عندما فتحت أبواب قاعة العرش، انكشفت أمامها مشهدا بهيا يشبه عالمًا آخر. سقف مرتفع مغطى بلوحات ملحمية، أعمدة رخامية بيضاء تعلوها تيجان مذهّبة، وستائر ضخمة تلمع تحت ضوء النهار الداخل من نوافذ زجاجية ملونة. على العرش، جلس الإمبراطور — رجل في منتصف الأربعينات، شعره الأشقر يلمع كالذهب القديم، عيناه زرقاوان باردتان تشبهان سماء خالية من الغيوم. وجهه الوسيم يحمل خطوط الزمن، لكن وقفته ما زالت مهيبة. على يمينه وقف شاب، نسخة مصغرة منه، شعره بنفس اللون، عيونه بنفس الزرقة، يذكّرها بصورة الإمبراطور عندما كان في العشرينات من عمره؛ صورة شابٍ في بدايات السلطة والطموح.
صوت الإمبراطور اخترق صمت القاعة:
– إيفلين… تعالي إلى هنا.
تقدمت بخطوات موزونة، وانحنت انحناءة رسمية:
– جلالتكم.
ابتسم الإمبراطور ابتسامة صغيرة، كمن يمهّد لكلمات أعمق:
– يا لها من مفاجأة… كل مرة أراكِ فيها تصبحين أجمل. تلك العينان، ذلك الشعر… لا عجب أن الجميع يتحدث عنكِ.
ظلت إيفلين ساكنة، وجهها بلا ملامح تقريبًا، لكنها شعرت بالاشمئزاز يتسلل إلى أعماقها. ابتسمت ابتسامة صغيرة لم تصل إلى عينيها. الإمبراطور تابع بصوته الهادئ، وكأنه يختبرها:
– دوق روديا سيصل إلى العاصمة قريبًا. أنا واثق أنكِ ستنجحين في الأمر. تذكري… أنت الورقة الأهم لسقوط الدوقية.
رفعت عينيها الخضراوين نحوه، بلا أي اهتمام، بلا أي مشاعر:
– سأكون عند حسن ظنّكم، جلالتكم.
هز رأسه ببطء، وكأنه يراها قطعة شطرنج تابعة له، ثم أشار بيده:
– يمكنكِ الانصراف. استعدّي لما هو قادم.
استدارت إيفلين وغادرت القاعة، خطواتها لا تُسمع على أرضية الرخام البارد. وما إن أصبحت في الجهة الأخرى من الباب حتى أطلقت تنهيدة عميقة، كتنهيدة حيوان بري حُبس في قفص. نظرت إلى النافذة الكبيرة في الممر، حيث طائر صغير ينتقل بحرية بين أغصان الأشجار، جناحاه يلمعان تحت الشمس.
تمتمت في نفسها، بصوت يكاد لا يُسمع:
– طائر حر…
~~~~~~~
كانت القاعة الكبيرة قد انغلقت أبوابها الثقيلة خلف إيفلين، تاركةً وراءها صدى خطواتها يذوب بين الأعمدة الرخامية. في الداخل، ظل الصمت للحظة كأنه حائط زجاجي، ثم كسره صوت الشاب الواقف إلى يمين الإمبراطور.
قال بصوتٍ فيه استياء مكبوت:
– جلالتك… أنا لا أحب إيفلين أبدًا. إنها باردة… لا تعرف حتى كيف تتحدث مع من سيكون زوجها قريبًا. ألم ترَ؟ لم تلقِ التحية عليّ حتى. كل ما فعلته هو تجاهلي.
رفع حاجبيه قليلًا، وصوته يهبط إلى نبرة متسائلة:
– ليس فيها شيء مثير للاهتمام سوى وجهها الجميل… لكن هل تعتقد حقًا أن هذا يكفي لتغري كلود؟
الإمبراطور ظل ساكنًا للحظة، ينظر إلى ابنه ليونهارد بعينين زرقاوين لا تكشفان سوى جزء من تفكيره. الشبه بينهما كان صارخًا: الشعر الأشقر، البنية الممشوقة، لكن في نظر الإمبراطور كان ابنه بطيء الاستيعاب، متهورًا، ساذجًا أمام قواعد اللعبة الكبرى.
تنهد الإمبراطور ببطء، ثم تحرك من على عرشه بخطوات ثقيلة محسوبة، كأن الأرض تحت قدميه تحسب أنفاسه. اتجه نحو لوحة كبيرة معلقة على الجدار الجانبي؛ لوحة قديمة مرسومة بزيتٍ داكن، تُظهر يدًا بيضاء تحمل خيطًا طويلًا يحرّك دمى خشبية صغيرة ترتدي تيجانًا ذهبية، وجوهها بلا ملامح. خلف اليد الظلّية كانت غابة من الرماد الأسود، وفي السماء طائر ضخم يحدّق إلى الأسفل بعين واحدة. اللوحة بدت كأنها انعكاس رمزي لكل كلمة سيقولها.
وقف الإمبراطور أمامها، رفع يده نحوها، ولم ينظر إلى ابنه عندما تحدث:
– لا يهم إن استطاعت أو لم تستطع… كل ما نحتاجه هو الكذبة. نحن لا نريد صناعة الحقيقة… نحن نريد اختلاقها.
صوته صار أعمق، كأنه يخرج من طبقة سحيقة:
– ليونهارد… عليك أن تفهم. الفرص لا تأتيك عن طريق الحقيقة. دائمًا تحتاج إلى التزييف لصنع الفرص.
التفت الإمبراطور ببطء، عيناه تلتمعان بضوءٍ بارد، وفي زاوية شفتيه ارتسمت ابتسامة خبيثة جدًا، ابتسامة رجل يعرف أنه يحرّك الخيوط كلها بنفسه.
أما ليونهارد، فظل واقفًا في مكانه، ملامحه مترددة، لم يستطع أن يعرف أكان يشاهد لوحةً على الجدار أم مرآةً لما سيصبح عليه.
~~~~~~~
استيقظت ليتي ببطء، جفناها يفتحان على ضوءٍ مائل للذهبي كان يتسلل من نافذة العربة. كانت نائمة في حضن كلود، تشعر بحرارة جسده وطمأنينته تحيط بها، فيما كان هو مستندًا بظهره إلى وسادة المقعد، يراجع بعض الأوراق بتركيزٍ صامت.
تذكّرت أنها تناولت الطعام معه قبل قليل، وأنها بعد أن شعرت بالراحة نامت دون أن تنتبه لنفسها، ربما لأن الليلة السابقة سرقت منها النوم.
رفعت رأسها قليلًا، أذناها تتحركان بخجل، وعيناها تحاولان أن تتأقلم مع الضوء. المشهد خلف النافذة كان ساحرًا؛ العربة متوقفة في مكان هادئ من الغابة، والشمس توشك على الغروب، تنسكب أشعتها البرتقالية والوردية بين الأشجار العالية، ترسم على الأرض أشكالًا متكسّرة من النور والظل، والهواء يحمل نكهة باردة منعشة. بدا كل شيء وكأنه ينتمي إلى لوحةٍ حية.
تعلّقت ليتي على النافذة، راحت تضرب بخفة على الزجاج بأناملها الصغيرة، ذيلها يتحرك بحماس، وكأنها تحاول لفت انتباهه لشيء ما. رفع كلود عينيه عن الأوراق، نظر إليها للحظة، ابتسم بلطف وقد فهم ما تريد.
قال بصوتٍ دافئ منخفض:
– هل تريدين الخروج قليلًا؟
هزّت رأسها برقة، عينيها تلمعان بتوقٍ طفولي، ثم مدت قدمها الامامية نحو يده وكأنها تتوسل المزيد من القرب. ترك كلود الأوراق جانبًا، أغلقها بحركة محسوبة ثم انحنى نحوها، لمس طرف أنفها بإصبعه بلطف وابتسم أكثر.
– أتعلمين؟ أحيانًا أفكّر أنني لم أعد أستطيع تخيّل هذه الرحلات من دونك.
ليتي توقفت للحظة، قلبها يخفق، ثم أسندت رأسها إلى صدره. ابتسم كلود بهدوء، رفع يده ليمرّر أصابعه في فروها الناعم، شعورٌ دافئ خفي يجتاحهما، مزيج من الحماية والاعتياد على وجود الآخر.
قال لها وهو ينظر إلى الغابة:
– اتعرفين هذا يذكرني بالماضي .
رفعت رأسها قليلًا، نظرت إليه بفضول، لكنه لم يجب على تسائلاتها وانما، انحنى نحوها وقبّل جبينها قبلة سريعة كنسمة، ثم فتح باب العربة بيده الأخرى وأشار لها أن تنزل. الغروب كان ينتظر، والغابة أمامهما تلمع كساحة سرّية للاثنين وحدهما.
نزلت ليتي من العربة تقفز على العشب الطري، ذيلها الأبيض الطويل يهتزّ يمينًا ويسارًا بحماس. الهواء في الغابة كان باردًا منعشًا، يحمل معه روائح طحالب ونسيمًا يشبه السكر المذاب. انعكست أشعة الغروب البرتقالية على فرائها الفاتح فبدت وكأنها شعاع ضوء يتحرك بين الأشجار.
كلود أغلق باب العربة وسار خلفها بخطوات هادئة، يداه في جيبيه، ابتسامة صغيرة على شفتيه وهو يراقبها تركض في الانحاء وتستكشف المكان كطفلٍ في حديقة. كانت كل بضع خطوات تتوقف، ترفع أذنيها كالرادار، ثم تقفز قفزة قصيرة إلى مكان آخر وكأنها وجدت كنزًا صغيرًا.
اقتربت من جذع شجرة عالية، انحنت على حافة جذر ضخم تستكشفه بأنفها الصغير. فجأة تحرك شيءٌ صغير بين الأعشاب – ربما كان جرادًا أو فراشة – فرفرفت أذنا ليتي في انتباه حاد،
‘ لا علي ان اتحكم في نفسي لاتتبعي غريزة الثعالب ليتي !! ‘
ورغم محاولاتها اليائسة لصرف انتباهها ، لم تستطع وقفزت عليه. لكن… بدل أن تصيد ما لاحظته، انزلقت على ورقة مبللة وسقطت في كومة من أوراق الخريف اليابسة.
ارتفعت سحابة صغيرة من الأوراق حولها، وبقي ذيلها فقط ظاهرًا وهو يهتزّ بعصبية خفيفة. شعرت ليتي بالخجل والغضب من نفسها ، كيف تفعل امرا طفوليا كهذا .
كلود الذي كان يراقب رفع حاجبه ثم أطلق ضحكة صغيرة لم يستطع منعها، ضحكة نادرة كسرت صرامته المعتادة.
– ليتي… هل أنتِ بخير هناك؟ – قال بنبرة مازحة وهو يتقدم.
خرجت ليتي من الأوراق، أذناها متدليتان، أنفها عليه بقع صغيرة من الغبار. رفعت رأسها إليه بنظرة مستغربة ومحرجة في آن واحد، ثم عطست عطسة صغيرة جعلت كلود يضحك أكثر.
‘ توقف ارجوك لاضحك ‘
جلس على ركبتيه أمامها، أخرج منديلًا صغيرًا من جيبه، ومسح برفق التراب عن أنفها. كانت عيناها تلمعان بشيء بين الانزعاج والبراءة، ذيلها يلتفّ حول نفسها كحلقة صغيرة.
قال بصوت دافئ ساخر:
– أنتِ ثعلبة مغامِرة حقًا… حتى الأشجار لا تنجو منكِ.
هزت ليتي أذنيها بسرعة، أصدرت صوتًا صغيرًا يشبه النحيب المدلّل، ثم اندفعت نحوه وقفزت إلى حضنه، دفنت أنفها في سترته كما لو كانت تقول له «لا تضحك». ابتسم كلود ابتسامة واسعة، ضمّها برفق، شعوره بالمرح والدفء يتصاعد في صدره.
همس لها وهو يربت على ظهرها:
– حسنًا… لن أخبر أحدًا عن هذا. سيكون سرّنا.
رفعت ليتي رأسها، أذناها ما زالتا تتحركان بخجل، لكن عينيها تلمعان بشيء يشبه الضحك الصامت. كان الغروب من حولهما قد صار أعمق لونًا، والهواء مليئًا بأصوات الغابة الهادئة، وكأنها كلها تتآمر لصنع لحظة صغيرة من المرح بينهما.
ولكنها كانت واثقة من امر ما …
‘ لن اخرج الى هذه الغابة العينة مجددا ‘
~~~~~~
ان شاء الله الفصل اعجبكم
انا غيرت اسلوبي بالكتابة حسب نصيحة من شخص لو خبرة بهذا المجال فا اش رأيكم بأسلوبي الجديد .
وحبيت اقول شيء …. اخر بارت من الفصل الي هو حدث الغابة الي بين كلود وليتي ، هو بالاصل مو موجود اصلا . هذا البارت ضفته من عندي انخاطر عيون قارء بالتعليقات قالت انها ابتسمت وحست بفراشات بسبب مشهد بالفصل السابق … لذالك ضفت هذا البارت كهدية 💖🤭
وسلام اشوفكم بالفصول الجاية
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
عالم الأنمي
عـام
منتدى يجمع عشاق الأنمي من كل مكان!
شاركنا انطباعاتك، ناقش الحلقات والمواسم الجديدة، تابع آخر الأخبار، وشارك اقتراحاتك لأفضل الأنميات التي تستحق المشاهدة.
سواء كنت من محبي الشونين، الرومانسية فهذا القسم هو موطنك!
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
التعليقات لهذا الفصل " 19"