خرج إدوين حتى الحديقة ليتبادل حديثًا سريًّا مع سكرتيره، ثم استدار بجسده. جلست كورديليا بسرعة على الكرسي الموضوع بجانب نافذة ردهة الطابق الأول، وفتحت كتابًا صغيرًا، محاولة ألّا يبدو أنها كانت تراقب السكرتير ذا المظهر الذكي والمهذّب بنظارته، وزوجها الأكثر وسامة، من خلف النافذة.
لم يمضِ وقت طويل حتى دخل إدوين المبنى. وشعر بنظرات المرأة التي تتظاهر بقراءة كتاب بينما تسرق النظر إليه، فابتسم ابتسامة خفيفة.
“ما الكتاب الذي تقرأينه؟”
اقترب إدوين من كورديليا دون أن يتظاهر بالجهل. فتحت كورديليا عينيها دهشة حين شعرت باقتراب زوجها المفاجئ.
“هـ… هو فقط…….”
“فقط؟”
لم تستطع الإجابة لأنها لم تعرف ما الكتاب أصلًا. فقد كانت قد التقطت عشوائيًا كتابًا كان مقلوبًا على الطاولة وادّعت قراءته.
“إنّه كتاب أوصت به تشيستر.”
“يبدو أن الآنسة بلاكوود ذات ذائقة عالية إذًا.”
قال إدوين ذلك وجذب الكرسي القريب وجلس. وفي تلك اللحظة أمالت كورديليا الكتاب قليلاً لتنظر خلسة إلى عنوانه.
[الرأسمالية والهيمنة]
ما هذا.
“هل يمكنني الجلوس هنا وإنجاز بعض العمل؟”
“……افعل ذلك.”
تأخرت الإجابة لحظة من شدّة الصدمة من عنوان الكتاب. لكن إدوين لم يُظهر أي اهتمام لذلك، وطلب من أحد الخدم أن يحضر الأوراق التي كان يتفحصها.
“قدّموا الشاي.”
وبما أنّ زوجها يعمل، حتى لو لم تستطع مساعدته، كان بوسعها على الأقل الاهتمام بهذا القدر. فأصدرت كورديليا أمرها بنبرة متحفظة وأعادت نظرها إلى الكتاب.
ألقى إدوين نظرة عليها فبدت له لطيفة، ثم تلقّى رزمة الأوراق التي قُدمت له وأدار رأسه بعيدًا، مطفئًا اهتمامه بزوجته اللطيفة.
“…….”
تظاهرت كورديليا بقراءة الكتاب لكنها لم تتوقف عن إلقاء نظرات خاطفة على وجه إدوين. بينما انغمس هذا الأخير في العمل تمامًا، ففك ربطة عنقه المرتخية ووضعها على الطاولة، ورفع كمي قميصه مرتين.
كان صدره وأكتافه العريضة مشدودين لدرجة تكاد تشدّ القميص، وامتدت عروق زرقاء فاتحة على ساعديه، رغم أنّ السترة كانت تخفي ذلك جيدًا. كان المشهد مذهلاً لدرجة أنه ذكّرها بليلة الأمس. حقًا، مظهر نادر الوجود في هذا العالم.
“لقد أحضرت الشاي.”
وضعت الخادمة الفنجان على الطاولة. أسرعت كورديليا بدفن أنفها في الكتاب، متظاهرة بأنها لا تراقب إدوين.
“…….”
إدوين، لم يكن يهتم إذا كانت تراقبه أم لا، أو لم يشعر بنظراتها أصلاً، كان غارقًا بالكامل على عمله.
وانسدل فوقه نور ما بعد الظهيرة الدافئ. وراحت كورديليا تراقبه مسحورة، وقد أسندت ذقنها إلى غلاف الكتاب.
كان شعره البني يتلألأ بلون أفتح من المعتاد مع مسحة حمراء خفيفة تحت ضوء الشمس. ذلك الشعر الذي لم تهتم به من قبل بدا لها الآن أجمل لون في العالم.
“هل لديكِ شيء تريدين قوله؟”
ربما كانت نظراتها حارّة أكثر من اللازم. نطق إدوين بسؤاله مع صوت خافت في حلقه. ارتجفت كورديليا من المفاجأة حين استقبلت نظراته، وانخفض رأسها بسرعة.
“لـ… لا. لا شيء.”
ظنت أنه كان منشغلاً جدًا بالعمل حتى إنه لم يلتفت حوله، فهل اكتشف أنها كانت تحدّق به طوال الوقت؟ شعرت كورديليا بالخجل لدرجة رغبت فيها أن تعضّ لسانها.
“حسنًا.”
أجاب إدوين بلا روح وأعاد نظره إلى الأوراق، مستغرقًا في عمله مجددًا. لمحَت كوردليا على رأس إحدى الأوراق التي كان يوقّعها كلمة “إيستانا”، فأغلقت اهتمامها بعمله تمامًا.
“…….”
كان من المحرج أن تنهض فجأة بحجة الملل بينما زوجها غارق في العمل. كما أنها أرادت أن تظهر بصورة شخص حكيم أمامه.
ضبطت كورديليا نظرتها وأعادتها إلى الكتاب.
[منذ نشأة الرأسمالية، نمت بدعم وتعاون من العائلة المالكة التي أرادت استخدامها كوسيلة لكبح نفوذ النبلاء.]
لم يكن لدى كورديليا طريقة لمعرفة إن كان ذلك صحيحًا أم لا. فالأمر من الماضي. ثم إنها لم تكن مهتمة بالأمور المعقدة. خصوصًا المسائل السياسية، فولي العهد لورنسن موجود لذلك، وكان يتم استبعادها من تلك الأمور دائمًا كما لو أن ذلك أمر طبيعي.
[لكن الرأسمالية، بحكم جوهرها، تسعى إلى هدم البنى التقليدية للسلطة، ولذلك يصعب عليها أن تتعايش مع السلطة الحاكمة على قدم المساواة.]
كان يجب أن تتساءل لتقرأ، لكنها لم تكن تشعر بأي فضول. لم تتقدم الصفحات. وبعد أن قلّبتها مجبرة، غطّت فمها وظهرت عليها رغبة بالتثاؤب.
أنا… نعسانة.
رمشت ببطء، فالوقت كان بعد الطعام والشمس مشرقة بحرارة، لذلك بدأ النعاس يغلبها.
“…….”
رمشت طويلاً، وبدأت رؤيتها تضطرب. تمسكت بالغلاف لتحافظ على كبريائها، لكن رأسها مال فجأة للأمام فارتدت مذعورة.
كان إدوين ما يزال غارقًا في العمل. تصنّعت كورديليا الهدوء وعادت للنظر في الكتاب، لكنها عادت للنعاس سريعًا.
تماسكي. يجب أن أتماسك….
***
“……?”
سمع إدوين صوت ارتطام خفيف على الوسادة فرفع رأسه. كانت زوجته مستلقية على أريكة الصالون وقد استسلمت للنوم. امتلأ شعرها الذهبي الكثيف بلون الغروب، واحمرّت خدودها الناعمة الورديّة. بدت وكأنّ شمس الظهيرة تنسج حولها غطاءً قطنيًّا.
كانت جميلة، لكن…
صرف إدوين نظره عن جمالها سريعًا وراح يتفحص المكان. فلا ينبغي أن تُرى الأميرة في وضع محرج أمام الخدم.
لكنّ توقعاته كانت بلا معنى، إذ لم يُظهر أي من الخدم أي دهشة. فبما أنها لم تكن تهتم كثيرًا بالقراءة أو الدراسة، فليس هذا أمرًا غريبًا عليها.
“يا لها من…….”
هل يجب أن يعتبرها مدهشة لأنها تفوق توقعاته دائمًا؟ ضحك إدوين ساخرًا ومسح جسر أنفه بظهر يده. شعر بألم وتعب في عينيه من كثرة القراءة.
لقد حان وقت الاستراحة. وبذلك قام من مقعده وتوجه نحو كورديليا دون تردد. ثم حمل جسدها الهزيل والضعيف بين ذراعيه بسهولة. وفي الوقت نفسه سقط الكتاب الذي كانت تقرأه على الأرض بصوت ثقيل نوعا ما.
“إنه كتاب أوصت به تشيستر.”
التفت إدوين نحو الكتاب على الأرض وضحك بخفوت.
أي تشيستر بلاكوود؟ هذا الكتاب أحضره بنفسه. لكنه تظاهر بالجهل احترامًا لكبرياء كورديليا التي لم تشأ أن تتصرف بسذاجة أمام زوجها الجديد. وكان كذبها لطيفًا إلى حد ما.
“نحن سنتولى الأمر.”
“لا بأس، هل تتنحون جانبًا؟”
اقترب أحد الفرسان مسرعًا حين رأى إدوين يحمل كورديليا. لكن إدوين لم يرغب في تسليم زوجته ليد خادم، فرفض مساعدتهم بوجه ودود. ثم بدأ يصعد الدرج الرئيسي بحذر.
ويبدو أن النوم غلبها تمامًا في تلك اللحظة القصيرة، فلم تستيقظ. وبسهولة وضعها إدوين على السرير واستقام ليغادر الغرفة.
“الأميرة…….”
أقبلت الخادمة التي تخدم كورديليا في غرفة النوم مسرعة، وفتحت الباب بحذر معلنة حضورها لخدمتها.
“شش.”
لا ينبغي إيقاظها! رفع إدوين إصبعه أمام شفتيه آمرًا بالصمت.
“ن… نعم.”
تجمدت الخادمة من الدهشة وهزّت رأسها فقط. ابتسم لها إدوين بلطف ثم همّ بالمغادرة.
وفي اللحظة التي تجاوز فيها الخادمة واقترب من باب الغرفة، شعر بنظرة خجولة تلاحقه من الخلف. ربما لأنها ما تزال صغيرة، لم تتقن تجاهل ما ترى بعد.
وبالطبع، لم يكن سيؤنب خادمة صغيرة لأنها لم تستطع التحكم في نظراتها. لقد حدثت مواقف كهذه مرات عديدة ولم يكن يغضبه ذلك. لكنه تخيل أن كورديليا لو علمت لكانت ستصرخ فيها قائلة: كيف تجرؤين على التفكير هكذا؟
لحسن الحظ… انها نائمة.
فكّر إدوين بذلك وسحب مقبض الباب بهدوء. وقبل أن يُغلق تمامًا، سمع صوت خفيف يشبه صفعة.
“لا بد أنني جُننت.”
بدت وكأن الخادمة تضرب خدها.
ستكون خادمة عظيمة مستقبلاً.
فكّر إدوين بذلك وهو يغلق الباب تمامًا وينزل الدرج.
وتلاشت تلك الأفكار الصغيرة بهدوء مع الغروب. أما الصرخة التي أطلقتها كورديليا بعد استيقاظها، فلم تكن سوى بداية فوضى صغيرة.
التعليقات لهذا الفصل " 17"