بعد أن غادر كلود قاعة الطعام، ظل صدى خطواته يتلاشى ببطء في الممر الطويل، تاركًا خلفه فراغًا غريبًا. جلست ليتي مكانها للحظات، تحدّق في الباب الذي خرج منه، وكأنها تتوقع أن يعود في أي لحظة ليكمل حديثهما الغامض.
لكن الجوع لم ينتظر تأملاتها. زفرت بهدوء، وقررت أن تؤجل التفكير في كلماته – “ربما رأيتك… في زمنٍ ما …. مكان ما” – لتأكل ما تبقّى أمامها. تناولت قطع الخبز الساخنة ببطء، تراقب بخارها المتصاعد وكأنها تحاول استعادة هدوءها مع كل لقمة.
حين انتهت، أمسكت بالكوب أمامها، تنظر إلى بقايا العصير فيه بمللٍ غريب. ثم نهضت أخيرًا من مقعدها، تعدّل زيّ الخدم الذي استعارتْه صباحًا. لكن ما إن خطت بضع خطوات حتى تجمّدت في مكانها.
إلى أين الآن؟ تردّد السؤال في رأسها كهمسٍ مزعج. في السابق، كانت تعرف وجهتها دائمًا – تختبئ هنا، تتسلّل هناك، تعود إلى غرفة كلود حين تتعب. أما الآن… فهي بشرية. لم يعد لها مأوى مألوف، ولا مَن يعرفها على حقيقتها.
وضعت يدها على صدرها، تشعر بخفقة قلقٍ غريبة، وكأنها لأول مرة تدرك هشاشة وضعها.
وفي خضمّ شرودها، جاء صوت ناعم من خلفها:
> “سيدتي، هل أنهيتِ طعامك؟”
التفتت ليتي بسرعة، لتجد إيميلي – الخادمة التي تعرفها جيدًا – واقفةً بهدوءٍ قرب الحائط، تحمل في يدها صينية فضية، وعيناها تنظران إليها بلطفٍ معتاد.
اتسعت عينا ليتي بدهشة:
> “إيميلي…؟!”
تقدّمت منها خطوة، وصوتها متردد مفعم بالفضول:
> “هل… هل تعرفين من أنا؟ إيميلي؟”
أمالت إيميلي رأسها بخفة، وفي وجهها تعبير تعجّب بسيط، ثم أجابت بنبرة خالية من الشك:
> “بالطبع، أنتِ السيدة ليتي.”
تجمدت ليتي في مكانها، فاغرة الفم للحظة، لا تعرف إن كانت تحلم أم تسمع ما لا يُعقل. حدّقت في وجه إيميلي مطولًا، تبحث عن أثر مزاحٍ أو سخرية، لكنها لم تجد سوى الصدق الهادئ في نظرتها.
تلعثمت تقول بخفوت:
> “أنا… لا أبدو مختلفة عليكِ؟”
ابتسمت إيميلي ابتسامة صغيرة، ورفعت حاجبها كما لو أن السؤال بحد ذاته غريب:
> “سيدتي دائمًا جميلة، سواء بداّت كما أنتِ الآن أو كما في الأمس. والآن، إن كنتِ قد انتهيتِ من الطعام، فدعيني أرافقك لتغيير ملابسك.”
لم تعرف ليتي بماذا تجيب. كل ما استطاعت فعله هو الوقوف بصمت، وعقلها يدور بعشرات الأسئلة. هل تراها لا ترى الفرق؟ أم أن هناك شيئًا آخر يحدث؟
تنفّست ببطء، ثم أومأت بخفة، واكتفت بأن تتبع إيميلي بخطواتٍ مترددة، نظراتها تتنقّل بين الممرات المضيئة بنور الصباح، وقلبها يغلي بحيرةٍ جديدة: إذا كانت إيميلي تراها كما كانت، فماذا يعني هذا؟ هل بقي سحرها القديم فيها… أم أن القصر نفسه يخفي عنها حقيقة ما؟
كانت تشعر أن الإجابات تقترب – لكنها، كعادتها، لا تأتي بسهولة.
عادت ليتي إلى غرفتها بعد أن غادر كلود قاعة الطعام ذلك الصباح. بدّلت ملابسها، جلست قليلًا تقرأ ثم خرجت تتمشّى في الممرات… يوم عادي آخر، لا أحد يتساءل من تكون، لا خادمة همست باسمها ولا نظرة شك طاردتها. كان هذا السكون غريبًا… وكأنه مصطنع.
بدأ القلق يزحف إليها:
هل هناك شيء لا أعرفه؟ لماذا الجميع يتصرّف وكأن حياتي هنا أمر طبيعي؟
لم ترَ كلود طوال اليوم، وعندما سألت عنه أثناء الغداء أجابتها إيميلي:
”السيد يحضر اجتماعًا مهمًا، لن يتمكن من الحضور اليوم.”
فاضطرت لتناول الغداء وحدها في غرفتها، وهي تشعر بأن شيئًا ما يتغيّر… شيء مخيف يقترب بهدوء.
وحين لامست الشمس الأفق لتودعه، جاء ما كانت تنتظره.
فتحت إيميلي الباب وقالت بانحناءة بسيطة:
”آنستي… السيد يستدعيك في الحديقة الخلفية، قرب البحيرة.”
قفز قلب ليتي قبل أن تجيب بابتسامة خجولة لم تستطع منعها:
”حقًا؟”
غادرت الغرفة بسرعة، ركضت على الدرج وكادت تتعثر لولا أنها أمسكت الدرابزين أخيرًا.
نادتها إيميلي خلفها:
”آنستي… تمهّلي! سوف تسقطين!”
لكن ليتي كانت قد اندفعت خارج القصر بالفعل.
عبرت الممشى الحجري المؤدي للحديقة الخلفية، نسيم المساء حمل خيوط عطر اللافندر من حديقة الزهور القريبة. توقفت أمام البحيرة…
كان الليل قد حلّ، لكن الأضواء المعلقة بين الأشجار صنعت مشهدًا ساحرًا… وكأنها نجوم معلّقة على ارتفاع منخفض.
تقدمت خطوة، نظرت إلى سطح الماء فرأت انعكاس القمر يتلألأ كالفضة السائلة.
ثم… سقط شيء بارد فوق أنفها.
رفعت يدها تتحسس المكان، ثم رفعت رأسها ببطء.
شيء ما كان يهبط من السماء… ناعمًا، خفيفًا… لا يُصدق.
التعليقات لهذا الفصل " 32"