4
ظلّ يحدّق في السقف دون أن يتحرك.
الضوء الأبيض المنبعث من المصباح فوقه بدا كطعنة في عينيه، لكنه لم يرمش.
كانت كلماتها تتردد في رأسه كصدى في غرفة مغلقة:
«يا مريضي الطائش…»
نبرة باردة في ظاهرها، لكنها تحمل شيئًا آخر شيئًا لم يستطع بعد أن يضع إصبعه عليه.
أدار رأسه ببطء نحو الباب الذي خرجت منه.
لم تعد هناك، لكن عطرها الخفيف ما زال عالقًا في الهواء… مزيج غامض من المطهر الطبي ورائحة امرأة لا تعرف الخوف.
ابتسم ابتسامة باهتة، ثم مرّر أصابعه على الضمادة فوق كتفه.
الألم كان حادًا، حقيقيًا، لكنه لم يكن ما يشغله.
الأهمّ من الألم كان السؤال الذي يتسرب إلى وعيه مثل سمّ بارد:
-“نظراتها لي… كما لو أنها تعرف من أكون؟”
شدّ قبضته ببطء حتى برزت عروقه، ثم همس لنفسه بصوت بالكاد يُسمع:
-“ليس من عادتي أن يغمى عليّ من رصاصة واحدة… ما السبب؟”
أغمض عينيه، وصوت جهاز المراقبة القلبي يواصل رتابته المنتظمة كطبلة حرب بعيدة.
وفي مكانٍ ما، تحت الجرح والضمادات، كانت ذاكرة الهجوم والرصاص تتقلّب في صدره كحيوان محبوس ينتظر اللحظة المناسبة لينقضّ.
…
سارت جوليا في الممر الطويل بخطوات متزنة، تخفي خلفها اضطرابًا يعصف في صدرها كضجيج قلبٍ لا يهدأ.
كانت الأنوار البيضاء تنعكس على الجدران، ترسم ظلّها الممتدّ كأنها نسخة أخرى منها أكثر هدوءًا، أكثر برودًا… لكنها أقل صدقًا.
توقفت أمام باب مكتبها.
أمسكت بالمقبض للحظة، ثم ضغطت عليه ببطء ودخلت.
أغلقت الباب خلفها، وأسندت ظهرها إليه، كأنها تحاول أن تفصل نفسها عن العالم بأسره.
أغمضت عينيها، وأطلقت زفرة طويلة، محاولة طرد الصورة التي التصقت بداخلها كندبة:
ذلك الوجه الشاحب، النظرة الزرقاء الباردة كبحرٍ هائج، الضحكة الساخرة، والوشم… الوشم الذي لم يغادر ذاكرتها منذ رأته.
سارت نحو مكتبها وجلست على الكرسي الجلدي.
انحنت حتى لامس جبينها سطح الخشب البارد، وهمست بين أنفاس متعبة:
-“ابتعدي عني… يا أفكار سيئة، ابتعدي.”
رفعت رأسها ببطء ونظرت صوب النافذة؛ هناك مشهد دافئ يستطلع الفجر. تنظر إليه بصمت، كأنها تقرأ صفحة جديدة بعد ليلة قتال. بعدها نهضت ببطء من كرسيها، وقالت بصوتٍ أجوفٍ قليلًا:
– «انتهى عملي اليوم.»
مرت بإبهامها على حافة المكتب كأنها تمسح غبارًا لم يعد ذا شأن، وفِي تلك الحركة كان فيها شيء من الطقس الختامي مسحة هدوء قاسية توازي عنف النهار الذي رحل.
غيّرت جوليا ثيابها بسرعة، حملت حقيبتها وخرجت من مكتبها.
الممرات كانت شبه خالية، والهدوء يخيّم على المكان إلا من أصوات خافتة لأطباء يغادرون نوباتهم المرهقة.
نزلت إلى الطابق الأرضي بخطوات ثابتة، ورفعت رأسها بثقة رغم التعب الذي يثقل عينيها.
في الخارج، كان الفجر قد اكتمل.
أخرجت مفتاح سيارتها من جيب المعطف، ضغطت الزر فصدر الصوت القصير المعتاد، ثم جلست خلف المقود وانطلقت نحو بيتها البعيد قليلًا عن المستشفى.
حين وصلت، أوقفت السيارة، أخرجت المفتاح وأدارته في القفل.
فتح الباب منزلها بصوت خافت، فدخلت وأغلقته بهدوء خلفها.
خلعت حذاءها عند المدخل، وسارت بخطوات متعبة نحو غرفتها.
وضعت حقيبتها على طاولة المكتب، ثم ارتمت على السرير دون حتى أن تخلع معطفها تمامًا.
لم تمضِ سوى ثوانٍ حتى غلبها النوم ، نومٌ ثقيل، يشبه انطفاء شمعة بعد عاصفة.
…
تسللت أشعة الشمس إلى الغرفة بخفة، تتبعثر دفئًا ذهبيًا عبر الستائر، تغمر الجدران بلونٍ ناعم يبدّد أثر الليل.
جلس رافاييل ببطء، واضعًا يده على كتفه الملفوف بالضمادات. تنفّس بعمق وهو يتفحص المكان حوله بعينين زرقاوين نصف خامدتين.
ابتسامة خافتة ارتسمت على شفتيه، كلّما تذكّر تصرف جوليا تلك النظرة الرمادية الباردة التي رمقته بها، وكيف كانت كفيلة بإثارة شيءٍ غامض بداخله.
مدّ يده نحو منضدة السرير، تناول كوب الماء، وارتشف منه رشفة صغيرة.
لكن عينيه توقفتا عند شيء في الجهة المقابلة ملف صغير يحمل اسمه.
مدّ يده إليه وفتحه ببطء، وعيناه تلتهمان الكلمات بتركيز:
*مريض: غرزيرس رافاييل.
إصابة بشظايا زجاج في الكتف الأيسر
نُقل من موقع حادث سير.*
ضحك بخفوت، وهز رأسه بسخرية:
-“شظايا زجاج؟… أيتها المتعجرفة، تزيدين شكي فيك كل مرة.”
أعاد الملف إلى مكانه، وأسند ظهره إلى الوسادة.
انعكست عيناه الزرقاوان في شاشة المراقبة الطبية بجانبه، تلمعان كأنهما تراقبانه من عالمٍ آخر.
في تلك اللحظة، انفتح الباب ببطء.
دخل رجل يرتدي بدلة رمادية أنيقة، خطواته محسوبة ونظرته حذرة.
توجه مباشرة نحو السرير، وانحنى قليلًا وهو يقول بصوتٍ منخفضٍ يحمل شيئًا من الاحترام الممزوج بالتحفظ:
-“سيد رافاييل… أخيرًا سمحوا لي بالدخول.”
-“هل طلب الزعيم منك شيئًا؟”
خرج صوت رافييل باردًا، حادًّا كحدّ السكين، جعل الرجل يقف أكثر استقامة قبل أن يجيب بصراحة:
-“سيدي… الزعيم أوصاني أن أذكّرك بعدم إثارة أي ضجة. لولا اسم الشركة ومكانتها، لما تمكّنا من إخفاء هويتك بهذه السرعة. الوضع حرج جدًا، كما تعلم، وهذا كان كلامه بالحرف.”
ظلّ رافييل يراقبه بصمتٍ طويل، عيناه تلمعان بخطرٍ مكتوم. ثم قال بهدوءٍ قاتل:
-“أخبره أن المهمة فشلت… بسبب عائلة أوروكا. لقد عادت إلى نشاطها من جديد.”
انحنى الرجل بخفة علامة الاحترام، ثم استدار وغادر الغرفة بخطواتٍ حذرة، كأنه يخشى أن تُغلق الباب على نفسه قبل أن يخرج من دائرة ذلك الهدوء الموحش.
تدفقت الذكريات في رأسه كتيارٍ جارفٍ لا يرحم.
ذلك الاجتماع… حيث اجتمع مع حلفائه لمناقشة صفقة بيع أسلحة نوعية، صفقة كان يفترض أن تُعيد التوازن لقوتهم في السوق السوداء.
لكن ما إن وصلت الشحنة، حتى انقلب كل شيء إلى جحيمٍ حقيقي.
رصاص… دخان كثيف… صرخات متقطعة تتلاشى وسط دوي الانفجارات.
الدم تلطّخ بالرماد، وصدى الطلقات ارتطم بجدران المستودع كأنها لعنات متكرّرة.
كان يتحرك بخبرة، يتخلّص من مهاجميه واحدًا تلو الآخر، إلى أن لمح شيئًا غريبًا على ذراع أحدهم وشم عنكبوتٍ ذو ستّ أرجل.
العلامة لم تخطئها عينه. عائلة أوروكا.
حين ظنّ أنه نجا، وركب دراجته للهرب، جاء الهجوم الأخير طلقة واحدة اخترقت كتفه، أفقدته توازنه.
انزلقت الدراجة بعنف، ارتطمت بسيارةٍ مسرعة، ثم عمّ السواد.
قبض يده بقوة حتى برزت عروقه، والشرر في عينيه أضاء عتمة الغرفة.
تمتم بصوتٍ غليظٍ متفجّرٍ بالغضب:
-“اللعنة على تلك العائلة… سأدمّرها عن بكرة أبيها.”
نهض رافييل من السرير بعنف، ووجهه متجهم كبركانٍ على وشك الانفجار.
أمسك بالأنبوب المغروس في ذراعه، وانتزعه بقسوة، فاندفعت بضع قطرات دم سالت على جلده، قبل أن يمسحها بلا اكتراث.
لم ينظر إلى الأجهزة التي أخذت تصدر أصوات إنذار متقطعة تركها خلفه كما يترك الجندي ساحة معركةٍ خاسرة.
خرج من الغرفة بخطواتٍ ثقيلة، صدى خطواته يتردد في الممر الفارغ، وكل خطوة تشي بعزمٍ لا يعرف التراجع.
عند نهاية الممر، ظهرت أمامه لافتة صغيرة فوق باب معدني رمادي
-غرفة الأدوية والتخزين-
دفع الباب بيده دفعة واحدة، فارتطم بالجدار بقوة جعلت الصدى يتردد في الغرفة.
دخل بخطواتٍ متعجرفة، نظراته حادة كالسيف.
كانت سرين منحنية تبحث بين الرفوف عن ضماداتٍ وإبر لتوزيعها على قسم الاستعجالات.
لكن صوت الباب المفاجئ جعلها تتجمد في مكانها، قلبها يخفق بسرعة، وقطرة عرق باردة انزلقت على عنقها.
رفعت رأسها ببطء، وعيناها تلاقتا بعينيه.
الزرقة في عينيه لم تكن هادئة كما بالأمس، بل كانت عاصفة.
ابتلعت ريقها بصعوبة، ولم تدرِ ما إذا كان عليها الصراخ… أم التزام الصمت.
لارتبكتك بشدة، حتى سقطت الصينية من بين يديها، وارتطم الحديد بالأرض بصوتٍ حادٍّ شقّ صمت الغرفة.
تراجعت خطوة بعد خطوة، حتى اصطدم ظهرها بعمودٍ معدني للخزائن.
في تلك اللحظة، كان رافاييل قد اقترب منها.
مدّ يده، وأمسك بمعصمها بقوةٍ جعلت الدم يتوقف عن الجريان، ثم رفع وجهها نحوه بأنامله الباردة، لتلتقي عيناها المرتعشتان بعينيه الزرقاوين اللتين تحوّلتا إلى جليدٍ قاتل.
قال بصوتٍ حادٍّ يخلو من أي انفعال إنساني:
-“أخبِريني، أيتها الممرضة… من تكون تلك الطائشة؟”
ارتجفت شفتاها وهي تهمس بخوف:
-“إنها… دكتورة جوليا نيون، متخصصة في جراحة القلب.”
اشتدّت قبضته، حتى احمرّت يدها وأخذت ترتجف من الألم.
قال ببطءٍ أثقل من الرصاص:
-“أقصد خلفيّتها.”
ابتلعت ريقها بصعوبة، وصوتها بالكاد خرج من بين أسنانها المرتجفة:
-“كُل ما أعلمه… أنها ابنة أوليفر نيون، كان عاملاً بسيطًا… درست الطب في الخارج وعادت قبل أربع سنوات… لتصبح طبيبة هنا. عمرها ثمانٍ وعشرون، هذه السنة…”
ارتخت كتفاها قليلاً بعدما نطقت بكل ما تعرفه، لكن نظرته لم تلِن.
صوته خفَت أكثر، لكنه صار أخطر:
-“هل هي من كتبت أن إصابتي كانت بشظايا زجاج؟ أم إدارة المستشفى؟”
ردّت بسرعة، دون أن تفكر:
-“بعد العملية… طلبت مني أن أبقي أمرك سرًّا، خصوصًا بعد أن قالت إنك من المافيا……”
توقفت فجأة، وشحبت ملامحها حين أدركت ما قالته.
لكن الوقت كان قد فات.
شدّ قبضته على معصمها حتى شعرت وكأن العظام تتفتّت تحت يده.
همس ببرودٍ قاتل:
-“كيف لها أن تعلم؟ أجيبي، وإلا قطّعتك هنا.”
هزّت رأسها بسرعة، تلهث من الرعب:
-“رأيتها… رأيتها عندما مزّقت قميصك لتفحص الجرح… توقفت عند الوشم، وتمتمت عن انك من المافيا… وبعد العملية هدّدتني أن لا أنطق بكلمة!”
ظلّ صامتًا لثوانٍ، ثم أطلق سراحها فجأة.
تراجعت خطوة، تمسك بمعصمها المزرق، فيما قال بنبرةٍ باردة، على شفتيه ابتسامة قصيرة لا تخلو من السخرية:
-“هدّدتك؟… كم هذا مثير للاهتمام، ومسلٍ في الوقت ذاته.”
تبددت الابتسامة سريعًا، وعاد وجهه إلى الجمود.
تقدّم نحو الباب، ثم أضاف بصوتٍ منخفضٍ دون أن يلتفت:
-“أنتِ حرّة… لكن تذكّري، منذ هذه اللحظة… أنتِ تحت المراقبة.”
ثم خرج من الغرفة، تاركًا خلفه سرين ترتجف وحدها، تمسح دموعها بيدٍ ترتجف، بينما آثار أصابعه مطبوعة على معصمها كندبةٍ من الخوف.
عاد رافاييل إلى غرفته بخطواتٍ هادئة، وعلى وجهه تلك الابتسامة الغريبة التي لا تشبه الفرح، بل أشبه بابتسامة من وجد لذة في الفوضى نفسها.
جلس على حافة السرير، وراح يمرر أصابعه على الضمادة التي تغطي كتفه، كأنما يداعب الجرح لا يداويه.
تمتم بصوتٍ منخفض، يحمل نغمة جنون خافتة:
-“قد هدّدتها…”
كررها مرة، ثم مرتين، ثم انفجر بضحكة قصيرة تملؤها السخرية.
أمال رأسه للخلف، وحدّق بالسقف، والابتسامة ما زالت تعلو وجهه كقناعٍ ثابت لا يسقط.
مدّ أنامله ببطء نحو حافة قميص المستشفى، أزاحه قليلًا ليكشف موضع الجرح، ثم همس كمن يخاطب نفسه أو طيفًا غير مرئي:
-“آه، يا متعجرفة… يا جوليا.”
ارتسمت على وجهه نظرة افتتانٍ مظلم، وتابع بنبرةٍ ناعمةٍ كأنها غزل ممزوج بالسمّ:
-“لقد اخترقتِ شباكي التي ظننتها محصّنة… اقتربتِ أكثر مما تجرؤ عليه أي امرأة.”
ضحك بخفوت، وصوته يزداد جنونًا وهو يحدّق ب
الفراغ:
-“يا ليتني كنت هناك… لأرى ملامحك وأنتِ تهدّدينها بتلك البرودة… يا له من مشهدٍ مذهل كان سيكون.”
ثم أسند رأسه إلى الوسادة، والابتسامة لا تزال معلقة على شفتيه، نصفها إعجاب… ونصفها وعدٌ بالدم.
Chapters
Comments
- 4 - مريض طائش -2- 2025-10-26
- 3 - مريض طائش -1- 2025-10-05
- 2 - المناوبة ليلية -2- 2025-10-04
- 1 - المناوبة ليلية -1- 2025-10-04
التعليقات لهذا الفصل " 4"