6
استغرق الأمر بضع دقائق حتى أجد كلير وسط ظلمة النادي المزدحم. كان الهواء مشبعًا بأضواء النيون، والموسيقى الصاخبة، ورائحة الكحول. الناس يشربون ويرقصون بلا قيد، يتخلصون من تعب أسبوع عمل طويل وبرودة الخارج القاسية. وجدت كلير قرب البار، تنتظر انتهاء مجموعة من مشروبات.
“كلير!”
استدارت بابتسامة مشرقة. وسرعان ما لاحظتُ أنها استبدلت سترة الـ”هودي” المريحة التي اعتادت ارتداءها بسترة جلدية سوداء، مزينة بعدد مقلق من المشابك المعدنية الصغيرة والمسامير.
“مات! مرحبًا، يا صديقي!”
عانقتني بحماسة، وكادت تسكب نصف كوب التكيلا على كتفي. شعرت بحرارتها من خلال طبقتين من القماش، وكان ذلك إحساسًا جميلاً، تمامًا ما كنت أحتاجه اليوم. فجأة، شعرت وكأن الكهرباء تسري في عروقي.
“ما رأيك؟!”
لوّحت بيدها نحو الفرقة الموسيقية، مسكبةً ما تبقّى من شرابها.
لم أكن جيدًا مع الموسيقى الحديثة، لذا احتجت بعض الوقت لأجد لحناً في صخب أغنيتهم المتناثر. الأسلوب، إن وُجد، كان انتقائيًّا لأبعد حد، لكن حماسهم في أدائه جعلني أكاد أصدق أن هذا النوع من الفوضى الموسيقية هو الموضة الآن.
“إنها… مثيرة للاهتمام.”
ضحكت كلير.
“إنها سيئة! إنهم فظيعون!”
اشتريت بيرة، متألمًا من السعر.
“إذًا لماذا جئتِ؟”
“ماذا؟!”
“لماذا جئتِ إلى هنا اذا كانت سيئه؟!”
نظرت إليّ بابتسامة ماكرة:
“أريد سرقة عازف الطبول! إنه جيد جدًا بالنسبة لهؤلاء الفاشلين!”
نظرت إلى المسرح، حيث كان شاب نحيل يضرب الطبول بعنف. كان يستمتع بوقته، يحافظ على إيقاع معقد بسهولة. بدا موهوبًا، لكن من أنا لأحكم؟
“تعال، سأعرّفك على الشباب!”
كما قالت، رفاقها كانوا حقًا طيبين. كانوا ثلاثة، من بينهم ذلك العازف النحيل الذي انضم إلينا بعد انتهاء عرض فرقته. جميعهم طلاب جامعة، أصغر مني بعام أو عامين.
ديلان كان حساسًا وذكيًّا، يفيض بالسخرية اللطيفة. ابتسامته حذرة وودودة، وطريقته في الحديث تنمّ عن شخص مرتاح مع ذاته. كان المغني الرئيسي، ورغم أني لم أسمعه بعد، كنت واثقًا أن صوته يحمل طابعًا مميزًا. وكان يعزف أيضًا الغيتار الإيقاعي، بينما تتولى نيلي الغيتار الرئيسي. تمتلك شعرًا أشقر قصيرًا، وكانت بشرتها شاحبة إلى حد أنها بدت زرقاء خفيفة في الظلام. جسدها نحيل ورياضي، يكاد يشبه محاربة أمازونية.
نيلي لم تكن تتحدث — كانت بكماء — لكنها عوّضت عن ذلك بقدرتها على التعبير بوجهها وجسدها، حتى إن حضورها الصامت كان محسوسًا بقوة في أي محادثة. وعندما لا تكفي الإيماءات، كانت تشير سريعًا إلى كلير التي كانت تتقن لغة الإشارة وتعمل كصوتها للعالم الخارجي.
تيد، عازف الطبول، كان هادئًا ومبتهجًا؛ متعبًا ومفعمًا بالأدرينالين في آنٍ واحد ، اكتفى بالجلوس في الزاوية بعد العرض يحتسي بيرة ويمسك بسيجارة غير مشتعلة بين أصابعه.
أما كلير فكانت المحرّك الحقيقي لهذه المجموعة الصغيرة، الرابط الذي جمعهم معًا. كانت تعزف الغيتار الباص، لا حبًا فيه، بل لأنها أرادت فعل شيء على المسرح. قيمتها الحقيقية كانت وراء الكواليس: كانت القوة التي تبثّ في الفرقة الحماس والطاقة، تكتب الموسيقى، وتعمل سحرها على الحاسوب لتجعلها تبدو رائعة. المثير للاهتمام أن كلير كانت من تبتكر الألحان، أما نيلي فكانت تكتب الكلمات. لم تكن خبرتهما كبيرة، لكن موهبتهما كانت واضحة.
أما أنا، فكنت الغريب وسط هذه الأرواح الشابة الطيبة والبريئة… والغافلة تمامًا.
بعد التعارف وبعض الأحاديث العشوائية، مال ديلان للأمام وقال:
“إذن، مات… كلير تقول إنك عبقري في العزف على البيانو.”
نظرت إلى كلير بدهشة.
“حقًا؟ حسنًا… لا. أعزف البيانو قليلًا، لكن مضى وقت منذ أن تدربت بجد.”
ضحك ديلان.
“توقعت ذلك. كلير يمكن أن تكون حقًا شبحًا!”
تشنّجتُ داخليًا.
لم تكن المرة الأولى التي أسمع فيها كلمة “شبح” تُقال كإهانة. عادةً لا أعيرها اهتمامًا، لكن أحيانًا تلمس وترًا حساسًا. الحقيقة أن الطيبين هم الأسوأ. الأشرار الحقيقيون، أولئك الذين يملؤون قلوبهم بالحقد ويصرخون طلبًا للدم، يسهل تجاهلهم — فهم لا يستحقون وقتي. لكن الطيبين، أولئك الذين تحبهم فعلًا… حين يقولون شيئًا كهذا، يؤلمك الأمر حقًا. والأسوأ أنهم لا يدركون حتى أنهم يخطئون.
حين كنت أصغر، كنت أرى الناس بلونين فقط: أسود وأبيض. الأشرار يفعلون الشر، والطيبين يفعلون الخير. لكن الحقيقة كانت أقسى من أن تُبتلع. عندما كبرت، أدركت — بخوف يشبه الرعب — أن الطيبين ليسوا محصنين من التحيز والكراهية، وأن أكثر الناس لطفًا وسخاءً يمكنهم ارتكاب أبشع الأفعال دون وعي. فهل كانوا طيبين حقًا؟ أم كانوا فقط بارعين في إخفاء قبحهم وراء طبقة رقيقة من الأدب؟
أفكار كهذه يمكنها أن تصيب المرء بالجنون.
ابتسمت خارجيًا.
“نعم، بدت لي قادرة على ذلك.”
هز ديلان كتفيه.
“على أي حال، أنا متأكد أنك رائع. وبصراحة، وجود عازف بيانو عبقري أفضل من عدم وجوده أصلًا، أليس كذلك؟”
رفعت نيلي إبهامها، وقلّدها ديلان بالإشارة نفسها.
“كيف التقيتما أصلًا؟”
قبل أن أجيب، ابتسمت كلير بخبث.
“كانت الصدفة يا شباب! مات يعمل في بار، وذات يوم قررت أن أطلب فنجان قهوة يوقظني، وهذا الرجل هنا قدّم لي أسوأ، وأبشع، وأكثر فنجان قهوة لا يُشرب في حياتي! كان فظيعًا، لدرجة أنه بدا كأسًا من الشر المتخثّر!”
تنهدت.
“وبالطبع، بدأت الحديث معه، لأنني لم أقابل سايكوباثًا من قبل، وكنت مهتمة بنوع العقل المريض الذي يستطيع صنع شيء بهذا السوء. أعني، كيف؟ ماذا يمكن أن يفعل بآلة القهوة ليُنتج مادة مضادة للمادة نفسها؟”
شربت جرعة أخرى من التكيلا.
“واتضح أنه ليس سايكوباث مختلًا — متأكدة بنسبة تسعين بالمئة. تحدثنا قليلًا، وقلت لنفسي: هذا الرجل في الحقيقة لطيف. وبعدها، في اليوم نفسه، كنت أمشي قرب البحيرة، وتخيلوا من رأيت؟ يجلس على مقعد، يبدو بائسًا وجذابًا في الوقت ذاته… صديقي مات، مفسد القهوة! تحدثنا وتناولنا طعامًا، وتبين أنه يعزف البيانو. تمامًا حين كنت أحتاج عازف بيانو! إنها القدر، أقول لكم!”
ابتسمت بانتصار، فخورة بسردها، وبدأت أفهم أن كلير تحب نسج القصص — وإن احتاج الواقع إلى لمسة صغيرة ليصبح ممتعًا، فلماذا تراه بطريقة أخرى؟
“للتوضيح فقط، قهوتي ممتازة. أعني، صحيح أن بعض الزبائن ماتوا بعد رشفة، لكن بالتأكيد كان محض صدفة.”
انفجر تيد ضاحكًا وكاد يختنق ببيرة.
“متأكد أنهم كانوا بعض الزبائن فقط؟ وليس بضع عشرات؟”
هززت كتفيّ.
“أظن ذلك. أقل من عشرة على أي حال.”
ابتسم ديلان بخبث.
“يبدو أنك غير متأكد. بالمناسبة، أنت في السنة الرابعة يا مات؟ ما تخصصك؟”
ها نحن مجددًا. الناس في هذا البلد، خاصة حول الجامعة، يجدون صعوبة في تقبّل أن شخصًا بعمري قد لا يكون طالبًا. ليس لأن الفرص لم تكن موجودة — رغم أن العيش وحيدًا كان صعبًا وقتها — بل لأنني لم أكن مهتمًا. لم أُكمل المدرسة حتى، فالعودة بعد أن أخذت منظمة the PA أمي كانت شيئًا… لا يُحتمل.
الشباب يذهبون إلى المدرسة، ثم الجامعة، ثم يحصلون على وظيفة محترمة. أما أنا، فاضطررت إلى تخطي كل ذلك، والانتقال مباشرة من طفل إلى بالغ.
“لست في الجامعة. ما تخصصك أنت؟”
احمرّ وجه ديلان قليلًا.
“الفنون الجميلة. أعلم، أعلم! تافه وسخيف، أليس كذلك؟”
ضحكت كلير.
“على الأقل لديك تخصص. أنا لا زلت لا أستطيع أن أقرر. وبمعدلي هذا سأضطر للبقاء سنة إضافية، أو ربما أفرّ إلى الأمازون لإنقاذ الغوريلات من الانقراض.”
تخيلت كلير في الغابة الاستوائية، تحارب الصيادين وشركات قطع الأشجار، ووجدت الفكرة… معقولة جدًا.
“وماذا عنكِ يا نيلي؟”
مدّت نيلي يدها إلى جيب كلير وأخرجت كتابًا مهترئًا، ولوّحت به في الهواء.
“أدب؟ الأدب الإنجليزي؟”
ابتسمت وأومأت بإيجاز.
“أعيديه لي!”
حاولت كلير استرجاع الكتاب، مائلة نحوي، وشعرت بملمس صدرها على كتفي.
انتزع تيد الكتاب منها.
“بلاكرازور: الجزء الثالث. أليس هذا من كتاب المراهقين ذاك؟ مع تلك الفتاة الشقراء؟من الفيلم؟ “
“ليس من شأنك! أعده لي!”
عبس ديلان.
“أي شقراء؟ ذات النمش أم القصيرة الشعر؟”
“لا، الأخرى… التي لديها، كما نقول… موهبة كبيرة.”
“آه، تلك! انتظر، كانت في فيلم؟”
استعادت كلير كتابها أخيرًا ودَفعت نيلي بخفة.
“آخر من يحق له الكلام هو أنت، تيد! رأيت الكتب الغريبة التي تقرأها، أتتذكر؟ لست في موقع الحكم!”
ابتسم تيد بكسل وهو نصف ثمل، ثم رفع كتفيه.
“إنها للجامعة.”
أشعل سيجارته أخيرًا، وأخذ نفسًا عميقًا.
“أدرس الماجستير في الأنثروبولوجيا — التاريخ المقارن للحضارات العاقلة.”
ولأن أحدًا لم يفهم ما قال، تنهد تيد.
“دراسات الـGA. أدرس تاريخ الأشباح.”
شعرت بالتوترتُ بعد قوله هذا.
—
>>يقصد تيد بدراست الGA دراسات المعدلين جينياً الي هم الأشباح .
ولي ما فهم ليش ديلان ناده كلير بالشبح فهم يستخدمون كلمه شبح كسبه، مثل انت حمار علشان ترسب بالفنيه؟ هم يگولن انت شبح علشان ترسب بالفنيه.
ثرثرة:ذوق كلير بالملابس مجنون ،وعرفنه انها تضيف هواي بهارات لسوالفها مما يجعلها راويه غير موثوقه
Chapters
Comments
- 6 - لقاء الرفاق منذ 4 ساعات
- 5 - نظام مكسور منذ يوم واحد
- 4 - طويل أسمر ووسيم 2025-11-01
- 3 - كلير 2025-11-01
- 1 - الحامي 2025-10-31
- 1 - حلم شبه منسي 2025-10-31
التعليقات لهذا الفصل " 6"