داعبت نسمة خفيفة قماش الستارة الرقيق المتدلّي من السرير، فهزّته قليلاً وطرقت وعيَ كورديليا.
“أم…….”
فتحت كورديليا عينيها بالكاد قليلًا، ومسحت بنظرات مثقلة بالنعاس أرجاء المكان ببطء. ولشدّة غرابة البيئة من حولها، اتسعت عيناها للحظة قبل أن تتذكّر أنها جاءت إلى منزل ترييد مع إدوين في اليوم السابق. رفعت الجزء العلوي من جسدها ببطء وجلست، ثم حرّكت عينيها إلى الجانب.
وكما توقّعت، كان جانب السرير الذي نام عليه إدوين خاليًا. يبدو أنه لا ينام كثيرًا في الصباح. وفجأة شعرت بشيء من الخيبة لمجرّد أنها تذكّرت أنّ الشخص الوحيد الذي يمكنها الاتكاء عليه في هذا المنزل هو إدوين.
ولكن، ما الفائدة؟ الشخص الذي غادر لن يعود لمجرّد رغبتها بذلك. تنهدت كورديليا بصوت خافت وهزّت الحبل المعلّق بجانب السرير. وفورًا سمعت طَرق على الباب.
“هل ناديتني؟”
“ادخلي.”
انفتح الباب مع كلمات كورديليا، وظهرت خادمة تتقدّم بخطوات حذرة.
“أنا رينا، الخادمة التي ستخدم الأميرة من اليوم.”
كانت رينا فتاة ذات شعر أحمر ونمش متناثر على خدّيها يمنحها طلة لطيفة.
“سعيدة بلقائك، رينا. أين ذهب إدوين؟”
تجاهلت كورديليا بكل سهولة حقيقة أن الفتاة أيضاً بالكاد تجاوزت العشرين، وابتسمت لها بلطف.
“آه، لقد أنهى فطور الصباح وهو الآن يتحدّث مع السيد آرون.”
دائمًا مشغول… فكّرت كورديليا، ثم تذكّرت كلمة غير متوقعة جعلتها تميل برأسها.
“فطور الصباح؟”
“نعم. الجميع يتناول الطعام في الصباح الباكر.”
بالطبع، الوقت الذي استيقظت فيه كورديليا لا يمكن اعتباره صباحًا باكراً حتى من باب المجاملة. لكن لم يكن هذا هو المهم. المهم أنهم أنهوا الطعام من دونها.
“هل يجتمع الجميع كل صباح لتناول الطعام؟ وقد انتهى بالفعل؟ ولم يُوقظني أحد؟”
“لقد… لقد صدرت أوامر بألّا نوقظ سموّك لأنكِ كنتِ نائمة بعمق.”
قالت رينا بسرعة كالرصاص، وكأنها تخشى إثارة أي سوء فهم.
“مِمَّن؟”
“من السيد إدوين! لأنه قال إن غرفة النوم تغيّرت عليكِ، وقد تكونين متعبة…”
كان كلامه صحيحًا. ومع ذلك، شعرت كورديليا بانزعاج خفيف.
“…أريد أن أغتسل أولاً.”
“سأحضّر الماء الدافئ حالاً.”
انحنت رينا بعمق وغادرت الغرفة مسرعة.
وبقيت كورديليا وحدها على السرير، تُخرج شفتها في تذمّر. بدا أن إدوين دائمًا يراعيها، لكن تلك الرعاية لم تكن موجهة لها تمامًا كما تشعر. لم يكن يسألها عمّا تريد أولاً. ومع ذلك، بدا من الصعب الشكوى حتى لا تظهر وكأنها ضيقة الأفق.
بعد ذلك، وبمساعدة رينا، أنهت كورديليا حمّامها وعادت إلى غرفة النوم بوجه دافئ محمرّ الوجنتين وبشرة متورّدة.
“لقد استيقظتِ. هل نمتِ جيدًا؟”
كان إدوين قد عاد إلى الغرفة دون أن تنتبه. ألقى عليها تحية خفيفة بعينيه. وربما لأنه داخل المنزل، كان يرتدي ثيابًا مريحة بلا ربطة عنق.
“نمت جيدًا. وأنت؟”
“تحدّثت قليلًا مع والدي بعد الإفطار. فقد حققت الأعمال الفنية التي تعاقدت عليها شركة بارتون مع الفنانين رواجًا كبيرًا.”
“آه، هذا خبر جيد لك…”
“ليس تمامًا. كيف ترغبين بتناول الإفطار؟”
رغم ابتسامته، لم يبدُ سعيدًا. لاحظت كورديليا ذلك، فأخبرته بأنها تكتفي بوجبة خفيفة. فأمر أحد الخدم بإحضار طبق من المأكولات البسيطة والفاكهة مع الشاي.
وفي هذه الأثناء، كانت رينا تجفف شعر كورديليا وتسرّحه بوجه متوتر، وكأن أقل هفوة قد تؤدي إلى قطع رقبتها.
“في أي ساعة تتناولون الإفطار هنا؟ قلت إن الجميع يتناول الطعام معًا، صحيح؟”
كانت رينا ترفع شعر كورديليا وتجدله ثم تلفه كعكة على رأسها، بينما كانت كورديليا تنظر في المرآة ثم تسأل إدوين الذي يقف خلفها.
“في السادسة صباحًا.”
أجاب إدوين بعدما أمر الخادم بوضع الطعام على طاولة الزينة.
“السادسة؟”
استدارت كورديليا نصف دورة نحوه، وقد نسيت الطعام تمامًا.
“لأن الجميع يبدأ العمل منذ الصباح الباكر. هذه حال عامة الناس الذين يعملون لكسب قوتهم.”
قالها إدوين ببساطة. فأدركت كورديليا مجددًا أن الرجل الذي تزوجته ليس من طبقة النبلاء.
نعم. عائلة آرون ترييد كانت عائلة من عامة الشعب تدير شركة. لم يكونوا من أولئك النبلاء الذين يقضون صباحهم في الصيد والثرثرة.
“وفي أي ساعة تخرجون للعمل؟”
“في السابعة يجب أن نغادر المنزل.”
“وهل يستيقظ الجميع في ذلك الوقت؟ حتى السيدة ليان وهايلي؟”
“هم أشدّ حرصًا على نيل رضا والدي.”
سألت عمّن لا يعملون كالسيّدة ليان وهايلي، وجاءها الجواب بأنهما بالطبع تستيقظان أيضًا في تلك الساعة.
“لكن سموّك لستِ مضطرة للحضور في مائدة الإفطار.”
“ولم؟”
“والدي راضٍ تمامًا بوجودك داخل المنزل.”
ابتسم إدوين بلطف، وكأن الأمر بديهي لا يحتاج سؤالاً.
“فقط عيشي حياتك كما اعتدتِ.”
كان كلامه صحيحًا. فمهما كانت ظروف كورديليا التي أجبرتها على الانضمام إلى عائلة ترييد، لم يكن هناك سبب لأن تخضع لهم أو تتنازل عن شيء.
“هل حقًا لا بأس بذلك؟”
ومع ذلك، لم تستطع إخفاء حذرها. فهي لا تريد أن يكرهها من أصبحوا عائلتها الجديدة. لقد اعتادت طوال حياتها سماع الكلام اللطيف فقط، ولم تعتد الأصوات الحادّة أو اللوم.
“بالطبع.”
أجاب بسرعة ودون تردد، وكأنه لم يرَ داعيًا للقلق. وفي تلك اللحظة، كانت الستارة قرب النافذة ترفرف بشدة، وكأنها تعاتبه.
***
“هذا هو عقد ما قبل الزواج الذي أبرمه إدوين مع الأميرة كورديليا؟”
تمتم آرون بضحكة ساخرة وهو ينظر إلى الورقة التي يحملها. كان سكوت قد أحضرها بنفسه وسلّمها إليه.
“كيف سمح ذلك الذي يسمّونه سكرتيره بكتابة هذا الكلام؟”
صرخ آرون بغضب وهو يضرب المكتب بقوة. فارتعش جسد سكوت الواقف أمامه تلقائيًا. صحيح أنه يُظهر نفسه أمام كورديليا كعجوز لطيف يضحك دائمًا، لكنه في الحقيقة لم يكن كذلك. كان رجلاً سريع الغضب، وعندما يرفع صوته يخلق شعورًا بالاختناق يجعل الآخرين يبدون كفئران أمام قط.
“لو كنت أعلم بذلك، لما تركته يكتبه أبدًا.”
انكمش سكوت تحت صوته، ثم تجرأ على إضافة تفسير حذر:
“أعدّه عندما كان لوحده مع الأميرة.”
“هكذا إذن؟ لم يخبرني بشيء مسبقًا.”
بدا كلامه كأنه يشي بإدوين، لكن سكوت وجد أنه من الظلم أن يتحمّل اللوم وحده.
“ذلك الشقي… هل يحاول الاحتجاج على الزواج الذي أرغمتُه عليه؟”
زمجر آرون بينما يفتّش تلقائيًا عن سيجاره. وبعد لحظات، وجد العلبة فارغة تمامًا.
“لا أحد هنا يعرف كيف يقوم بعمله!”
رماها أرضًا بعصبية، فدارت وارتطمت ثم توقفت قرب قدمَي سكوت وهي منبعجة.
“…….”
الشكر للرب لأنه لم يرمها عليّ…
لو أصابتني لتهشّم رأسي. شبك سكوت يديه أمام بطنه بانضباط. كان إدوين يخيفه لأنه يتصرف أحيانًا بتصرّفات غير مفهومة ككتابة عقد زواج غريب كهذا، أما آرون… فقد كان مخيفًا بدرجة مختلفة تمامًا. لولا هذا العقد، لما تجرّأ سكوت على إغضابه ولو قليلاً.
“أين هو الآن؟”
“السيد إدوين خرج مع الأميرة.”
بعد إجابة سريعة منه، أعاد آرون العقد إليه وهو يطلق زفرة منخفضة.
“هل ستترك الأمر هكذا؟”
سأل سكوت بحذر وهو يستعيد الورقة، ليتأكد إن كان آرون ينوي السماح لإدوين بالالتزام بما كتب.
“طبعًا لا. هل تظنّني أنفقت كل تلك الأموال لأجعله يعيش حياة زوجية هادئة مع الأميرة فقط؟”
ردّ آرون بسرعة وكأن الأمر بديهي.
“لقد ضربني أولاً، والآن سأضربه بدوري.”
“…هل يمكنني أن أسأل ما الذي تنوي فعله؟”
“لا. أنت من رجال إدوين، ولا أثق بك. احرص فقط على رأسك، والآن… اخرج.”
أشار له ببرود نحو الباب. لم يجرؤ سكوت على الرد كما يفعل مع إدوين، بل خرج مطيعًا وأغلق الباب خلفه.
لو رأى إدوين هذا، لاتّهمه بأنه منافق وعديم الفائدة يبيع أسرار مديره، لكنه لا يعرف بعد أن سكوت سلّم العقد لوالده، وهذا كل ما يهمّ سكوت.
التعليقات لهذا الفصل " 20"