4
أعيش وفق مجموعة من القواعد البسيطة. أحاول الابتعاد عن المشاكل وتجنّب لفت الأنظار بأي ثمن، لأن لفت الأنظار يعني زيادة اهتمام the PA (المنظمة)بي، وأنا لا أريد أيًا من ذلك.
العامة أيضًا يمثلون مشكلة. فحتى وإن كان الحماة حذرين جدًا في حماية أسرارنا، إلا أن الأشباح أنفسهم ليسوا دومًا بهذه الحيطة. إذا تصرفتَ بغرابة أو استخدمت قدرتك بتهوّر، فسيكتشف الناس أمرك. وعندما يفعلون، تصبح الحياة صعبة في أفضل الأحوال، وخطرة بشكل لا يمكن التنبؤ به في أسوأ الأحوال.
غالبًا ما ينتهي الأمر بالأشباح الذين كُشفوا بنقلهم إلى بلدٍ آخر. وأنا لا أريد أن يُقتلع وجودي من جذوره، أولًا لأنني أحب مدينتي، وثانيًا لأن الانتقال يعني حاميًا جديدًا وتقييمًا كاملًا من جديد، وهما أمران لديّ أسباب للحذر منهما.
لكن حتى لو كنتَ حذرًا ودقيقًا في التعامل مع قدرتك، فالأشخاص القريبون منك قد يربطون الأمور ببعضها في النهاية.
لهذا السبب أتجنّب التواصل الوثيق مع البشر.
لكن هذا لا يعني أنني وحيد. لدي أصدقاء كثر؛ نشرب الجعة، نشاهد مباريات الهوكي، نرتاد الحانات، ونفعل أشياء أخرى يفعلها الشباب. فقط… أحافظ دائمًا على مسافة آمنة. لم يكن لي صديق مقرّب قط، ولا أنوي أن يكون لدي واحد لأن هذا خطير. أغيّر عملي كل ستة أشهر تقريبًا. وبالطبع، العلاقات العاطفية الطويلة الأمد مستحيلة لأن المخاطرة كبيرة جدًا.
قواعدي بسيطة، لكن اتباعها ليس سهلًا دائمًا.
الاحتفاظ بالأسرار أمر مرهق. والاختلاف مؤلم، خصوصًا حين لا يمكن لأحد أن يعرف كيف تشعر. أحيانًا تبدو الهوّة التي تفصلني عن الجميع مظلمة وموحشة على نحو خاص.
وفي تلك الأيام، بطريقة غريبة ومريضة، أجد نفسي أتطلع لاختبارات الحامي؛ لأنه الشخص الوحيد على وجه الأرض الذي يعرفني حقًا.
ومع كلير، راودتني لأول مرة منذ زمن طويل رغبة في كسر القواعد.
—
التقينا في مطعم صغير قرب الحرم الجامعي في اليوم التالي.
وصلتُ أبكر قليلًا، وقضيت نصف ساعة أحتسي الشاي وأتساءل ما الذي أفعله بحق الجحيم هنا.
كان الأمر غبيًا، مهما حاولت تبريره.
أعجبتُ بكلير، وهذه هي المشكلة.
الإعجاب الجسدي يمكن التعامل معه؛ فهو لا يشكّل خطرًا. لكن الانجذاب الحقيقي… هذا أمر خطير وغبي. لم يكن هناك مستقبلٌ أستطيع فيه تحقيق هذه الرغبات دون أن أدفع ثمنًا باهظًا.
لكنها كانت مختلفة تمامًا عني.
كانت غير مكترثة بالمستقبل، بينما أنا أعيش مهووسًا به في كل دقيقة من يومي.
كلير كانت سعيدة، حيّة في لحظتها، وسعادتها كانت معدية. جعلت العالم يبدو أكثر إشراقًا. ويبدو أن عالمي كان في حاجة ماسّة إلى بعض الألوان.
قالت وهي تجلس أمامي باندفاعة:
“مرحبًا مات! أتيت فعلًا!”
كانت ترتدي قميصًا يحمل شعارًا جديدًا، وتحمل حقيبة رمادية على كتفها مليئة بكتب الجامعة. غير ذلك، كانت كما هي أمس: مظهر بانك روك وجاذبية مغناطيسية.
اكتفيتُ بهز كتفيّ.
“يوجد طعام هنا.”
ضحكت:
“لم أكن متأكدة إن كنت ستأتي، بسبب أسلوبك ذاك… كما تعلم، بسبب طولك، وبشرتك الداكنة، ووسامتك.”
لم أكن حقًا طويلًا، ولا وسيمًا، ولا حتى أسمرًا.
“أي أسلوب؟”
“هيا يا مات. أنت تُشِعّ هالة مكثّفة من نوع ‘لقد رأيتُ أشياء يا رجل’. إنها تكاد تكون ملموسة. أراهن أن فتيات الجامعة يرمين أنفسهنّ عند أول نظرة منك.”
لقد اختنقت بالشاي.
“أأنت بخير؟”
“نعم… مظهر جميل، أليس كذلك؟ هذا جزء من عمل النادل. يساعد في الحصول على بقشيش.”
قهقهت:
“أراهن أنه يفعل!”
وغَمَزَت لي.
طلبنا الطعام. طلبتُ كوب شاي آخر، وكلير اختارت ميلكشيك بالفراولة.
“كيف الجامعة؟”
“رائعة! أتعلم المهارات العملية المهمه هناك حتى أكون راشدة ومسؤولة في المجتمع”
“حقًا؟”
“بالطبع لا! إنها جامعة، بحق السماء. سأكون عاطلة وفقيرة حالما أتخرج.”
كانت تبتسم طوال حديثها، وتنظر إليّ ببهجة مشاكسة.
“لماذا تذهبين إذًا؟”
صمتت للحظة ثم قالت:
“ليس الجميع موهوبين بعدم الاكتراث مثلك، يا مات. إن لم تذهب للجامعة، فلن تنال مستقبلًا مشرقًا وناجحًا. على الأقل هذا ما يقوله أبي. ويجب أن يعرف، كونه شخصًا مملًا وغير متعلم يتمنى لو كان شيئًا آخر.”
“ومن قال إنني لا أكترث؟”
“لا أعرف، ربما لأنك تبدو غير مهتم بشيء؟”
وصل شرابها، فارتشفت منه، مما منحني بضع ثوانٍ لأفكر.
“أنا أكترث بالأشياء التي أحبها فقط.”
نظرت إليّ مطولًا، ثم قالت:
“إجابة رائعة فعلًا. أنا أيضًا كذلك.”
ثم جَدّت ملامحها قليلًا وقالت:
“بصراحة، أذهب للجامعة لأن… حسنًا، عندما كنت صغيرة، كان كل بالغ في حياتي بائسًا مكتئبًا. حقًا. لذلك لم أرغب في أن أكبر لأكون مثلهم.”
ثم تابعت وهي ترفع كتفيها:
“عادة لا أخبر الناس بهذا، لكن لا أدري لماذا أستطيع قولها لك يا مات. لا بد أنه سحر النادل المتخصص بجمع البقشيش. على أي حال، عندما حان وقت النضوج، حاولت تخيل ما أريد أن أكونه. الشيء الوحيد الذي كنت أعرفه يقينًا هو أنني لا أريد أن أكون مثلهم. لذلك هذا ما أركز عليه الآن: أن أتعلم كيف لا أكون بائسة. هذا هو الهدف.”
اقتربت مني قليلًا وهي تهمس بنبرة حماسية:
“وتعرِف ما الطريقة الوحيدة لعدم البؤس؟ البعض يقول المال، أو الحب، أو الطموح، لكنها كلها هراء. الطريقة الأفضل لتكون بخير هي أن تحيط نفسك بأشخاص جيدين. وأفضل الأشخاص، أولئك المثيرون للاهتمام حقًا، يميلون لأن يكونوا متعلمين. لذا لهذا السبب أنا في الجامعة.”
كنت أصغي إليها، ألتقط كل كلمة. كان في داخلها شغف حقيقي، حرارة صدقها أدهشتني.
“إذن، ما الذي تفعلينه مع خاسر غير متعلم مثلي؟”
ابتسمت بابتسامتها المتألقة من جديد وقالت:
“أنت من الناس الجيدين يا مات. عرفت ذلك منذ أن رأيتك أول مرة.”
“أنتِ لا تعرفينني. قد أكون أحمقًا تمامًا.”
“لا، لست كذلك. أنت من النوع الذي يجلس على مقعد ويلعب بمكعب روبيك لمجرد المتعة. لا أعرف أي شخص آخر يفعل شيئًا رائعًا كهذا. أنت مذهل!”
يا للمفارقة. ترددت بين أن أخبرها بأنها مخطئة أو أن أحتفظ بصورتي الرائعة في نظرها. أنا أكذب على الناس طوال الوقت، لكني لم أرغب في الكذب عليها.
“لم يكن ذلك لمجرد المتعة.”
رفعت كتفيها بلا مبالاة وقالت:
“ربما لا. لكن ما قلته في الحانة كان ما لفت انتباهي. تتذكر؟ عن ذلك الشبح في التلفاز. معظم الناس يكرهونهم، كأنهم قوة شر خالصة. لكنهم ليسوا كذلك، أليس كذلك؟ لم يختاروا أن يكونوا هكذا. وهناك من يعشقهم بجنون، أولئك الأغبياء أسوأ. وبالطبع هناك من يستغلهم سياسيًا على نشرات الأخبار. لكن لا أحد يفعل ما فعلته أنت، لا أحد يفكر بهم كبشر فحسب
لم أتوقع أن تهزّ كلماتها مشاعري هكذا… لكنها فعلت. كان احساسًا جميلًا، لكنه أيضًا في غاية السوء بالنسبة لي. كان من الأفضل لو ظنت أنني أكره الأشباح، فمجرد خطوة واحدة تفصل بين اعتبار شخصٍ متعاطفًا مع الأشباح والتفكير فيه كشبح محتمل.
كان عليّ أن أقول شيئًا فظًا وعنصريًا لأغلق الموضوع… لكني التزمت الصمت.
“على أي حال، ماذا عنك يا مات؟ ما طموحك في الحياة؟ هل ستظل نادلًا بعد عشرين سنة؟”
لم أكن واثقًا أنني سأعيش لعشرين سنة أصلًا. لكن لا يمكنني قول ذلك، بالطبع. بدلًا من ذلك، فكرت في شيء لم أفكر به من قبل: ماذا أريد أن أفعل في السنوات القليلة التي تبقّت لي؟ كان الشعور بالصدق مع شخص آخر جديدًا عليّ، وممتعًا على نحو غريب.
“بصراحة؟ لا أعرف ماذا أريد. أنا أجرب أشياء. بدأت العمل كنادل منذ بضعة أشهر فقط. قبلها عملت في مكتبة. وقبلها في مغسلة صناعية. تخيّلي أي وظيفة مملة ومنخفضة الأجر، أغلب الظن أنني جربتها.”
بحثت في ذاكرتي عن شيء واحد استمتعت به حقًا. لم أجد الكثير. كنت منشغلًا طوال الوقت بالكذب على the PA، وبالابتعاد عن الناس كي أعيش، حتى نسيت كيف أعيش فعلًا.
“قبل بضع سنوات، كنت أنظف الأرضيات في دار للمسنين. لبضعة أشهر فقط. توقعت أن يكون المكان كئيبًا، لكنه لم يكن كذلك. كان أبناؤهم وأحفادهم يزورونهم، وكان الأطباء والممرضون لطفاء جدًا. لكن كانت هناك فتاة تأتي في عطلات نهاية الأسبوع وتعزف على البيانو للمسنين.”
ابتسمت وأنا أسترجع الذكرى.
“أحببت ذلك. ربما في يوم من الأيام سأفعل شيئًا كهذا.”
وضعت كلير كوب الميلكشيك جانبًا وقالت بدهشة:
“أتعزف البيانو؟”
“كنت أعزف. مضى وقت طويل.”
وفجأة أشرقت ملامحها كأنها شجرة عيد ميلاد. كان التحوّل مفاجئًا لدرجة أنني كدت أختنق بالشاي مرة أخرى.
“يا رجل! هذا رائع! أنا عضوة في فرقة موسيقية!”
كانت تبتسم بحماس مجنون الآن.
“إنه القدر يا مات! كنت أخبر ديلان قبل يومين فقط إنني مستعدة لقتل أحدهم مقابل عازف بيانو جيد!”
بدأ الناس ينظرون إلينا، لكنها لم تهتم.
“اسمع، هناك حفلة صغيرة غدًا. أصدقائي حصلوا على عرض في نادٍ. سنكون جميعًا هناك. عليك أن تأتي، وتتعرف على البقية!”
كان الأمر يسير بسرعة أكبر مما أحتمل.
“انتظري، لم أعزف منذ سنوات يا كلير.”
“هراء! أرى فيك الموهبة! عليك أن تأتي! ستأتي، أليس كذلك؟”
كان يجب أن أقول “لا” وأُنهي هذا الجنون. لكن فكرة إنهاء الأمر كانت مؤلمة. لذا قلت بدلًا من ذلك:
“حسنًا. فقط أخبريني بالمكان والوقت.”
—
مظهر بانك روك (Punk Rock Look) هو أسلوب مرتبط بحركة موسيقى البانك، ويتميّز بالمظهر الجريء والمتمرّد على القواعد الاجتماعية التقليدية. مثل الأوان الشعر الغريبه مثل الأخضر او الأزرق وغيرها . جاكيتات جلدية سوداء مزخرفة بالمسامير والسلاسل. او تيشيرتات عليها شعارات فرق موسيقية .جينز ممزق أو مطبوع برسومات ومكياج داكن وغريب.
___
- كلير جائت بتشيرت يحمل صورة شعار فرقه موسيقية بس
Chapters
Comments
- 4 - طويل أسمر ووسيم منذ 16 ساعة
- 3 - كلير منذ يوم واحد
- 1 - الحامي منذ يومين
- 1 - حلم شبه منسي منذ يومين
التعليقات لهذا الفصل " 4"