1
نظرت كورديليا إلى الرجل الواقف أمامها بإعجابٍ صادق.
هذا الرجل… وجهه لا يُصدّق.
كانت هي وشقيقها لورنسن يتلقيان المديح في أوساط الناس لجمال مظهرهما، لكنها كانت تعلم أن في ذلك المديح نغمة من التبجيل الموجَّه إلى العائلة الملكية. أما إدوين ترييد الجالس أمامها، فكان جماله يستحق الإعجاب بحق.
قال وهو ينحني تحيةً بأدب:
“إنه لشرفٌ لي أن ألتقي بالأميرة الوحيدة لمملكة روتشستر. أنا إدوين، الابن الأكبر لعائلة ترييد. ناديني إدوين.”
كان شعره بلون خشب فاخر قاتم وأنيق، وعيناه بلون الزمرد اللامع تتألقان ذكاءً وحدّة. لم يكن مجرد رجل جميل، بل بدا كجذع شجرة ضخمة متينة متجذّرة في الأرض، تعلوها فروعٌ باسقةٌ وجميلة. كان طويل القامة، عريض المنكبين، متين البنية.
بإيماءة رشيقة، طبع إدون قبلة خفيفة على ظهر يد كورديليا تحية واحترامًا. فابتسمت بخفة وهي تُخفي ارتجاف أطراف أصابعها داخل كمّ ثوبها، محاولة التصرّف على نحو طبيعي رغم اضطراب قلبها الذي أخذ يخفق بعنف.
قالت بابتسامة رقيقة:
“تشرفت بلقائك يا إدوين. اجلسْ براحتك.”
كان لورنسن قد أخبرها مؤخرًا أنه سيمنح إدوين لقبًا نبيلاً، لكن عائلة ترييد كانت ما تزال من عامة الشعب. لذا لم يكن أمامها سوى مناداته باسمه دون ألقاب.
قالت بعتاب خفيف:
“توقعت أن تقول إنك مشغول ولا وقت لديك.”
ابتسم إدوين ابتسامة لطيفة وأجاب:
“مهما كنت مشغولاً، لا بدّ من أن أجد وقتًا للقاء شخصية نفيسة مثلكِ.”
وحين جلس وتلاقى نظرهما، شعرت كورديليا بقلبها يخفق بخفّة غير مبررة.
كانت تعلم تمامًا أن ميلها الفطري لكلّ ما هو جميل قد استيقظ من جديد، فقد هدأ غضبها الذي كانت تغلي به تجاهه، كما لو أن دلوا من الماء البارد أُفرغ فجأة فوق نار مشتعلة.
قال إدوين بصوت وديّ هادئ:
“كنت أخشى أن لقائي بجلالتك قد يسبب لك الإزعاج.”
أطلقت كورديليا تنهيدة خافتة. نسيت تمامًا أنها كانت تفكر بالأمر نفسه قبل لقائه بلحظات، وبدلاً من ذلك أحسّت بالأسف لأن هذا الرجل الجميل كان قلقًا بشأنها.
قالت بابتسامة مطمئنة:
“لا بأس عندي. في النهاية، لا يمكننا تجنّب هذا الزواج، والناس سيعدّونه قصة حبّ القرن.”
كانت كلماتها تهدف إلى رفع معنوياته. فرغم أنها لم تقتنع تمامًا بالزواج بعد، فإنها لم تردّ أن يبدو زوجها المستقبلي ضعيفًا أو فاقد الثقة.
قال إدوين بصوت منخفض:
“لقاء بين أميرة وأحد العامة… من الطبيعي أن يتحدث الناس.”
ولم تدرك كورديليا أنها قد صنّفته بالفعل في داخلها على أنه زوجها المستقبلي.
سألته بابتسامة لطيفة:
“لابد أنك تفاجأت حين سمعت الخبر لأول مرة، أليس كذلك؟”
أجاب بابتسامة خفيفة:
“ليس بقدر دهشة جلالتك، على ما أظن.”
كان يقصد أنه يفهم تمامًا ردة فعلها الأولى التي شاعت أخبارها في كل مكان. أحسّت كورديليا بالحرج؛ هل حقًا كانت ردة فعلي بذلك السوء؟ أم لعلهم يبالغون…؟
قالت مبررة:
“لطالما قال لي والدي الملك إنه سيسمح لي بالزواج ممن أحب. لذلك حين علمت أن الزواج سياسي بحت، لم أملك إلا أن أُصدم.”
أخفت كورديليا الحقيقة الكاملة — أنها لم تكن مرتاحة لفكرة الزواج من رجل من عامة الشعب — واستبدلتها بعذر أكثر لياقة. فهي لم تكن ممن يتفوهون بكلام غير لائق في وجه الآخرين، خصوصًا أمام شخص مثل إدوين. ثم إن كلامها لم يكن كذبًا محضًا.
قال إدوين:
“لا أحد يجهل مدى محبة جلالة الملك لأميرة البلاد الوحيدة.”
كان من المعتاد في الأسر النبيلة — بل وحتى في بعض العائلات الثرية — أن تُستخدم الزيجات لتحقيق مصالح سياسية أو اقتصادية، وأن تتم الخطبة في سنّ العاشرة تقريبًا، والزواج في السادسة عشرة أمر طبيعي.
أما كورديليا، فلم تتلقَّ عرض زواجٍ واحدًا حتى بلغت العشرين، ولم يكن ذلك بقرار منها وحدها.
قال إدوين بصدقٍ ظاهر:
“أخشى ألا أكون على قدر رضا جلالته.”
تأملت كورديليا وجهه مليًا قبل أن تجيب بتروٍّ:
“الزمن كفيلٌ بأن يُجيب عن ذلك.”
كانت قادرة على مواساته، لكنها لم تشأ أن تكذب؛ فقبول الملك له أو رفضه ليس أمرًا بيدها.
ابتسم إدوين بهدوء وقال:
“أتمنى ذلك حقًا.”
وفي عينيه الزمرديتين المشرقتين بدا بريقٌ ناعم أشبه بالضوء الدافئ.
قالت كورديليا فجأة، وقد عجزت عن كتمان إعجابها:
“عيناك حقًا تشبهان الأحجار الكريمة.”
لم تستطع المقاومة أكثر. كانت آخر خيوط كبريائها تحاول إخفاء انبهارها بجمال وجهه، لكنها انقطعت تمامًا مع تلك الجملة.
ابتسم إدوين وقال بلطف مماثل:
“وجلالتك أيضًا.”
“…؟”
“شعرك الذهبي البراق يذكّرني بأزهار الفريزيا. أفهم الآن سبب لقبك الجميل.”
احمرّ وجه كورديليا خجلاً حتى كادت لا تعرف أين تنظر. كانت قد جمعت في حياتها كل ما هو جميل وثمين، فكيف تعجز الآن عن التماسك أمام هذا الرجل؟ لكنها عجزت، رغم محاولاتها.
استمر إدوين في الحديث بمواضيع خفيفة ومهذبة، حتى طال حديثهما أكثر مما توقعت.
بعد أن ودّعها إدوين وانصرف، تقدّمت السيدة ليمونت نحو كورديليا الجالسة بهدوء وسط ضوء الغروب الذي يملأ الدفيئة. كانت ملامحها تنمّ عن فضولٍ واضح، إذ لم تستطع سماع ما دار بينهما عن بُعد. لكنها، وقد رأت الأميرة تبتسم طوال ساعات الحديث، كانت متأكدة أن الجواب لن يكون سلبيًا.
قالت كورديليا بصوتٍ خافت كمن يحدث نفسه:
“إنه بارعٌ في الكلام حقًا.”
ضيّقت السيدة ليمونت عينيها تحدّق في وجه كورديليا، محاولة أن تميّز ما إذا كان الاحمرار على وجنتيها من وهج الغروب أم من الخجل.
قالت كورديليا وقد لمعت عيناها ببريق لا يخفى:
“كنت أخشى أن يكون من الرجال الذين يثيرون المشاكل مع النساء، لكنه قال لي شيئًا مدهشًا.”
توقفت لحظة ثم أضافت بابتسامة سعيدة:
“قال: ‘حتى لو حاولت الأخريات، فليس سواكِ يا جلالتك من يمكنها أن تملكني.’”
حبست السيدة ليمونت لسانها وقد همّت بالتعليق، لكنها عدلت عن ذلك حين رأت الأميرة تبتسم ابتسامة راضية.
قالت بهدوء:
“إنه بارعٌ حقًا في اختيار كلماته.”
كانت تعلم أن إدوين سيكون، ما لم تنقلب الدنيا، زوج كورديليا المستقبلي، وأن الأميرة قد وقعت في حبه من النظرة الأولى. ولذلك لم تجد جدوى من قول ما قد يعكر صفوها.
بل رأت أن زواجها وهي بهذا الإعجاب أفضل ألف مرة من أن تُجبر عليه وهي ترفضه.
ورغم أنها ربت كورديليا كابنتها، فإنها لم تكن تملك أن تعارض إرادة العائلة الملكية. كانت الأميرة، مهما بلغت مكانتها، جزءًا من السلطة لا من صانعيها.
***
قال آرون بصرامة:
“ستصبح دوقًا قريبًا، فلتتصرف بما يليق بالمقام.”
أجاب إدوين بتعب وهو يفك ربطة عنقه ويلقيها بلا مبالاة فوق وسادة العربة:
“من الناحية الرسمية، يا والدي، يجب ألا تخاطبني بهذه اللهجة بعد الآن.”
قطّب آرون حاجبيه وقال بازدراء:
“يا لك من وغدٍ سوقيّ!”
ابتسم إدوين ببرود وردّ ساخرًا:
“ومن الذي يسلّم أميرة لوغد سوقيّ مثلي، إن لم تكن أنت؟”
هزّ آرون رأسه بيأس وقد أدرك عبث الجدال، بينما التزم إدوين الصمت. كان مرهقًا بعد أيام قليلة امتلأت بالأحداث الكبيرة.
تذكّر بوضوح ذلك اليوم حين قال له والده فجأة:
“تزوّج من الأميرة كورديليا.”
ظنّها مزحة في البداية، وكاد يسأله إن كان قد فقد عقله، لكنه تماسك احترامًا له.
تابع والده قائلاً:
“الملك وعد بأن يمنحك لقب دوق إن فعلت.”
قال إدوين بفتور:
“ليست لي رغبة في الألقاب. لقد عشنا جيداً من دونها حتى الآن.”
ردّ آرون بحِدّة:
“أتظن أن اللقب يُمنح لمن يشتهيه فقط؟”
قال إدوين ببرود:
“وماذا في ذلك؟ سيعتبروننا أثرياء جددًا على أي حال.”
تنهد آرون وقال بنبرةٍ واقعية:
“ما زالت الفرص الجيدة حكرًا على النبلاء. بزواجك من الأميرة وحصولك على اللقب، سنوسّع أعمال شركتنا ونحميها من النبلاء العاجزين الذين يحسدون نجاحنا.”
ثم أضاف بصوت أكثر جدية:
“الملك وعد أيضًا بتخفيض الضرائب ومنحنا امتيازات تجارية إن تم الزواج. وإذا حصلتَ على اللقب، فستخلفني في رئاسة الشركة.”
كانت هذه الجملة وحدها كفيلة بإقناعه، إذ لم يكن إدوين يهتم باللقب بقدر اهتمامه بالحفاظ على أعمال العائلة التي أحبها.
لكنه ظلّ صامتًا بعدها طويلاً.
هل أستطيع حقًا أن أبني حياة مع أميرة شابة ساذجة يمكنني قراءة أفكارها كما أقرأ كتابًا مفتوحًا؟
ذلك القلق لم يفارقه قط.
“عيناك جميلتان حقًا.”
فجأة، خطر ببال إدوين وجهُ الأميرة التي أُعجب بملامحها. لم يكن شيئاً غير متوقع إذ كان يُلقّبها الناس بـ “الأميرة فريزيا”، فهي تملك وجهًا مشرقًا نابضًا بالحياة، يناسبه اللون الأصفر كلون فرخ صغير في الربيع.
ورغم أن كورديليا لم تكن تعلم، إذ لم تهتم أصلًا، فإن إدوين كان قد دخل القصر الملكي عدة مرات من قبل نيابة عن والده آرون. التقى هناك كبار الشخصيات من الدول الأخرى، وتحدث معهم مباشرة ليبيعهم البضائع. وبالنسبة له، كان استمالةُ أميرة ساذجة تجهل أحوال العالم أهون من تناول طعام بارد فقد نكهته.
قال آرون بنبرة جافة صارمة:
“أم أنك تريد أن تدعم بارتون؟ فهو على أي حال قد أصبح صهر الفيكونت ليبرتي، وسيحصل على اللقب قريبًا.”
كان الشرط الذي وضعه آرون لأبنائه كي يتنافسوا على وراثة المنصب واحدًا فقط: أن يوسّع كلٌّ منهم مجال عمله التجاري. غير أن بارتون، بعد أن صار صهرًا لأسرة الفيكونت ليبرتي، أضاف شرطًا جديدًا وهو الحصول على لقب نبيل. وهكذا أصبح كلٌّ من إدوين وبارتون قد حققا شرطا واحدا من الشرطين.
قال إدوين باقتضاب:
“لا، يا أبي.”
فأجابه آرون بخشونة:
“إذن، عندما يُقدَّم لك شيء على طبقٍ من فضة، اكتفِ بإغلاق فمك وقبوله.”
“…”.
تابع آرون ببرود أكبر:
“ثم إن بارتون متزوّج بالفعل. لا يمكنه أن يجعل الأميرة عشيقة له.”
بعد تلك الجملة، عمّ الصمت داخل العربة حتى وصلت إلى القصر داخل العاصمة. لم ينبس أحدهما بكلمة. فقد أصبح إدوين أكبر من أن يجامل أباه أو يسايره، بينما ظلّ في أعماقه يحمل له شيئًا من الاستياء.
“لقد وصلنا إلى القصر.”
توقفت العربة، وسمع صوت السائس يعلن الوصول. طرق آرون باب العربة مرتين، فهرع الخادم القريب وفتح الباب.
“أهلًا بعودتكما، السيد آرون، والسيد إدوين.”
قالها بانحناءة مهذبة للغاية، مما جعل إدوين يرفع حاجبًا بريبة. لم يكن متأكدًا إن كان يتوهم، لكنه لاحظ أن أكتاف الخدم الواقفين مصطفّين بدت مشدودة قليلا، كأنهم في حالة توتر أو استعداد.
وفجأة، خرجت امرأة من خلف كبير الخدم قائلةً بصوت وديّ:
“مرحبًا بعودتكما، يا والدي العزيز، ويا أخي في القانون.”
كانت تلك هايلي ترييد، زوجة بارتون الأخ الغير الشقيق لإدوين.
قال آرون ببرود وهو يلوّح بيده في الهواء، متعبًا من الكلام:
“أنا متعب، فلنؤجل التحية إلى الغد.”
نظرت هايلي إليه بعينين تنمان عن خيبة طفيفة، ثم تنحّت جانبًا لتفسح الطريق.
أما إدوين، فقد وقف في مكانه يتأمل ظهر والده المتجه نحو مدخل القصر الغارق في العتمة، قبل أن يعلّق بصوت ساخر بارد:
“يا للأسف… يبدو أن اختيارك لزوج بلا نفع لم يكن موفقًا.”
استدارت هايلي، التي كانت يومًا تُدعى هايلي ليبرتي، تنظر إليه بوجه يملؤه الإزدراء.
–
تابعو حسابي على الانستقرام @beecatchuu لمعرفة اخبار الروايات ومزيد من المحتوى
Chapters
Comments
- 1 منذ 5 ساعات
- 0 - المقدّمة 2025-10-31
التعليقات لهذا الفصل " 1"