينا بعد قليل. بدا مرتبكًا قليلاً، لكنه كان بارعًا في إخفاء تعابيره.
“أود التجوّل قليلاً في القصر.”
“آه، تقصيري كبير.”
انحنى بنجامين بسرعة ليعتذر. لم يكن مخطئًا في الحقيقة، إذ لم يمضِ على وصول كورديليا إلى قصر ترييد سوى ثلاثة أيام، ولم يسأل عنه إدوين أثناء وجوده أصلاً.
“لا بأس.”
“سأرافقكِ فورًا.”
اعتذر بنجامين، فقبلت كورديليا اعتذاره بلطف طبيعي ينبع من شخص اعتاد على توجيه الآخرين.
“المبنى الفرعي الذي تقيمين فيه يتكوّن من أربعة طوابق.”
بدأ بنجامين يشرح لها تفاصيل المبنى: البهو، غرفة الاستقبال، غرفة الطعام، المكتبة، غرفة الملابس، بل وحتى غرفة الترفيه الخاصة بألعاب الورق. لم يكن مبالِغًا حين قال إن المبنى الفرعي وحده يضاهي حجم منزل ريفي كبير.
“هل كان يوجد قصر بهذا الحجم سابقًا؟”
“أبدًا. السّيد آرون اشترى المساكن المجاورة وهدمها وبنى كل شيء من جديد.”
تكلّم بنجامين بفخر، رافعًا كتفيه. حتى في أطراف العاصمة، كان امتلاك قصر بهذا الحجم يتطلب ثروة ضخمة. وكان سيده يملكها بالفعل، الأمر الذي كان بنجامين يراه مصدر اعتزاز.
أما كورديليا فهزّت رأسها مرتين فقط، إذ لم يكن لديها أي حس اقتصادي لتقدّر كم يكلف الحصول على مكان بهذا الحجم.
“وهناك… ذلك المكان هو الدفيئة الزجاجية. تقع بين المبنى الرئيسي والفرعي، وتُستخدم من الجميع.”
الترف الملكي مختلف فعلاً. أخفى بنجامين دهشته من هدوء ردّها بينما اصطحبها عبر الرواق إلى الدفيئة.
“هذا المكان…….”
“سيدة القصر تحب النباتات، لذا تُبقيه دائمًا في أجمل حالاته.”
أظهرت كورديليا لأول مرة علامات السرور حين رأت الدفيئة. كانت مقسمة إلى ثلاثة أقسام، وتجمع بين الهياكل البيضاء والأوراق الخضراء والرسومات على الجدران، إضافةً إلى تماثيل على شكل فيلة. وعندما يصطدم ضوء الشمس بالزجاج، يتناثر كالأحجار الكريمة بطريقة تبهر العين.
“نستورد نباتات غريبة أيضًا، لذا سترين أشياء مدهشة.”
فتح بنجامين الباب، فدخلت كورديليا إلى الداخل وهي تطلق شهقة إعجاب.
كانت كُروم النباتات تتدلّى من السقف قرب المدخل، لكنها مشذّبة ببراعة. حتى البلاط على الأرض كان مختارًا بعناية بنقوش جميلة.
“يوجد أيضًا طاولات وأرائك، لذا تستطيعين القراءة هنا براحة عندما تشائين.”
سارت كورديليا بحذر نحو وسط الدفيئة، حيث وُضعت طاولة كبيرة ومقعد أبيض ناصع. أوراق خضراء تتمايل في استقبالها، وأزهار شاحبة اللون تضيف هدوءًا بديعًا؛ مشهد لا يقل جمالاً عن حدائق القصر الملكي التي يمدحها الجميع.
“……بنجامين.”
“نعم؟”
أشرق بريق في عيني كورديليا فجأة، وقد خطرت لها فكرة.
“سأقيم حفلة شاي!”
لم يكن لديها هدف خاص. فقط شعرت أنّ هذا المكان مناسب لدعوة معارفها القلقين بشأن زواجها ليستمتعوا معها. كما أنه سيكون فرصة جيدة للتباهي بثروة عائلة ترييد، وبما نالته بزواجها.
–
الفصول القادمة ستُنشر أولًا وحصريًا على قناة التلجرام 💌 لا تفوّتوا الأحداث! الرابط في التعليقات
التعليقات لهذا الفصل " 25"