انتهى بنا المطاف في مقصف الجامعة نتناول عشاءً متأخرًا.
كان ديلان يحتضن كوب شايٍّ محلى بالعسل، يتحدث بإنهاك واضح:
“كان أداؤك رائع نيلي.”
ثم أضاف مبتسمًا:
“حقًا… رائع. وأنتم أيضًا، يا رفاق. أحسنتم.”
رمت كلير إصبع بطاطا باتجاهه وهي تقول:
“اخرس واشرب شايك، يا إلفيس.”
( الفيس هو مغنٍّ وممثل أمريكي كان معروف بصوته المميز، رقصاته، وكاريزمته القوية)
كان تيد يقلب بين أصابعه سيجارة غير مشتعلة، كعادته. ضحك وربّت على كتف ديلان قائلًا:
“شكرًا يا رجل. استمتعت حقًا. أما فرقتي السابقة؟ فخلال التدريبات كانوا يقضون وقتهم في استعراض أنفسهم أمام الفتيات. كنت أشك أن وجود الفرقة من الأساس كان لجذب الفتيات فقط.”
ثم ابتسم وأضاف:
“ليس أن محاولة جذب الفتيات خطاً”
“لكن ما اسم فرقتنا أصلًا؟”
هزّت كلير كتفيها بلا مبالاة:
“المختلّون المسلّحون؟”
قطّب ديلان حاجبيه:
“ظننت أننا اتفقنا على تغييره.”
قالت:
“صحيح… لذا فهي بلا اسم حاليًا.”
ابتسم تيد:
“حسنًا، أنتم تعرفون قواعد اختيار أسماء الفرق… أليس كذلك؟”
هززنا رؤوسنا نفيًا، فمال نحونا وقال:
“القاعدة الأولى: لا نستخدم مرجعًا غامضًا، مثل صورة دوريّان أو ما شابه. من لا يفهم المرجع سيظننا متصنّعين، ومن يفهمه سيظننا… أيضًا متصنّعين.”
(صورة دوريان غراي:لوحة عن رجل يبقى شاب وجميل، بينما صورته تكبر وتتشوّه كلما ارتكب أخطاء.
الفكرة: الجمال الخارجي يخفي الفساد الداخلي.)
ضحكت كلير:
“سمعتِ يا نيللي؟ هذا رفض رسمي لاسم خمرة إسمار.”
عقدت نيللي ذراعيها ونظرت إليها بحزم.
“القاعدة الثانية: لا نستخدم كلمات عشوائية بصيغة الجمع. مثل الأزرار، المفكات، أو أي هراء يشبه هذا. موضة السبعينات… انتهت.”
أومأ ديلان موافقًا.
“القاعدة الثالثة: لا اسم يتبعه رقم. مثل: ديلان والأربعة، أو خماسية كلير، أو أي شيء مشابه. لأن أحدًا سينضم أو يغادر يومًا ما، وسيغدو الاسم سخيفاً .”
تابع:
“وأخيرًا… لا نستخدم تعبيرات اصطلاحية، وخصوصًا المبتورة، مثل: لا شر يُرى أو لا للحرب . لأن لا أحد يحب—”
أتممت عنه:
“المتعجرفين المتصنّعين؟”
ضحك وقال:
“بالضبط! مات هنا أقلّنا ادعاءً، لذا أنصحكم بالاستماع إليه.”
أشارت نيللي بسرعة، فترجمت كلير:
“نيللي تقول إنكم تفوّتون الفكرة. الفكرة أننا، بعد عشرين سنة، حين نصبح مشهورين، سيأتي كاتب شاب يجعل بحث قصة صعودنا هوس حياته. وبعد مغامرات غريبة ودافئة نتقرب فيها منه… سيسأل: لماذا اخترتم اسم “…”? ولابد أن تكون خلف الاسم قصة عظيمة.”
قلت بدهشة:
“نيللي قالت كل هذا؟”
“أنا أُعيد صياغة كلامها فقط! المهم… أفضل الأسماء ما كان مرتبطًا بكيفية لقائنا. ولا يمكن أن يكون شيئًا سخيفًا مثل رقم القاعة.”
هزّ ديلان كتفيه:
“لسنا مميزين لهذه الدرجة. أنتِ ونيللي رفيقتا سكن، ونحن ندرس معًا. ليست قصة تستحق الذكر.”
ردت كلير بحماس:
“لكننا لم نجتمع رسميًا—نحن الخمسة—إلا أمس! هيا، فكروا… شيء مميز حدث أمس.”
نظر تيد إليّ:
“مات حاول الشجار مع ذاك الرجل. لكني لا أظن أن “اقتل متشرّدًا” اسم مناسب لفرقة.”
حدّقتُ فيه مصطنعًا التفكير:
“لا أدري… يبدو جيدًا.”
قهقهت كلير:
“تيد، أنت تنسى خطابك السكير عن الأشباح الأفضل. ربما… الأنثروبولوجيا المقارنة؟ أو ذنب الصليبي؟”
اختنق تيد ضاحكًا:
“لم أقل إنهم الأفضل! قلت فقط إنهم مذهلون علميًا. أما من ناحية العرق… فهم الأسوأ. وكأنهم صُمموا ليكونوا أشرارًا. المهم، دعونا نختار اسمًا لا يتصل بألف سنة من الدماء والمجازر، حسنًا؟”
لوّح ديلان:
“ماذا عن القصة التي رويتها عن أول لقاء بينك وبين مات؟ عن القهوة. أتذكرين كيف وصفتِها بـ الشر الصافي والمادة المضادة السائلة؟ يبدو اسمًا رائع بما يكفي.”
أضاء وجه كلير ابتسامة واسعة:
“وجدته! لصّ القهوة! هذا هو الاسم!”
نظرنا إلى بعضنا، ثم هززنا أكتافنا. تمتم ديلان بالاسم عدة مرات ثم قال:
بعد قليل، كانت كلير ترافقني نحو أطراف الحرم الجامعي. الثلج يصرصر تحت أقدامنا، والممرات المضيئة خالية.
قالت بحماس صادق:
“واو يا مات… كان ذلك مذهلًا. أعني، كنت أعلم أنك ستكون جيدًا، لكن ما عزفته… كان جميلًا حقًا. وعيناك مغمضتان طوال الوقت!”
كان سماع ذلك غريبًا. لم أفكر يومًا إن كنت جيدًا. كان العزف مجرد شيء أفعله… قبل ذلك. لم أحاول يومًا قياسه.
توقّفنا تحت القوس الفاصل بين الحرم والعالم الخارجي. كانت أضواء السيارات تلمع في ظلام الثلج خلفنا، بينما كنا نحن ما نزال في الهدوء شبه المقدّس للحرم. وقفت كلير قريباً جداً مني، حتى إني شعرت بدقات قلبها عبر قدرتي.
سألتها:
“كيف عرفتِ؟”
“عرفت ماذا؟”
“أني ساكون جيدًا.”
ابتسمت بخفة وتابعت:
“كنت شبه متأكدة. لأنك… مختلف. الناس متشابهون جدًا: في كلامهم، وقوفهم، وطريقة اختيارهم لكلماتهم. أنماط محفوظة. مثل قول “عذرًا” حين نمرّ. كلنا نفعل ذلك.”
أومأت.
“أنت تفعلها أيضًا… لكنك خارج النمط قليلًا. كأنك تحاول أن تبدو طبيعيًا… رغم أنك لست كذلك.”
ارتفع في صدري شيء بارد… وخطر.
“ماذا تقصدين؟”
رفعت يديها دفاعًا:
“لا تنزعج! هذا شيء جيد. يعني أنك ترى العالم بطريقة مختلفة. كل الأشخاص الاستثنائيين يرون العالم هكذا. لهذا اعتقدت أنك ستكون بارعًا في العزف. لأنك… غريب.”
قلت بجمود:
“لا أحد غيرك يظنني غريباً.”
قالت بهدوء:
“لا أحد ينظر حقًا. لأننا نحفظ حتى ما يجب أن نراه.”
مرت شاحنة إطفاء، غمرتنا أضواؤها الحمراء والزرقاء، ومنحتني صفارتها لحظات قصيرة لأعيد التفكير.
ماذا أفعل هنا؟
وما الذي تفعله كلير هنا… معي؟
مع أي فتاة أخرى، لأدركت فورًا إن كان الاهتمام متبادلًا. لكن كلير تحب الاقتراب من الجميع. هل أنا مجرد اسم جديد ضمن قائمتها الطويلة من “الناس الجيدين”؟
أم أن اهتمامها… مختلف؟
هل تنجذب إليّ كما أنجذب إليها؟
وإن كان كذلك… فلماذا يهم؟
كلماتها كانت مديحًا، لكن وقعها في صدري كان كحكم إعدام.
مختلف. غريب. غير طبيعي.
خطوة واحدة فقط تفصل بين “منظور فريد”… و”غير بشري”.
بين مات الساقي… ومات الشبح.
المخلوق المصمم ليكون شرًا.
مهما اقتربت، بيننا جدار لا يُرى.
على جانبها: حياة مليئة بالإمكانات، مستقبل صيفي طويل لا ينتهي.
وعلى جانبي: لا مستقبل.
مجرد أرض قاحلة من الثلج والجليد… حجٌّ نحو الموت يبدأ منذ الولادة.
باختصار:
هي بشرية.
وأنا… لست كذلك.
لذا، حين ابتعدت شاحنة الإطفاء، لم أحاول تقبيلها.
إنما خطوتُ إلى الوراء، واستدرت للمغادرة.
“أراكِ في المرة القادمة يا كلير. كان يومًا رائعًا.”
وبينما ابتعدت، ظلّ صدى صفارة الإطفاء يطنّ في أذني.
التعليقات لهذا الفصل " 14"