تجمّع ضوء الشمس الذي اخترق نافذة مقهى القهوة المتّسخة فوق رموش إدوين الطويلة والكثيفة.
“في صغري، كنتُ أصدق أيضًا أنهم عائلتي. لكن منذ زمن بعيد حاولت السيّدة ليان قتلي، وبارتون رغم معرفته بذلك أدلى بشهادة زور.”
اندفع الحقيقة الصادمة فجأة دون أي تمهيد. وازدادت صدمتها أكثر وهي تستمع لماضٍ لا يتوافق مع مظهره الجميل الذي يبدو وكأنه لم يعانِ يومًا. لم تستطع كورديليا قول أي كلمة، وارتعشت شفتاها بلا صوت.
“هايلي ترييد باعت لقب أسرتها المنهارة لتتواطأ معهم. والآن، بوجهٍ متأنّق، تقوم بدور خادمة السيّدة ليان وتحاول قتلي.”
“آوه……”
“لذا لا أعتبرهم عائلتي، ولا أظن أننا نتنافس بشكل معتدل على منصب وريث شركة ترييد.”
كان صوت إدوين رتيبًا بلا أي ارتفاع أو انخفاض. بدا أن حياته القاسية جعلت ذلك السكون جزءًا منه.
“هل زال فضولك الآن؟”
هزّت كورديليا رأسها بصمت. لم تكن تملك القدرة على متابعة حديث مخيف كهذا وكأنه أمر عادي، خاصة بعدما سمعت أنه نجا من الموت في طفولته.
“إذًا لنخرج.”
“لكن… أنت لم تُنهِ شرابك بعد.”
“وكوب سموكِ لم يُمسّ أيضًا، أليس كذلك؟”
عند سؤال إدوين، ابتسمت كورديليا ابتسامة مبهمة. فهي التي أصرت على المجيء، ومع ذلك لم تشرب سوى رشفة أو اثنتين، فشعرت بالإحراج.
“يمكنكِ شرب القهوة في القصر أيضًا، فلننهض.”
وضع إدوين فنجانه على الطاولة ونهض من مقعده. كان يحب ممازحتها أحيانًا، لكن ليس بحبسها في مواقف لا تحبها ولا بإزعاجها حقًا.
أومأ إدوين ومدّ يده نحو كورديليا. أمسكت بيده الكبيرة والصلبة ونهضت من مقعدها.
“إنه إهدار للمال.”
“أتفكرين هكذا أيضًا يا سموك؟”
“بالطبع……. إدوين، أنت تسخر مني الآن، أليس كذلك؟”
أنكر إدوين بهدوء، ثم اصطحب كورديليا خارج المتجر، متجاهلاً صوتًا خلفهما بدا وكأنه زفرة ارتياح.
“ألا يوجد شيء يمكن رؤيته بالقرب من هنا؟”
“حسنًا…….”
مع رنين الجرس مجددًا، انقطع ضجيج المقهى خلفهما. مال إدوين برأسه قليلاً وكأنه يفكر، ثم أخرج صوتًا قصيرًا: “همم.”
“أوه.”
دُووم.
ارتفع صوت مفاجئ ففتحت كورديليا عينيها باستغراب. واتجهت عينا إدوين تلقائيًا نحو مصدر الصوت، بعد أن كان يفكر أين يمكنه اصطحابها. كان هناك فتى يضغط على قبعته البنية ويقف بينما يمسح على ركبته، ثم فرّ عميقًا داخل الزقاق.
“لا بد أنه آلم نفسه.”
“يبدو أن الخوف من الجوع أشدّ عليه من الألم.”
كان صبيًا نشالاً مألوفًا في الشوارع. صغير البنية، سريع الحركة، بحيث يصعب على الشرطة الإمساك به داخل الأزقة.
وبالفعل، وصل رجال الشرطة متأخرين، فمشّطوا مدخل الزقاق ثم نقروا ألسنتهم بخيبة واستداروا. يبدو أنهم فقدوه.
“لماذا لا يدخلون للداخل؟”
سألت كورديليا والفضول يشعّ في عينيها.
“ذلك الزقاق هو حيّ للفقراء. الأيدي أسرع من القانون هناك. ولو دخل رجال الشرطة بعدد قليل فسينتهي بهم الأمر في وضع سيّئ.”
أجاب إدوين بلا مبالاة.
“لا تنظري إلى الداخل أبدًا.”
بدت الحدة واضحة في طلبه. ورغم أنه كان من عامة الناس، إلا أن إدوين لم يكن مهتمًا بكيف يعيش أبناء الأحياء الفقيرة. بل إن وجهه المتجمّد كان يوحي بنفورٍ منهم.
“حسنًا.”
في النهاية، كانت عائلة ترييد قد رسّخت مكانتها منذ عهد والد آرون، وازدهرت في عهد آرون نفسه، لذلك البيئة والثقافة التي نشأ فيها إدوين لم تكن تختلف كثيرًا عن حياة النبلاء ما عدا اللقب.
“…….”
لكن رغم ذلك، بدا إدوين متأقلمًا تمامًا حتى في أماكن مهترئة ومتواضعة كالمقهى. وكلما عرفته أكثر، بدا لها رجلاً ذا جوانب يستحيل فهمها بسهولة.
“إن لم يكن لديكِ مكان آخر ترغبين بزيارته، فهل نتجول في السوق؟”
سألها بصوت منخفض حين بدأت تشعر بشيء غريب في صدرها.
“السوق؟”
في لحظة، أزال إدوين ذلك الشعور الغامض من صدرها وأثار اهتمامها. جزء من ذلك لأنها بسيطة، والآخر بسبب مهارته في جذب الانتباه.
“هناك سوق في طريقنا إلى شركة ترييد. وهو قريب من القصر، نظيف وآمن، لذا ستستمتعين بالتجول فيه.”
كان اقتراحه مشوقًا. فصحيح أنها خرجت من القصر سابقًا، لكن كل الرحلات كانت ذات أهداف محددة. لذا لم ترَ الشوارع إلا من نافذة العربة. وكانت تملك الكثير من الفضول.
“صحيح أنه سيكون مزدحمًا قليلاً، لكن ربما تُقام فعاليات تستحق المشاهدة.”
أما الكنيسة والبرج فقد سبق أن زارتهما مرارًا، ولم ترغب بقضاء وقتها فيهما مجددًا.
“حسنًا.”
أومأت دون تردد، فبدأ إدوين في قيادتها نحو السوق.
مع دخول السوق، تغيّر المشهد. فعدد الناس حسنِي المظهر الذين كانت تراهم قرب الساحة انخفض بوضوح.
“إنه مدهش…….”
كانت هذه أول مرة ترى مفهوم السوق حقيقةً، فرأت المكان وكأنه عالم آخر. على جانبي الطريق اصطفّت المتاجر، وتنوّعت البضائع بشكل كبير.
“لا يبيعون المجوهرات في مكان كهذا، صحيح؟”
“يتعاملون بها أحيانًا في متاجر الرهن.”
ضحكت كورديليا وكأنها سمعت طرفة. لم يكن في نيتها السخرية، إنما كانت ببساطة تجهل حياة عامة الناس.
“خبزٌ ساخن وطازج! خبز مخبوز مع الزيتون!”
في ذلك الوقت، لوّح صاحب المخبز بحبل الجرس، فانطلق صوت الجرس عاليًا، وتجمع الناس بسرعة.
“هل سموكِ جائعة؟”
لاحظ إدوين أن عيني كورديليا علقتا بالمخبز. لم تكن قد أكلت قبل خروجها سوى بضع قطع من الفاكهة، فمن الطبيعي أن تشعر بالجوع.
“آه، أنا بخير…….”
نظرت كورديليا إلى بطنها. كان مسطّحًا بمظهر جميل.
“أما أنا فأشعر ببعض الجوع. سأرسل أحدهم ليشتري رغيفًا. يمكنكِ تذوّق القليل.”
وبينما كان يراقبها، استدعى طفلاً مارًا وأعطاه ثمنًا زائدًا، وطلب منه شراء رغيف. لم تمنعه كورديليا رغم قولها إنها بخير.
همم، لعلّ قضمة واحدة ليست سيئة……
وفي تلك اللحظة تمامًا—
“ها هو، أحضرت الخبز الذي طلبتَه……!”
عاد الصبي مهرولاً يحمل الرغيف ملفوفًا بالورق، لكنه أسرع أكثر مما يجب، فتعثّر وفقد توازنه وسقط.
“سموكِ!”
لم يتدحرج الخبز الساخن على الأرض فحسب، بل اصطدم الصبي بكورديليا أيضًا. أسرع إدوين بالإمساك بها وهي تترنح كدمية ورقية.
“إدوين، الخبز…….”
خافت كورديليا للحظة، ثم نظرت إلى الخبز الذي غطاه التراب والغبار، فبدت ملامحها حزينة.
“سموكِ؟ أليس ذاك الرجل هو إدوين ترييد؟”
وبينما تنحني، انفكّ رباط القبعة تحت ذقنها وسقطت قبعتها أرضًا. وانكشف وجهها الجميل دون أي حماية.
“إذًا تلك السيدة هي الأميرة كورديليا؟”
عند هذه الهمسات، خيّم الصمت على السوق.
“نحيّي الأميرة.”
وخلال لحظات، استعادت الحشود وعيها وبدأوا يحيّونها باحترام. فعدّلت كورديليا وقفتها، ورفّت بعينيها بخجل. لم تفهم ما يجري تمامًا، لكنها أدركت أن وقت القلق على الخبز قد مضى.
“أنا آسف! لقد أخطأت!”
انحنى الصبي فور أن أدرك أنه أفسد مهمة ملكية.
“إدوين.”
أمسكت كورديليا بكمّ إدوين وهزته قليلاً. بدا الطفل شاحبًا كمن سيموت بسبب خطأ بسيط كهذا. وفي النهاية، هناك الكثير من الطعام في القصر، فما الضرر لو ضاع رغيف؟
وفوق ذلك، كانت عيون الناس مخيفة. ففي الاحتفالات السنوية كانوا يصرخون امتنانًا لها. لكن الآن، اختلطت في أعينهم مشاعر الخوف والاحتقار والرهبة. فتملّكها الرعب الفوري، وأرادت إنهاء الموقف والمغادرة.
“انهض.”
أمره إدوين بحدة بعدما لاحظ ذلك. فنهض الطفل وهو يشهق بالبكاء.
“لن ينهار العالم بسبب هذا، فتوقف عن البكاء وعدّل ثيابك.”
وبما أن خبر وجودهما سينتشر فورًا عبر أفواه الناس، فقد رأى إدوين أن الاستمرار في التجول لم يعد ممكنًا. فأدار ظهره وهو يقود كورديليا بعيدًا.
“الـ… القبعة سقطت…….”
التقط الطفل القبعة من الأرض بعد فوات الأوان، فقد رحل الزوجان الملكيان، تاركين خلفهما قبعة متّسخة تحمل آثار يديه المخدوشة والمغطاة بالغبار.
التعليقات لهذا الفصل " 22"