كنت على وشك أن أنزعج، لكن البيض الذي كنت أقليه على وشك أن يحترق، لذا أسرعت عائدًا إلى المطبخ.
بدأ الجرح في يدي يؤلمني من جديد، ففتحت صنبور الماء ووضعت كفي تحت الماء البارد. وبيدي الأخرى، وضعت بعض شرائح الخبز في المحمّصة.
“البيض جاهز!”
وبينما كانت تأكل — بشهيةٍ مدهشة، إن جاز القول — سكبت لنفسي بعض القهوة وجلست قبالتها. لا شيء يضاهي منظر فتاة جميلة تستمتع بطعامها دون خجل، بينما تحتسي قهوتك الصباحية، هكذا فكّرت.
تنهدت برضا عميق، ثم دفعت الطبق الفارغ بعيدًا.
“كان هذا البيض اللعين رائعًا بحق.”
رفعت كتفيّ بلا مبالاة.
“إنه بيض. قليته فحسب.”
ابتسمت.
“ألست فضوليًا لتسأل؟”
“أسأل عن ماذا؟”
“ما الذي في الصندوق؟! ما الذي في الصندوق اللعين؟!”
آه، صحيح. كنت قد نسيت تمامًا أمر الصندوق الضخم.
نظرت إليّ “كلير” بعينين تترقبان إجابتي.
“ما في الصندوق يا كلير؟”
“هاه! من المضحك أنك سألت. إنها بيانو!”
“أحضرتِ لي بيانو؟ تقصدين بيانو كهربائي؟”
“بالضبط!”
“… ولماذا؟”
“ماذا تعني بـ ‘لماذا’؟ أنت في فرقتي يا رجل!”
“أنا؟!”
حسنًا، كانت تلك مفاجأة.
“طبعًا! لقد انضممت أمس، ألا تتذكر؟ قبل أن تحاول خنق ذلك المتشرد بقليل.”
عبر ظلّ قاتم ذهني حين ذكرتْه.
“صحيح… أظنني فعلت. لكن… أحضرتِ لي بيانو؟”
“لا تكن جادًا إلى هذا الحد. لم ‘أحضره’ بالمعنى الحرفي، بل استعرتُه من والدي. عليك أن تتدرب!”
“ماذا تعنين بأنك استعرتِه من والدك؟”
“لا تقلق، لديه غيره. كان والدي موسيقيًا قديمًا، كما يقول هو على الأقل. أما العالم… فلا أظن.”
تنهدت.
“هل ترغب في فتحه الآن؟”
كان صوتها مليئًا بالحماس لدرجة أنني لم أستطع سوى أن أومئ بالموافقة.
“رائع! لنفعل ذلك!”
عدنا إلى غرفة النوم. اضطررت إلى نقل كومة من الكتب لأفسح مكانًا للبيانو بينما كانت “كلير” منهمكة في فتح الصندوق.
“بالمناسبة، ما قصة كل هذه الكتب؟ هذا لا يتناسب مع صورة الرجل الرائع المتأنّق. أليس من المفترض أن تركب دراجات نارية وتضاجع النساء الجميلات في وقت فراغك؟”
أعتقد أن أذني أصبحت حمراء.
“نعم، بالتأكيد. فقط ليس موسم الدراجات الآن، لذا…”
“لكن حقًا؟ وهذه ليست حتى الكتب الشعرية المعتادة التي يقرأها الشباب المتفاخرون. ‘تاريخ الجنون’ لميشيل فوكو؟ ‘الإخوة كارامازوف’ لفيودور دوستويفسكي؟ و’اليد اليسرى للظلام’؟ ما هذا بحق الجحيم؟”
رفعت كتفي.
“أحب الكتب.”
نظرت إليّ بتعبٍ واضح.
“نعم، تمامًا كما تحب مكعبات الألغاز. لكن لماذا؟ ولماذا هذه الكتب بالذات؟ هيا، أعطني شيئًا.”
توقفت لحظات أفكر.
“حسنًا… أظن أن هناك نوعين من الكتب الجيدة. النوع الأول واضح تمامًا: يجعلك تعيش جزءًا من حياةٍ لن تسنح لك الفرصة لتعيشها أنت بنفسك. وكلما ضاقت بك احتمالات الحياة، زادت جاذبية هذا النوع.”
“أفهم. أو حين تبدو احتمالات حياتك غير مُغرية.”
“صحيح. أما النوع الثاني من الكتب الجيدة، فهو الذي يمنحك فهمًا أعمق. أحبّ أن أتعلم عن العالم.”
“فضولي إذًا؟”
“لا، لا علاقة له بالفضول.”
“لماذا إذن؟”
رفعت حاجبيّ.
“أليس واضحًا؟ كلما فهمت العالم أكثر، تمكنت من حماية نفسك منه بشكلٍ أفضل.”
وبينما كنت أنطقها، أدركت أن الأمر ليس بديهيًا لمعظم الناس. معظمهم لا يحتاج إلى حماية نفسه من المرض، أو من المنظمة، أو من الناس. يمكنهم أن يعيشوا وفق ما يمليه المجتمع عليهم، ويتوقعوا نتائج جيدة. تبا، لقد كشفت لها أكثر مما كنت أنوي.
“إذًا، لست فضوليًا بل مصاب بجنون الارتياب، أليس كذلك؟ لا أريد أن أُفسد فقاعتك النرجسية يا رجل، لكن العالم لا يتآمر ضدك. لديه ما يشغله… مثل ذوبان القمم الجليدية القطبية مثلًا.”
ابتسمتُ.
“أنتِ من سأل. على كل حال… فلنتفقد البيانو، ما رأيك؟”
“حسنًا.”
وضعناها على قاعدتها، ووصلناها بالكهرباء. عزفت “كلير” بضع نغمات بحذر، وانبعث صوت بيانو عميق ومتناغم في أذنيّ، لم أسمعه منذ سنوات.
كانت آية في الجمال. أنيقة، حديثة، لكنها تحمل لمسة كلاسيكية خالدة. لمستُ المفاتيح، ولاحظت أنها مُثقّلة كالمفاتيح الحقيقية.
“كلير… هذا الشيء لا بد أنه غالٍ جدًا. هل أنتِ متأكدة أن والدك موافق على إعارته لشخص غريب؟”
ابتسمت بمكر.
“ما الذي تعنيه بـ ‘شخص غريب’؟ نحن أعز الأصدقاء يا مات! أعني، كدنا نقتل متشردًا معًا!”
ولما رأت الشك في وجهي، تنهدت.
“لا تقلق يا مات. والدي تركني أنا وأمي وأنا طفلة صغيرة جدًا. لم نرَ منه فلسًا واحدًا أثناء نشأتي. ثم، حين بلغت الثامنة عشرة تقريبًا، أصيب بما يشبه أزمة منتصف العمر المتأخرة وقرر التواصل معي. كما يقولون، ‘أن تأتي متأخرًا خيرٌ من ألا تأتي أبدًا’، أليس كذلك؟”
أومأت برأسي.
“حسنًا، هذا هراء تام. كنت سأُسعد ألا أسمع من ذلك الأحمق مجددًا. لكن… بفضله تمكنت من الانتقال إلى المدينة ودفع رسوم الجامعة. الفكرة أنه يحب أن يُلقي المال نحوي، فهذا يجعله يشعر بأنه أبٌ صالح. عادةً لا أسمح له، لكن هذه الآلة كانت تتراكم عليها الأتربة في مرآبه. لذا لا تقلق. ثم إنها لخدمةٍ نبيلة.”
“وأيّ خدمة تلك؟”
“تلك التي تجعلنا أثرياء ومشهورين، بالطبع!”
عزفت بضع نغمات أخرى.
“أظن أن جيرانك لن يسرّهم سماعك تتدرّب، لذا اشترِ سماعات جيدة. على كل حال… ماذا عن والدك؟ كيف هو؟”
رفعت كتفيّ.
“لم يكن حاضرًا أبدًا. لديّ رقمه في مكان ما، لكنني لم أفكر يومًا بالاتصال.”
“وأمك؟”
أشرت إلى إطار صورة.
“ها هي هناك.”
أخذت “كلير” الصورة ونظرت إليها مليًا. كانت أمي شابة، بشعرٍ داكن طويل ينسدل برقة على كتفيها، وابتسامة صغيرة على شفتيها. كنت على الأرجح في الثالثة أو الرابعة حين التُقطت تلك الصورة، لكنني تذكرت بوضوح رائحة ذلك اليوم: إبر الصنوبر والقطران.
“إنها جميلة جدًا! هل تراها كثيرًا؟”
هززت رأسي.
“لا. توفيت عندما كنت في السادسة عشرة.”
أعادت الصورة إلى مكانها بلطف.
“آه… آسفة يا مات.”
“لا بأس.”
“وهل أرسلوك إلى دار رعاية؟ أم عشت مع أحد الأقارب؟”
ابتسمت.
“لم يكن لي أقارب. اضطررتُ للالتفاف قليلًا على القانون لأصبح مستقلًا قانونيًا. أو شبه مستقل، لأن القوانين في هذا الشأن… غامضة.”
يا إلهي… كم كان العالم بريئًا آنذاك. كيف أصبح معقّدًا إلى هذا الحد؟
“في الواقع، هي من علّمتني العزف.”
وضعت “كلير” يدها على كتفي وضغطت برفق.
كان من المفترض أن يبعث لمسها الطمأنينة في نفسي، لكنه لم يفعل. بل تسللت أفكار مظلمة إلى رأسي. كل شيء سيئ حدث لي مؤخرًا بدأ مع “كلير”. بعد أن كلّمتني في الحانة، فقدت السيطرة أثناء الاختبار. ثم قابلتني عند البحيرة — هل كانت هناك صدفة؟ وبعدها، الرجل ذو العينين الزرقاوين الذي كان ينتظرني قرب الحفل الذي دعتني إليه.
هل كانت مجرد سلسلة من المصادفات؟ أم أن وراءها شيئًا خفيًا؟ هل يمكن أن تكون “كلير” تلعب بي؟ تعمل لحساب المنظمة؟
لو كانوا يشكّون بي…
“ما بك؟ تنظر إليّ بنظرات غريبة.”
لا، لا أستطيع تخيّل “كلير” — الحيوية، الثرثارة، الجريئة، الصريحة كالأطفال — جاسوسة سرّية. لا يمكن إلا لمريض نفسي أن يجسّد شخصيتها ثم يخفي شيئًا وراءها. ومع ذلك… هل يمكنني أن أثق بها حقًا؟
“هيه، كلير. هل يمكنني أن أطرح سؤالًا غريبًا؟”
رفعت حاجبيها.
“تفضل.”
ترددت لحظة، ثم سألتها بقلق.
“تخيّلي هرمًا مصنوعًا من الذهب. في أسفله، عبيد يعبدون آلهةً زائفة. ما الذي يوجد داخل الهرم؟”
حدّقت فيها مطولًا، أراقب وجهها لأي إشارة، ظلال عابرة، ارتجافة رموش، توتر مفاجئ في الكتفين… لكن كل ما رأيته هو حيرة تامة.
“… ماذا؟؟؟”
ابتسمت.
“لا عليكِ، شيء سخيف سمعته في التلفاز. إذًا، متى تتدرّبون؟”
تناولت سترتها، وهزت رأسها.
“أنت غريب يا مات، هل تعلم ذلك؟ على أي حال، كنا سنتمرّن اليوم مساءً. هل يمكنك المجيء؟”
نظرت إلى الساعة، أحاول أن أقدّر كم سيستغرق ما قررت فعله قبل النوم.
“عليّ أن أنهي أمرًا أولًا، لكنه لن يطول. إذًا، نعم، أستطيع.”
التعليقات لهذا الفصل " 9"