مرت الأيام التالية بهدوء يشبه المطر الخفيف الذي يطرق النافذة دون أن يوقظ أحداً. اعتادت ليتي أن تستيقظ كل صباح لتجد شوشو نائماً قرب قدميها أو متكوراً عند زاوية سريرها الصغير. لم يكن يتركها حتى عندما تنتقل من غرفة إلى أخرى، وكأنه يخشى أن تختفي فجأة من أمامه.

في أحد الأيام، بينما كانت تجلس أمام طاولة الطعام الصغيرة تعمل، كان شوشو مستلقياً على كتابها الموسيقي، مانعاً إياها من الكتابة. تنهدت دون غضب:

— “شوشو، أرجوك… لدي الكثير من الاعمال …”

فتح عينيه نصف فتحة، ثم أغلقهما وكأنه يقول لها بلا مبالاة: “هذه ليست مشكلتي”. ومع ذلك، لم تستطع منعه. بدلاً من ذلك، مدت يدها وربتت على رأسه برقة، فاستجاب بخرخرة خفيفة كانت كنبض بسيط يلامس روحها.

لم تفهم لماذا أصبحت تشعر بالراحة قربه. لماذا صارت الوحدة في الشقة أقل ثقلاً، ولماذا لم تعد تخاف من قراءة القصص بصوت عالٍ أمامه كأنها تحدث شخصاً حقيقياً.

—

في إحدى الليالي، كان المطر يهطل بشدة. ولم تستطع ليتي النوم. حملت كتاباً وجلست على الأريكة تحت ضوء خافت. وبعد دقائق، تسلل شوشو إليها وقفز بجوارها. كان مبللاً قليلاً وكأنه خرج للتو من نافذة مفتوحة.

— “يا إلهي! كنت بالخارج؟ ستمرض! تعال هنا.”

لفته ببطانية صغيرة وجففت رأسه. ظل يحدق بها بصمت… ولم تفهم تلك النظرة التي تحمل شيئاً أكبر من روح قطة صغيرة. نظرة شخص يشعر بالحنين. نظرة روح ظلت تائهة طويلاً ثم وجدت أخيراً مكاناً ترتاح فيه.

همست له بهدوء:

— “هل تعرف يا شوشو… قبل أن تأتي كنت أشعر دائماً أن هناك شيئاً ناقصاً في حياتي. فراغ… لا أعرف كيف أصفه. لكن… منذ أن جئت… لم يعد الأمر مؤلماً كما كان.”

كأن تلك الكلمات تسللت إليه، إلى عمق لا تعرف هي كيف وصلته. لم يكن الأمر منطقياً… لكنها شعرت أنها لم تعد وحيدة، وهو شعر للمرة الأولى منذ زمن طويل، أنه ليس مجرد عبء على هذا العالم.

ومن دون أن ينتبه، أغمض عينيه واستسلم بهدوء… لأول مرة منذ زمن بعيد، نام وهو يشعر بالأمان.

~~~~~~~

المشهد: الغريب الذي لم يختر هذا العالم – من وجهة نظر كلود

كان الظلام أول ما تذكّره حين فتح عينيه في هذا العالم. ظلام كثيف لا يشبه الليل، بل يشبه الغياب… غياب الجسد، غياب الصوت، غياب كل ما كان يعرفه. وحين حاول الحركة للمرة الأولى، أدرك الحقيقة القاسية: إنه لم يعد في جسده.

كان آخر ما يذكره قبل أن يفقد وعيه صرخة حارقة ثارت في صدره حين اخترقت خنجر مسموم كتفه خلال كمين خائن، ثم تلك الطلاسم السوداء التي تردّد صداها حوله وهو يُسحب بعيداً عن عالمه قسرًا. تآمر عليه وليّ العهد الطامع بالعرش، ولم يكتفِ بمحاولة قتله… بل أراد محوه من الوجود. لذلك كان نفيه عبر السحر الأسود هو النهاية التي اختارها له.

لكنه لم يمت… بل سقط في بعد مجهول، داخل جسد ضعيف… صغير… عاجز.

جسد قطة.

—

لم يكن الألم هو ما أخافه حينها، بل الضعف. لم يحتمل فكرة أن يتحول من قائد كانت ترتجف أمامه الجيوش… إلى كائن صغير تهاجمه الكلاب. لم يفهم لماذا استهزأت به السماء إلى هذا الحد.

وحين فقد وعيه مرة أخرى بعد النزيف، شعر بدفءٍ يقترب. صوت أنثى… رقيق، هادئ لكنه لا يشبه أصوات الأميرات في قصره، ولا خادمات البلاط… كان صوتاً بشرياً خالصاً، دافئاً دون سبب، حنوناً دون مبرّر.

لم يفهم كلماتها حين حملته، لكنه أحس باهتمامها الحقيقي. لم تكن تعرف من هو، لم تكن تعرف أنه سيفٌ مكسور أو أمير ضائع… ومع ذلك، أنقذته.

—

مرّت الأيام الأولى غريبة عليه. لم يكن يثق بها، لذلك كان يهرب منها ويختبئ، لكنه كان يعود دائمًا. يعود لسريره الصغير قرب سريرها. يعود ليأكل مما تقدمه له بيديها. يعود ليجلس قرب النافذة حين تجلس هي.

كان يحاول إقناع نفسه أنه يبقى فقط لأنه يحتاج الطعام والدفء، لكنه كان يكذب… كان هناك شيء يشدّه إليها، شيء غريب… شيء يخبره أنه للمرة الأولى منذ زمن طويل… ليس وحده.

—

لم يكن اسم “شوشو” يليق به، لكنه لم يأبه. ظل يراقبها بصمت كلما نادت عليه بتلك التسمية. كانت تحدثه كأنه يفهم كل كلمة، وكانت عيناها تتحدثان أكثر من صوتها. كانت وحيدة… تماماً مثله. ربما لم يفهم عالمها، لكن قلبها كان واضحاً كالمطر… نقياً رغم الألم.

ومع مرور الأيام، كل حركة صغيرة منها، كل ابتسامة، كل لمسة، بدأت تترك أثراً… شعوراً بالارتباط لم يكن يعرفه من قبل. شيئاً ما بداخله يقول: أحتاجها هنا… بجانبي.

لم يكن يعرف بعد أنه كان يبحث عن شيء كهذا طوال حياته كلها… شيء بسيط، صادق، بدون حسابات أو سياسات أو قوى… شيء يسمّى حباً.