سألت كورديليا وهي تشير بعينين متلألئتين إلى المبنى الذي ظهر خلف نافذة العربة.
“ذلك المبنى هو المسرح الكبير. مضى على اكتماله نحو خمس سنوات الآن.”
أجاب إدوين وهو يلقي نظرة عبر النافذة.
“وهو أيضًا ملك لشركة ترييد.”
“لا أظن أن والدي ترك شيئًا لم يمتلكه.”
أومأت كورديليا برأسها بهدوء. فقد قيل إن آرون، الذي أصبح من كبار أثرياء مملكة روتشستر، كان يمد يده إلى أي مشروع يبدو مربحًا دون تحفظ. وكانت تتذكر على نحو غامض ما قاله شقيقها لورنسن عن أن أموال عائلة ترييد تجلب المزيد من المال.
“المسرح الكبير… كنت أتساءل عنه.”
“يبدو أننا أوشكنا على الوصول. سأتفقد إن كان لديهم مواعيد للحفلات وأحجز لكِ مقعدًا جيدًا، وستتمكنين من زيارته حينها.”
قال إدوين بلطف وهو يخرج ساعته ويتفقد الوقت. لم يكن واضحًا إن كان سيذهب معها أم سيكتفي بالحجز فقط.
“لقد وصلنا إلى وجهتنا.”
وما إن أنهى إدوين تقدير الوقت حتى جاء صوت الطرق على باب العربة مع إعلان الوصول.
“أمسكي بيدي.”
“واو….”
تمتمت كورديليا بدهشة وهي تمسك بيد إدوين وتنزل من العربة.
في وسط عاصمة مملكة روتشستر كويل، كانت هناك ساحة كبيرة تحتضن نافورة، ومن تلك الساحة تتوزع الميناء والمباني الدينية والسوق والقصر الملكي إلى الجهات الأربع.
“لم أكن أعلم أنها بهذا الكِبَر.”
رفعت كورديليا يدها تغطي فمها وهي تتلفّت حولها. فهناك فرق بين المعرفة والنظر بأمّ عينك. وبغضّ النظر عن مدى ضخامة القصر، فإنه لا يمكن أن يكون أوسع من شوارع المدينة الخارجية.
“لأننا في مركز العاصمة.”
شرح إدوين بهدوء.
“من أين ترغبين أن نبدأ التجوّل؟”
قادها إدوين نحو النافورة في وسط الساحة.
“هل نذهب إلى المتجر الكبير؟”
وجهه الوسيم الذي بدا من تحت القبعة الأنيقة، وقطرات ماء النافورة المتناثرة خلفه، لكن الأشد جاذبية من كل ذلك كان ثروته… جعلت كورديليا ترمش كالمسحورة قبل أن تهز رأسها مستيقظة من الشرود.
“يمكن دائمًا استدعاء أحدهم إلى القصر لهذه الأمور.”
“إذًا؟”
“…قهوة؟”
في تلك اللحظة، هبّت نسمة خفيفة فاهتزت ياقة معطف إدوين وانبعثت منها رائحة غريبة مألوفة قليلاً. كانت قريبة من رائحة القهوة التي كان يشربها قبل خروجه.
“تعنين قهوة الشرب؟”
“آه، شممت رائحتها من مكانٍ ما.”
كانت ذريعة سريعة حتى لا يكتشف أنها كانت تحدّق فيه، لكنها لم تكن مبررًا سيئًا.
“هناك مقهى قريب، ولعل الرائحة منه.”
“مقهى؟ ماذا لو ذهبنا لرؤيته؟”
على الأقل لن تظهر كفتاة عديمة اللباقة تحدّق في رجل حتى تنحبس كلماتها. تهلّلت أسارير كورديليا.
قال إدوين بنبرة توحي بأن عليها إعادة التفكير. وكان يمكن تفهّم قلقه.
لم تعد المقاهي تحتفظ بشهرتها السابقة، بينما ظل أفراد العائلة المالكة والنبلاء يفضلون الشاي وثقافتهم الخاصة. وكانت كورديليا مثلهم، فلم تتذوق القهوة قط. لكنها رأت إدوين يشربها كل صباح، فأصبحت فضولية بشأن مذاقها.
“لم أتذوقها لأن والدي كان يعارض ذلك. لكن رائحتها كانت رائعة حين كنتَ تشربها قبل قليل.”
“إذن، سأصحبكِ إليه.”
طالما أنه يشربها دون أن يبدو كمن يتجرّع سمًّا، فلا بأس. وإن كان طعمها جميلاً مثل رائحتها، فسيكون ذلك أفضل.
“هل أنتِ متأكدة من رغبتك في الدخول؟”
عندما وصلا أمام المقهى، سألها إدوين مرة أخرى. كان واضحًا أن المبنى القديم لم يكن جذابًا.
“لقد وصلنا على كل حال، فلندخل إذًا.”
فإذا ما رُفع السيف فلا بد أن يُقطع ولو غصنٌ صغير. لم تتراجع كورديليا. عندها رفع إدوين حاجبه قليلاً ثم أنزله وهو يفتح الباب.
“على الأرجح أن هذا الزواج مختلق فقط لتهدئة الجدل…!”
وما إن رن جرس الباب حتى تحوّلت كل الأنظار إليهما. صمت المكان الصاخب فجأة. تشبثت كورديليا بذراع إدوين وهي تحرك عينيها بارتباك.
“فنجانان من القهوة.”
قال إدوين ببرود وهو يعطي النقود للنادل ويدخل. لكن لسوء الحظ، لم يكن هناك مكان للجلوس. فالطاولتان الكبيرتان في الداخل كانتا شبه ممتلئتين بالكامل، ومعظم المقاعد يشغلها رجال.
“لكنني سمعت أن هناك نساء أيضًا…؟”
كان المشهد مفاجئًا بالنسبة لكورديليا التي تخيلت رجالاً ونساءً يتحاورون معًا. حاولت تجنّب النظرات الموجهة إليها وتشبثت بإدوين.
“وجود النساء هنا قليل جدًا.”
“آه….”
إلا بعض النساء المثقفات، لم تكن النساء يدخلن المقاهي. بل إن أصحاب بعض المقاهي كانوا يمنعونهن. إذ كانوا يعتقدون أن المرأة التي تتحدث في أمور السياسة امرأة صعبة الطباع. وكانت كورديليا —غير المهتمة أصلاً بالأعمدة السياسية في المجلات— تجهل ذلك.
“يا هذا، هنا—”
“شش! إنه إدوين ترييد!”
كان أحدهم على وشك قول شيئًا عن إدوين، لكن الرجل بجانبه أسرع في كتم فمه وسحبه إلى الخارج. ثم تبعهم الآخرون دفعة واحدة. وبقي بضعة رجال يراقبون الخارج وهم يحتسون قهوتهم بهدوء. وسرعان ما أصبح الجو ساكنًا ومحرجًا.
“لقد خلت المقاعد الآن.”
جلست كورديليا بتردد على طرف الطاولة. وفي اللحظة نفسها جاء النادل بفنجاني قهوة يتصاعد منهما البخار.
“إنها ساخنة، اشربيها بحذر.”
أشار إدوين إلى فنجانها. وكان هذا موضوعًا جيدًا لتخفيف التوتر.
“إنها مُرّة جدًا! كأنهم نقعوا الشاي حتى صار قابضًا.”
ارتسمت ابتسامة على وجه إدوين وهو يسمع تذمّرها.
“وتبدو مستمتعًا بذلك.”
كان يضحك بينما تتعذب هي بالمرارة.
ضحك إدوين ووضع مرفقيه على الطاولة ليستند بيده إلى ذقنه. حدقت كورديليا إليه بوجه متجهم قليلاً.
“الجميع يفكر هكذا في أول مرة.”
كان يمكنه تحذيرها بشكل أقوى، وهذا ما جعلها تلومه قليلاً. لكنه لم يكن مذنبًا، فهي التي أرادت تجربة القهوة. فاللوم ليس من شيم السيدات المهذبات.
لم تستطع إخراج لسانها كطفلة، فكانت تبتلع الطعم المرّ وهي تعبس، ثم توقفت فجأة. كان الرجل أمامها يضحك بسعادة. وكان شكل عينيه المنحنيتين دائمًا يبدو أكثر نعومة اليوم.
بالنسبة لكورديليا، كانت القهوة مُرّة ومذاقها مؤذٍ. لكن وجه إدوين الذي يبتسم وهو يصفها بأنها “جذابة” كان أجمل من أي شيء. مؤذٍ مثل مذاق القهوة نفسها.
“….”
رفعت الفنجان نحو وجهها وهي تنظر إليه خلسة، وكأنها تتلصص على زوجها. لم يمض وقت طويل منذ بدأت بالنظر إليه، لذلك لم تتكون لديها مناعة ضد وجهه بعد. ربما لأن ذلك الوجه الجميل هو نوعها المفضل.
“يومًا ما، ستجدين مذاقها محببًا أيضًا.”
كان إدوين يشرب القهوة بسلاسة، خلافًا لارتباكها. ربما لأن بينهما ست سنوات كاملة، فبدا أكثر نضجًا.
“أهكذا؟”
نظرت كورديليا بسرعة إلى الداخل البالي للمقهى، والفنجان المتشقق، والطاولة السوداء المحترقة. وبمجرد أن بدأت ترى التفاصيل التي لم تعجبها، شعرت بأنها لا ترغب في البقاء.
‘ أريد الخروج. لا توجد حتى فتيات من عمري هنا.’
عضّت شفتيها، ثم أشارت إلى فنجان إدوين. كان نصفه لا يزال ممتلئًا.
“هل ترغبين بالخروج؟”
“لا، لقد دخلنا للتو.”
لم ترد أن تبدو سخيفة وتخبره بأنها ترغب في الخروج فور دخولها. سرعان ما أنكرت وارتشفت القهوة مجددًا.
“….”
كان الطعم سيئًا مجددًا…
لكنها، وسط تنهّدها البائس، لم تستطع وضع الفنجان جانبًا، لأنها شعرت بثقل النظرات الموجهة إليها. وكانت تلك النظرات غير ودية إطلاقًا.
“إدوين.”
قررت أنها يجب أن تتحدث.
“هل هناك سبب يجعلكَ مهووسًا بامتلاك شركة ترييد إلى هذا الحد؟”
كانت هناك أشياء تريد معرفتها منه. ولو لم تسأل مباشرة، فلن يخبرها أبدًا.
“الجميع يعرف أنك الوريث المتوقع لشركة ترييد. فلماذا كل ذلك القلق من بارتون أو هايلي؟”
ابتسم إدوين بخفة، وكأنه رأى سؤالها لطيفًا.
“قد تكون العلاقة بينكما —بين سموّ ولي العهد وسموكِ— جيدة، لكن في عائلات بلا جذور مثل عائلتنا… لا يمكن أن نغفل للحظة واحدة.”
التعليقات لهذا الفصل " 21"