أخذت كورديليا نفسًا عميقًا طويلاً. لم يكن وجهها واضحًا بشكل جيد خلف الحجاب الأبيض، لكنّ صدرها الناصع البياض ارتفع وانخفض بوضوح فوق فتحة عنق الفستان التي كشفت كتفيها برقّة. كان الدانتيل المزيّن قرب صدرها يرتجف كجناحي فراشة.
“هل أنتِ متوترة؟”
سألها إدوين، كأنّه لاحظ تلك الحركة الخفيفة. رفعت كورديليا رأسها بهدوء وحدّقت فيه. كانت الرؤية مشوّشة قليلاً بسبب الحجاب، لكنها استطاعت أن تلمح إدوين بهيئة بدت هادئة جدًا.
“قليلًا.”
هل لأنها زيجته الثانية؟ ما إن خطر لها ذلك حتى شعرت بوخز في كبريائها. كانت كورديليا الأميرة الوحيدة لمملكة روتشستر، ولم يكن هناك سبب يجعلها تشعر بالارتباك أو التوتّر في أي مكان.
لكن، وهي تقف على أعتاب زواجها، كانت ترتجف كفتاة صغيرة في أول ظهور لها بالمجتمع، بينما بدا إدوين هادئًا تمامًا وهو يراقب المرأة التي ستصبح زوجته.
“ليس هناك ما يستدعي هذا القلق، فلا داعي لتوتّرك.”
“تبدو مطمئنًا جدًا… أهو لأن هذه ليست المرة الأولى؟”
“ربما أبدو هادئًا أكثر مما أنا عليه.”
قالها بابتسامة لطيفة، لكن تلك الطمأنينة لم تُرضِ كورديليا، فخرجت كلماتها بنبرة ساخرة دون وعي منها. وكعادتها، ما إن نطقت بها حتى ندمت، غير أن إدوين ردّ بلطفٍ غير مكترث.
“لا تبدو متوترًا ولو قليلاً.”
“أنا أيضًا لم يسبق لي أن وقّعت على وثيقة زواج أمام الأسقف والشهود.”
كان صوته حنونًا، كأنه يحاول تهدئتها وقد فهم تمامًا سبب استيائها.
“رجاءً، استعدّوا للدخول.”
كادت كورديليا أن تُلقي تعليقًا ساخرًا عن “يا له من شرف”، لكن الكاهن تقدّم إليهما طالبًا منهما الاستعداد للدخول. فانتفضت كورديليا بحركة خفيفة وهي تستقيم في وقفتها.
“سأفتح الباب الآن.”
وفي اللحظة التي أخذت فيها نفسًا عميقًا آخر، فُتِحت الأبواب الثقيلة المزدانة بنقوش دينية بارزة.
كان النبلاء الحاضرون ليشهدوا هذا الزواج مصطفّين على جانبي الممر، إلى جانب أفراد عائلة ترييد، والملك والملكة أيضًا.
كانت تنورة فستان الزفاف الواسع تتمايل برفق مع كل خطوة، فيما كان طرف الرداء الأبيض المطرّز بخيوطٍ ذهبية من الخصر حتى الحافة، ينساب على الأرض كالموج.
حينها فقط، شعرت كورديليا بالواقع.
ها هي اللحظـة التي ستصبح فيها حقًا زوجة إدوين، والعودة عنها لم تعد ممكنة.
سارت بخطوات ثابتة إلى جانب إدوين بين صفوف الناس، مجبرة نفسها على شدّ عينيها بقوة كي لا تنهمر دموعها.
“الرجاء جلوس الجميع.”
توقفت كورديليا، وقد تشابكت يدها بيد إدوين أمام المذبح حيث وقف الأسقف بصوت مهيب. جلس الحضور جميعًا في صمت مع بداية كلماته.
“قبل كل شيء، لنعرب عن امتناننا للرب الذي أنعم علينا بشرف مباركة بداية جديدة لأحبّ أميرات مملكة روتشستر.”
وأثناء انحناء الأسقف بخشوع في صلاة الشكر، رمقت كورديليا إدوين بطرف عينها لتكبح مشاعرها المتأججة.
لم تتذكر سوى الآن أنها لم تلحظ ما كان يرتديه، منشغلة بوجهه الذي كانت تراه من خلف الحجاب.
“اليوم، يقف أمامنا اثنان من أبناء الرب لبدء حياتهما الجديدة: إدوين، الابن الأكبر لعائلة ترييد، والأميرة كورديليا من العائلة المالكة لروتشستر.”
كان يرتدي بنطالاً مفصلاً بدقّة يبرز ساقيه الطويلتين، وسترة كحلية اللون مزيّنة بأزرار مذهّبة عند الصدر والكتفين، مع حزام يثبّت خصره بإحكام. أما ربطة العنق فكانت مزدانة بحلية من الماس الأزرق، تشبه تمامًا مشبك الشعر الذي أهداه لها من قبل، والذي قال إنه يشبه لون عينيها. بدا كمن خُصّص له هذا الزيّ خصيصًا.
وأثناء متابعة الأسقف مراسيم الزواج، وجدت كورديليا نفسها تتأمل وسامة إدوين بإعجاب خفي.
“جميع من حضر اليوم سيكون شاهدًا على هذا الزواج.”
شعرت كورديليا بنظراته تلتقي بعينيها من خلف الحجاب، فتفاجأت وحرّكت عينيها بسرعة.
“على العروسين أن يتبادلا القسم.”
ابتسم إدوين ابتسامة خفيفة، بينما واصل الأسقف حديثه بتركيز تام على واجباته، يتلو مواعظه حول أن الزنا خطيئة، وأن على الزوجين إنجاب أكبر عدد ممكن من الأبناء، وأن الطلاق غير جائز إلا في حالات خطيرة.
“رجاءً، وقّعا على وثيقة الزواج قبل تبادل القسم.”
أشار الأسقف، فتقدّم أحد الكهنة حاملاً الوثيقة والقلم. أمسك إدوين القلم بخطٍّ أنيق وكتب اسمه، بينما كان صوت احتكاك القلم بالورق يدوّي في أذني كورديليا كالرعد.
“والآن، الأميرة من فضلك.”
بيدٍ مرتجفة، أمسكت كورديليا القلم وبدأت تكتب اسمها تحت اسم إدوين، حرفًا بعد حرف.
ثم وضعت القلم ونظرت إلى الوثيقة بصمت. كانت مشابهة تمامًا لعقد كانت قد وقّعته معه في الماضي.
“بحضور هذا الجمع العظيم، أُعلن أنكما قد أتممتما عهد الزواج المبارك من الرب.”
“…….”
“من هذا اليوم، أُعلن أن إدوين ترييد وكورديليا ماير ترييد قد أصبحا زوجًا وزوجة.”
لم تعد كورديليا ماير روشستر.
شعرت بغصّة في صدرها، وكأنها على وشك البكاء.
“رجاءً، تبادلا قبلة القسم.”
ابتسم الأسقف بودّ، كأب يودّع ابنته.
رفع إدوين الحجاب ببطء عن وجه كورديليا، وألقاه إلى الخلف، ثم تطلّع إلى ملامحها التي انكشفت تحت الضوء.
“كنت أتساءل أي فستان ستفاجئينني به هذه المرة.”
“وماذا تظن الآن؟”
“لستُ مندهشًا، لكنني متشوَّق.”
اقترب وجهه الوسيم، حتى شعرت بحرارته، ثم طبع شفتيه على شفتيها بخفّة.
كان قلبها يكاد ينفجر من شدّة الخفقان، ومع ذلك، لم تشعر بأي ارتجافٍ في تلك القبلة.
***
حضر معظم نبلاء العاصمة حفل الزفاف، لذا كان حفل الاستقبال بعدها بالغ الفخامة.
فهو لم يكن مجرّد حفل تقليدي، بل مناسبةٌ يُظهر فيها الملك مدى حبّه لابنته.
كما أراد من خلالها أن يُبيّن أن كورديليا، زهرة القصر الغالية، وزوجها إدوين، لا يمكن لأحد أن يستهين بهما.
فأيّ إساءة إليهما كانت ستعني مواجهة غضب القصر أو عائلة ترييد — وكلاهما كفيلٌ بإهلاك من يتجرأ.
فرغم أنّ سلطة العرش لم تعد كما كانت، فإن أوامر الملك لا تزال مطلقة، وعائلة ترييد تسيطر على خزائن المملكة.
التعليقات لهذا الفصل " 11"