“أنا زوجتك، ومن الطبيعي أن نتحدّث في مثل هذه الأمور.”
“هو أمر طبيعي فعلاً. هذا صحيح، ولكن……”
لم يكن إدوين قد تدارك مزاج كورديليا أو غيّر نبرة صوته ليجاملها بعد.
“لكن لماذا لم تفعل؟ لم يكن الأمر أنّك لم تجد وقتًا للحديث، فلماذا تقرّر جدولك كما يحلو لك دون أن تخبرني مسبقًا؟ كم كنتُ أتطلّع إلى شهر العسل!”
“……”
“ألعلّك……”
هل يضحكه الأمر لأنني أشعر وكأنني قد تم بيعي؟
مرّت تلك الفكرة بغتة في رأس كورديليا. كان ذلك إحساسًا بالدونية تجاه وضعها. لم يقل أحد لكورديليا قط إنها بيعت، لكن الحقيقة أنها استُخدمت كوسيلة لرتق عجز القصر المالي وتصحيح إساءة لفظية صدرت عن أسرة نيفيل، فتمّت مقايضتها كقطعة فنية تُباع في مزاد.
“يقال إنك لا تهتم كثيرًا بالأمور التي لا ترغب فيها، ويبدو أنني من تلك الأمور، أليس كذلك؟”
“ومن الذي قال لك هذا؟”
“هايلي، بالطبع.”
برغم علمها بأن إدوين لا يحب ذكر اسم هايلي، أصرّت كورديليا على ذكرها لهذا السبب تحديدًا. وقد بدا إدوين كمن أدرك نيتها فأطلق ضحكة قصيرة.
“سموكِ.”
اخترق صوت منخفض أذنها. كانت كورديليا قد انغمست في أفكارها السلبية، فاعتدلت في جلستها متظاهرة بعدم الاكتراث، وحدّقت في إدوين بنظرة أكثر حدّة. كان الملك والملكة يقولان إن كورديليا ليست مُخيفة حتى لو رمقتهما بنظرات حادّة، لكن إدوين لم يكن قد عرفها بعد، وربما لم يكن الأمر نفسه بالنسبة إليه.
“أعتذر لأنني لم أخبركِ مسبقًا. لقد كان تفكيري محدودًا.”
كانت قد اعتبرت أنها أدّت ما عليها بمجرد الزواج، ولم تكن تهتم كثيرًا بما سيحدث بين العائلتين. وإن تجرّأ إدوين لاحقًا على إلقاء الدروس عليها بشكل مزعج، فقد كانت تخطّط لتهشيم قدمه بكعب حذائها ثم العودة إلى القصر. لكن إدوين فاجأها باعتذار هادئ.
“هل…… هل قلتَ الآن إنك مخطئ؟”
“نعم. قلتُ إني مخطئ.”
أُسقط في يدها هذا الاعتذار المفاجئ الذي باغتها.
من طريقة إلغائه لشهر العسل كما يشاء دون إخبارها، بدا وكأنه لا ينوي الاعتذار أبدًا، فكانت قد هيّأت نفسها للجدال معه. لكن أحدهم سحب القاعدة التي كانت تبني عليها غضبها فجأة، فانهار كل ما كانت تكدّسه، وشعرت بالذهول.
“لذلك، رجاءً لا تدفعيني لأن أغضب بتظاهرك بأنك تصدّقين كلام شخص لا تثقين به أصلاً.”
“…….”
“ولم أكن أبدًا أستخفّ بكِ يا سموكِ، فلا تفكّري هكذا.”
اعترف إدوين بخطئه بكل تواضع، بل وأقرّ بأن غضب كورديليا مبرّر. ثم بدا وكأنه أدرك كذلك ذلك الجانب السيّئ من مشاعرها، فحاول تهدئتها.
“تمامًا كما تولي العائلة الملكية أهمية قصوى لاستمرارية السلالة الملكية وللشرف، فإنني أُشدّد على مسألة واحدة وهي أسرة ترييد. لقد شعرت بالقلق من احتمال أن يهدّد بارتون موقعي، فتصرفتُ بذلك الشكل بدافع التوتر.”
“ولكن…….”
“صحيح أن زواجنا تمّ رغم استعدادكِ لتحمّل ما قد يجرح مكانتك، لكن إن بدا زوجك عاجزًا وأُطيح به من منصبه، فسيُعدّ ذلك أيضًا إساءة لشرفك يا سموك.”
“معنى…… ماذا، ماذا قلتَ للتو؟”
لم يسبق قط أن سمعت كورديليا شتيمة فاضحة كهذه طوال حياتها الهادئة. كانت تعلم أن إدوين ليس من النبلاء، لكنها لم تتوقّع أن يتحدّث أمامها بهذا الأسلوب الفجّ.
“هل تفوّهتَ بتلك الشتيمة لأنك غاضب مني الآن؟”
“……كلا.”
توقّف إدوين قليلًا كمن لم يتوقّع السؤال، ثم زفر أنفاسًا خافتة.
“هذا يعني أنّ هذا المنصب مهمّ بالنسبة إليّ لدرجة أنني لا أستطيع حتى انتقاء كلماتي أمام سموكِ.”
كان مُنهكًا عقليًا وغير قادر على التفكير بوضوح. ومع تلك الكلمات القاسية التي خرجت منه، تمكنت كورديليا من فهم مشاعره قليلاً. لقد كان الأمر مهمًا بالنسبة إليه لدرجة أنه ألغى شهر العسل وهو يعلم أنها ستغضب، ولم يستطع حتى أن يضبط كلماته.
“أعلم أنّ لكلامك وجاهة. وأعلم مدى جدّيتك تجاه عائلة ترييد.”
لذلك قبلت كورديليا تبريره. فمن الطبيعي أن يحجب الهلعُ الرؤية للحظات. ولأن زواجهما لم يكن زواج حب، فقد لا يعني شهر العسل له الكثير. منطقياً، كان ما يقوله معقول.
‘لكن ماذا عن شهر عسلي أنا؟ ماذا عن رحلتي إلى دوستيا؟ كانت تلك أوّل فرصة لي للخروج من روتشستر. وكانت أكثر ما تمنّيته في الفترة الأخيرة!’
“ولكن…….”
ارتفع شعورها بالظلم تدريجيًا، وخرج صوتها مرتجفًا دون إرادة. كانت تفهم كلامه بعقلانية، وقد أخبرته أنها فهمت، لكن الغصّة بقيت في حلقها. شعرت وكأن أحدهم ضربها بينما كانت عيناها مفتوحتين.
“بعد نصف عام، ستُبحِر سفينة رحلات. ما رأيك بركوبها وزيارة العديد من الدول، ومنها دوستيا التي ترغبين فيها؟”
وكأنه أدرك حزنها الدفين الذي لم تستطع إظهاره، قدّم إدوين اقتراحه بلطف. اقترب منها قليلاً وانحنى، ورتّب خصلات شعرها الصغيرة المتناثرة وهو يهمس بصوته المنخفض، فنسيت كورديليا أنها كانت على وشك البكاء.
“هل أنت جاد؟”
أومأ إدوين بوضوح.
“أ… أقسم…….”
“أتريدين أن أكتب تعهّدًا بذلك؟”
ولأنها خشيت أن يغيّر رأيه لاحقًا، طالبتْه بأن يقسم بذلك. لكنه قال إنه سيترك لها وثيقة مكتوبة اذا ارادت ذلك. مثل ما حدث في ذلك اليوم الهادئ حين اقترح كتابة عقد قبل الزواج.
كان جادًّا وقتها، وهو جادّ الآن. كانت تلك طريقته ليُعبر عن صدقه. لم تستطع كورديليا إخفاء سعادتها، وأطلّت بطرف لسانها وهي تبتسم بخجل. ثم تداركت أنها كانت تتشاجر معه قبل لحظات، فراقبت تعابير وجهه محاولة ضبط ابتسامتها. لاحظ إدوين ذلك فابتسم بدوره.
“سأصطحبك غدًا لزيارة العاصمة أيضًا. لذلك أخّرتُ الجدول يومًا آخر.”
“حقًّا؟”
بل وأضاف اقتراحًا إضافيًا غير متوقع. انطفأت كل مشاعر الغصّة في قلب كورديليا، وتلألأت عيناها بحماس. فهي لم تخرج يومًا خارج القصر وحدها قبل الزواج.
“طالما أنك تشعر بكل هذا الندم…….”
“…….”
“فلا بأس. أعلم أنّ الأمر متعلق بعملك. لكن عليك أن تعدني بأن هذا لن يتكرر.”
أجابت كورديليا بنبرة المتفضّلة التي تغفر على مضض، حتى لا تبدو سهلة الانقياد. فهذا لا يليق بسيدة.
“حسنٌ.”
لكنها كانت قد سامحته تمامًا. فبدلاً من شهر عسل لشهر كامل، حصلت على رحلة بحرية بعد نصف عام، وعلى موعدٍ في العاصمة مع زوجها. لم يكن هناك سبب يمنعها من مسامحته.
تظاهرت كورديليا بالرصانة بينما كانت زوايا فمها ترتجف بسعادة لم تستطع إخفاءها.
“هل يزعجك أن نتشارك الغرفة لبعض الوقت؟ قد يكون الأمر غير مريح…….”
أخيرًا تطرّق إدوين إلى الموضوع الذي منعه غضبها سابقًا من طرحه.
“الأمر محرج قليلاً، لكنه لا بأس.”
“……لا بأس بذلك؟”
تجمد إدوين لحظة ثم أعاد السؤال. بدا أنه لا يصدق.
“لقد سمعت من السيّدة ليمونت أن الأزواج في منازل العامة يتشاركون غرفة النوم.”
وكان الأمر فعلاً غير مزعج لكورديليا. في الحقيقة، وبسبب ما تشعر به الآن، بدا كل شيء مقبولاً.
“كما أنك قلت إنه أمر مؤقت.”
“……إن كانت هذه رغبة الأميرة.”
أجاب إدوين بملامح يصعب تمييزها؛ كانت تشبه الصدمة. فابتسمت كورديليا قليلاً.
***
حقًا، لا شيء يسير كما أتوقع.
تمتم إدوين بهذه الفكرة وهو على الفراش، يتقلّب، ثم ينظر إلى زوجته التي وضعت ذراعها على صدره ونامت بسلام.
“ألستِ منزعجة؟”
كان ذلك قبل نومهما بقليل. حدّق إدوين في كورديليا التي كانت مستيقظة بعينين واسعتين، متمنيًا أن تقول إنها منزعجة.
فالملوك والنبلاء أمثال كورديليا يُربّون منذ الولادة في غرف منفصلة عن آبائهم، ويرعاهم المربيات. لذلك لم يكونوا معتادين على مشاركة الغرفة.
“لا بأس.”
لكن كورديليا وبملامح بريئة تمامًا أعلنت العكس، موجّهة له ضربة قاضية. رغم قولها إنه غريب بالنسبة إليها بعض الشيء، لكنها لا تشعر بالخوف أو النفور.
“ربما يجب أن أخرج أنا…….”
“هذه غرفتك أنت. وإن كان لا بد أن يخرج أحد، فيجب أن أكون أنا. هل تريد مني أن أخرج؟”
“إلى أين ستذهب سيدة نبيلة مثلك؟ هناك سرير صغير في مكتبتي. يمكنني استخدامه بسهولة.”
ابتسمت كورديليا ورفضت اقتراحه. نظر إليها إدوين، وأدرك كم كانت زوجته أشبه بشعاع شمس لا يدرك أي شيء.
كان سيحتاج أن يقول لها صراحة: أنا منزعج، دَعيني أنام وحدي حتى تفهم. لكن لو فعل، لبكت أو صرخت بالتأكيد. ثم سيهرع آرون نصف نائم إلى الداخل……
فزفر إدوين بتعب.
“طالما قلتِ إن الأمر لا يزعجك، فسأبقى.”
واستلقى مستسلمًا.
“…….”
لكن كان يرجو فقط أن جسمها، في ثوب النوم الخفيف شبه العاري هذا، لن يلمسه. فهو لا يحمل نوايا سيئة تجاهها، لكنّ تجربتها الوحيدة معه كانت ليلة الزفاف، ولم تدرك بعد تأثير لباس نومها هذا عليه.
“هاه…….”
ولم تمضِ فترة طويلة حتى انفجر إدوين ضاحكًا بخفة عندما شعر بيدٍ تتلمس صدره. تحطمت أمنيته تمامًا، فقد انطلقت كورديليا بفوضى نومها التي تعبث بكل ركن من الفراش.
حقًا، بما أنها جرّته منذ الليلة الأولى إلى الفوضى، فربما لم يكن الأمر غير متوقع تمامًا.
وفجأة، رمت بساقها فوق فخذه. كانت تنام بخشونة تامة، حتى إن إدوين لم يفهم كيف نامت بهدوء في ليلة الزفاف.
ضغطت ساقها الرقيقة على فخذه، فأثار ذلك توترًا واضحًا. فأغمض عينيه بقوة، ثم سحبها إلى حضنه كي يمنعها من الحركة أكثر. ثم تخلّى عن التفكير.
التعليقات لهذا الفصل " 19"