بعد أن أنهت كورديليا غسل وجهها، مسحت بلل الماء بعناية، ثم وضعت الزيت على وجهها ليمتصه. وانزلقت قطرة ماء من خصلة شعرها المبتلّة خلف أذنها، فبدت هيئتها في غاية النقاء.
ابتسمت كورديليا برضا وهي تتأمّل صورتها المنعكسة في المرآة. فهي تحبّ كلّ ما هو جميل ظاهريًّا، ولذلك كانت تعتني بجمال وجهها عناية خاصة.
ثم انتقلت نظراتها إلى ما وراء المرآة، نحو إدوين النصف مستلقي على السرير. ولحظتها رفع رأسه لتتلاقى نظراتهما.
“هل لديك ما تريد قوله؟”
“لماذا قلتِ ما قلتِ على مائدة الطعام قبل قليل؟”
سأل إدوين. فتذكّرت كورديليا كيف أعلنت بحزم أمام آرون أنها ستجتهد في إنجاب وريث، فابتسمت ابتسامة حرجة.
“ألم تقل هذا الصباح إن أعمال بارتون تسير على ما يرام؟ لا يصحّ أن تخسر أمامه.”
لكنها سرعان ما استعادت ملامحها المليئة بالجرأة. وكأن ردّها يقول إنها لم تفعل شيئًا خاطئًا مهما أعادت التفكير.
“لم أَخسر، ولكن……”
“اتفاقنا على أننا لا نحتاج طفلاً الآن يكفينا أن نعرفه نحن فقط.”
صحيح……
تنهد إدوين بضيق وهو يستعيد حماقته وقِصر نظره.
***
“إن لم يكن لكما أطفال فسأستبعدك من قائمة الورثة المحتملين، فاذهب وأنجب طفلاً من الأميرة.”
منذ تصريح كورديليا ذاك، ظلّ بريق عيني آرون يتقلّب بقلق طوال وجبة الطعام. أمّا كلمته الأخيرة المليئة بالمعاني فكانت أسوأ. ولأن الشعور بالانزعاج لم يفارقه، فقد قصد إدوين أباه محذرًا إياه من القيام بحماقات، فإذا به يسمع منه ما لم يكن يتوقعه.
“ألم تقل من قبل إن الزواج بالأميرة يكفي؟”
“ومتى قلت ذلك؟ عليك أن تُنجب طفلاً أيضًا.”
“قلتَ ذلك بوضوح قبل الزواج……”
“غيّرتُ رأيي.”
لا يوجد وغد أشدّ منه.
غير آرون كلامه تمامًا. ففي البداية قال إن عليه فقط أن يجعل أعماله تكبر، ثم لاحقًا أوحى بأنه سيحسم له وراثة شركة ترييد بمجرد أن يتزوّج كورديليا ويحصل على اللقب، أمّا الآن فهو يشترط أن يُنجب طفلاً أيضًا ليعترف به كوريث.
“وفوق ذلك، بارتون لا يُقصّر من جهته. وبما أن قدرتيكما لا يمكن الحكم بينهما بسهولة، فقد احتجنا إلى طريقة أخرى.”
“لا تكذب.”
ابتسم آرون ابتسامة ساخرة تجاه اتهام إدوين.
“أدركت الأمر إذن؟”
وجهه المتغطرس بينما يضيف عبارة “أنت سريع البديهة” كان لا يُحتمل.
“ومن ذا الذي طلب منك توقيع ذلك العقد السخيف؟”
ثم سرعان ما تبدّلت ملامحه إلى برود قاسٍ.
“لابد أنك تفهم أنني لم أدفع ذلك المبلغ الباهظ لأجل ترتيب زواج فقط. كيف تجرؤ على خداع أبيك؟”
“لم تقل لي ألا أفعل ذلك.”
“تظاهر بالغباء مرة أخرى إن شئت، فهو لا يليق بك.”
قطّب آرون وهو يحدّق في إدوين، ثم أطلق جملة لا يُدرى أهي مدح أم شتيمة.
“المملكة تتوقع أن تصبح صاحب شركة ترييد في المستقبل، فهل تنوي إعلان الحرب عليهم؟”
“صفقتنا قائمة على المال واللقب. والأميرة دليل على التحالف. طالما ندفع المال الذي يحتاجونه، فلن يستطيعوا فعل شيء.”
وكان آرون على حق. فلو قدمت عائلة ترييد المال الذي تحتاجه العائلة المالكة، فسيُعدّ ذلك التزامًا بالعهد. كما لا يمكن للعائلة المالكة فسخ الزواج لأن أحد الورثة خسر النزاع الداخلي.
“بما أن وجهك يبدو كأكثر الوجوه ظُلمًا في العالم، فدعني أقدّم لك عرضًا خاصًّا.”
“…….”
“إن أنجبت طفلاً من الأميرة كورديليا خلال سنة واحدة، فسأتخلى لك عن منصبي وأذهب لأعيش في مكان هادئ.”
طلب آرون من إدوين أن ينجب طفلاً خلال سنة إن كان يريد حقًّا امتلاك شركة ترييد. وإن فعل، فسوف يعترف به فورًا كمالك لها.
***
“بما أن الأميرة قالت أنها ستبذل جهدها، فالأمر متروك لمدى رغبتك أنت.”
ثم قال إن وراثة شركة ترييد تعتمد على عزيمته هو. تذكّر إدوين كلمات آرون وأطلق ضحكة فاترة.
“عجوز ماكر…….”
كما أن المرأة لا تستطيع الحمل وحدها، فلا يمكن للرجل إنجاب طفل من دون الطرف الآخر. في هذه المسألة، لا يفيد التمنّي من دون إقناع الشريكة.
غير أنّ إدوين أخبر كورديليا مسبقًا إن خسارتها لجمالها سيكون مأساة للبلاد، وأن عليهما ألا يتعجّلا الإنجاب. بل وحتى ليلة زفافهما وعدها أن تكون تلك الليلة الأخيرة بذلك المعنى.
اللعنة……
ابتلع إدوين شتيمته التي وصلت إلى حلقه. كان يغيظه أنّ الظروف دفعته لتغيير كلامه. وبينما هو يفكّر، اقتربت كورديليا بخطوات خفيفة، تراقب ملامح وجهه قبل أن تصعد بحذر إلى السرير.
“إدوين؟”
تأمّلت كورديليا ملامحه القلقة باستغراب. فأجابها بابتسامة لطيفة كأن شيئًا لم يزعجه قبل قليل. فبادَلته كورديليا الابتسامة بدهشة.
“كنت أفكر…… ماذا لو قرر أبي فعلاً إنه لن يُورّثني شركة ترييد ما لم ننجب طفلاً؟”
راقبها إدوين بصمت ثم طرح السؤال وعيناه تحملان شيئًا من الأمل بأن تتخذ قرارًا جيّدًا.
“هل يعقل أن يضع شرطًا جائرًا كهذا؟”
وجاء ردّ كورديليا مطابقًا لما كان يتوقعه.
“حتى لو وضع شرطًا كهذا، فأنت تزوجتُني وأنا من العائلة الملكية، وأنت أيضًا الابن الأكبر للعائلة. لن يبقوا متجاهلين الأمر حتى النهاية.”
“هكذا تفكرين إذن.”
“إنه تفكير لا داعي له يا إدوين.”
ضحكت كورديليا قليلاً وأسندت رأسها إلى الوسادة.
وبحسب المنطق العام، كانت محقّة. فلم يعلن أحد هذا الشرط على الملأ. جمع إدوين نفسه.
عليه أن ينام أولاً ويفكر بعقل صافٍ عندما يستيقظ. فلا فائدة من التمسّك بشيء مضى.
“لقد تأخّر الوقت. سأطفئ الضوء فاستريحي.”
وفي هذه الحالة، عليه أولاً أن يجعل هذه المرأة تنام.
غطّى إدوين جسد كورديليا باللحاف وهمس لها بأن الوقت قد حان للنوم. فأغلقت عينيها مطيعة كطفلة هادئة.
وفور أن انطفأ ضوء الشمعة بنفَسه الخفيف، انغمس المكان في ظلام ثقيل. وأغمض إدوين عينيه محاولاً النوم.
وراوده حلم قديم.
***
كان إدوين في السابعة يحب الناس. حتى أنه أحبّ السيدة ليان وبارتون اللذين ظهرا فجأة كعائلة بعد وفاة والدته التي عانت طويلاً من المرض. فهما على أي حال عائلته. كما أن بارتون كان يتبع أخاه غير الشقيق إدوين بحميمية.
“أمّي، لقد تسلّقتُ الشجرة اليوم مع أخي……!”
وكما يفعل الصبيان عادة، كانا يتسلّقان الأشجار ويتقاذفان الماء. وتعلّم بارتون من إدوين كيف يركب المهر الصغير.
“انظر إلى هذا المنظر المقزّز!”
كانت السيدة ليان تغضب في كل مرة تراهما فيها هكذا.
“بارتون، يداك متّسختان بالطين. لا تلمس وجهك!”
وكان بارتون يضحك لأنه يعرف أن ذلك بدافع المحبة، بينما كان إدوين ينكمش قليلاً دون أن يشعر. فالنظرة اللامبالية في عيني السيدة ليان حين تنظر إليه كانت أشبه بالعتاب. ولم تكن عيناها تنظران إليه بعطف يومًا.
“إدوين، أخشى أن تتأذى، أرجوا ألا تلعب مع بارتون ألعابًا خطرة.”
“سأحترس……”
تنهدت السيدة ليان تنهيدة خافتة ردًّا على إجابته الحذرة.
“كم مرة كررت هذا الكلام؟ إنك نسخة طبق الأصل من تلك المرأة.”
ووجّهت نظرة حادة إلى خيال آرون الذي بدا أمام وجه إدوين. فخفض رأسه وهو يظن أنها تشاجرت مع آرون مجددًا. فكلما تشاجرا, ازدادت برودتها تجاهه.
“مثير للإشمئزاز، حقًا.”
تمتمت وهي تنظر إلى الدرج. فحرّك إدوين أطراف أصابعه بتوتر وهو يراقبها.
“…….”
ثم فجأة، التفتت السيدة ليان إليه بابتسامة. وكان الطفل حينها غير قادر على فهم التقلب المفاجئ في المشاعر والتعبير.
“إدوين.”
“نعم؟”
“انزل واطلب من إحدى الخادمات أن تحضر منشفة مبللة وأخرى جافة، هل تفعل ذلك؟”
هزّ إدوين رأسه بسرعة، واستدار من الدرج الذي صعده مع بارتون قبل قليل. كان يريد أن ينال مدحها.
“آه……!”
وكان ذلك في اللحظة التي رفع فيها قدمه للنزول. أحسّ بشيء يلمس ظهره، ثم دفعٌ ألقى بجسده الصغير في الهواء. بدا الزمن بطيئًا بصورة غريبة. التفت إدوين نحو الطابق الثاني. كانت السيدة ليان تنظر إليه بوجه خال من التعابير.
“إدوين!”
وعندما هوت به الأرض أخيرًا، صرخت السيدة ليان. وهرعت الخادمات. ورغم تدحرجه عبر عدّة درجات، فإن وعيه لم يغب.
ورأى بوضوح السيدة ليان وهي تُبعد يدها عن فمها وتبتسم ابتسامة باهتة.
وكان ذلك الوجه قذرًا ودنسًا كرائحة الدم المعدنية التي غمرت أنفه.
التعليقات لهذا الفصل " 24"