من المثير للسخرية أنني لم أدخل حرم الجامعة يومًا، رغم أنني أعيش وأعمل بالقرب منه منذ سنوات. كان ذا طابع جذّاب، يجمع بين القدم والفخامة؛ مبانٍ عتيقة تفسح المجال لأخرى حديثة لامعة. كانت الدروس قد انتهت، لكن المكان ما زال يعجّ بالحياة. لم أستطع مقاومة إلقاء نظرات جانبية على الطلاب وأعضاء الهيئة التدريسية الذين يمرّون . كانوا جميعًا… غير مُثقلين. شعرتُ كأنني انتقلتُ إلى كوكب غريب، إلى عالم لا يُسمح لي بزيارته.
هذا الشعور بالاغتراب ازداد قوة حين دخلت أحد المباني. في الأيام العادية كنت أشعر براحة تجاه نفسي ومظهري. لكن الآن أصبحت واعيًا بشكل مؤلم لمدى رخص ثيابي، ولِما يبدو عليه مظهري البسيط مقارنة بهؤلاء الشباب الذين يملكون وشومًا معقدة وثقوبًا، وقصات شعر رائعه، ويحملون هالة من بساطةٍ باهظة الثمن.
اضطررتُ أن أهمس لنفسي: “طويل، أسمر ووسيم” ثلاث مرات أثناء توجّهي إلى القاعة حيث كانت كلير والبقية ينتظرونني.
“مرحبًا مات!”
كانت كلير جالسة على كرسي بلاستيكي أبيض، ساقاها ممتدّتان فوق مكبّر صوت ضخم، وفي يدها عبوة صودا. كانت نيلي تقف بجانبها، تضبط أوتار غيتار كهربائي جميل. أما ديلان وتيد فكانا يتحدثان في الزاوية، ولوّحا لي عندما دخلت.
اتضح أن القاعة عبارة عن مدرّج دائري مليء بآلات موسيقية مختلفة. وكان أكبر بكثير مما توقعت، كما بدا عازلًا للصوت.
“ما هذا المكان؟”
“مركز الموسيقى في الجامعة. حصلنا على وقت بفضل سيّد الفنون الجميلة هنا” — قالت كلير وهي تُشير بعلبة الصودا نحو ديلان.
“ليس مرآبًا، أليس كذلك؟”
لم يكن كذلك فعلًا. تحت ضوء المصابيح الفلورية بدا المكان راقيًا… وكذلك هم. كانوا يبدون وكأنهم ينتمون إلى هنا، أما أنا فلا. الأمر الذي أثار تساؤلًا مؤلمًا: ما الذي أفعله في صحبتهم؟ لماذا دعوني إلى مجموعتهم المتماسكة؟ هل كان ذلك تعاطفًا حقيقيًا… أم نوعًا من الفضول المريض؟ طلاب الجامعة عادة لا يختلطون بأناس فقراء من الطبقة العاملة مثلي.
فضلًا عن كونهم بشرًا… وأنا لست كذلك.
اقترب ديلان وتيد .
“يو، مات. لِم تبدو مكتئبًا؟”
أخذت نفسًا عميقًا وهززت رأسي لطرد ستار الوعي الضاغط الذي كان يكسو أفكاري. ربما كنت أشعر بالغُرابة أكثر من المعتاد بسبب زيارتي لويليام وحديثي مع ميكي بعدها. إلى الجحيم مع ذلك. لن أسمح لهذه التفاهات بإفساد هذه اللحظة.
ابتسمت.
“أظنني ما زلت مخمورًا من الأمس. أنتم صغار جدًا لتفهموا.”
ضحكوا جميعًا، وشعرت فجأة بتحسن. الجزء من عقلي المنشغل بـ”زيرو” وميكي والوكالة اختفى، والجزء المتعلق بكلير والفرقة “لكن بالأخص كلير” عاد للعمل.
“إذن، ما الخطة؟”
تمدّدت كلير بكسل، شربت رشفة من الصودا، ثم قفزت إلى قدميها وعادت إلى وضعها المفرط بالحيوية.
“حسنًا يا رفاق. البروفة بدأت رسميًا! ارتدوا قبعات العباقرة الموسيقيين!”(تقصد إنهم يتجهزون حتى يطلعون مهاراتهم الرائعة)
أشارت نحو بيانو، وابتسمت لي.
“حان الوقت لتُرينا ما لديك يا مات. أعني… بلا ضغط، لكننا جميعًا نتوق لمعرفة إن كنت صفقة حقيقية.”
اقتربت من البيانو وجلست أمامه، ثم نظرت إليها بحيرة.
“أم… ماذا يفترض بي أن أفعل بالضبط؟”
“لا أدري. اعزف شيئًا. أبهرنا!”
كانت تبتسم، لكنني رأيت القلق الخفيف في عينيها. فبعد كل شيء، أمضت الأيام الماضية تبيع “موهبتي المزعومة” لأصدقائها، ولو اتضح أنني لا أملك أي موهبة، فلن يكون لي مكان في الفرقة. ولسببٍ ما كانت تريدني أن أبقى.
وهذا جعلني أشعر بتحسن.
تحسست المفاتيح بحذر. يا رجل، مرت سنوات كثيرة منذ آخر مرة عزفت فيها. هل ستتذكر أصابعي كيف تعمل؟ حاولت أن أسترجع من الذاكرة شيئًا لأعزفه.
أول ما خطر ببالي كان إحدى المقطوعات المفضّلة لدى أمي. كانت قطعة جميلة وهادئة، معقدة قليلًا في العزف لكن لحنها بسيط، لقد عزفتها مئات المرات في طفولتي.
تنفست بعمق وبدأت العزف بحذر. في البداية بدت أصابعي بطيئة ومتثاقلة، لكن مع الاستمرار بدأ “الذاكرة العضلية” تتحرك. لم يكن الأمر مثاليًا، لكنه كان كافيًا لأجد نفسي داخل اللحن. تدفقت الموسيقى من تحت أصابعي، وكان شعورًا رائعًا. لكنني شعرت أيضًا بحاجز خفي يتصدّع في داخلي، وفجأة غمرتني مشاعر حزنٍ عميق موجع.
أغمضت عينيّ، وتذكرت أمي وهي تعزف لي في غرفة الجلوس في شقتنا الصغيرة. كانت أشعة الشمس ترسم حولها هالة ضوئية، وكان الهواء معبّقًا بنسيم الصيف. كل شيء كان حادًا، ملونًا، نابضًا بالحياة كما لا يدركه إلا الأطفال. وكانت هناك روائح أيضًا: العشب المقطوع حديثًا، والمعجنات الطازجة، والغبار الراقص في الضوء.
من الطريف أنه حين كنت طفلًا، ظننت دائمًا أن هذه القطعة جسيدٌ للسعادة، لكن الآن، وأنا أعزفها، بدت أكثر حزنًا منها للسعادة.
لم أرد لها أن تكون حزينة. ولم أرد لذكرياتي معها أن تتحول إلى حزن. من الخطأ أن نُلقي بكل الفرح والحظات الجميلة لمجرد أن النهاية كانت مأساوية. لذلك عدّلت التوزيع قليلًا، لجعله أكثر تفاؤلًا. ثم أضفت بعض التنافرات المقاسة، لأن الحياة ليست دائمًا نعيمًا. أحيانًا تكون قاسية وظالمة ومحطّمة للذات… لكنه أمر طبيعي، لأن هذا ما يجب أن تكون عليه. ففي النهاية، كل ما كان يستحق… كان مؤلمًا.
توقفت فجأة لأني شعرت أن بضع ثوانٍ أخرى ستجعل الدموع تنهمر. أطلقت زفرة، وفتحت عينيّ، ونظرت إلى البقية بابتسامة متسائلة.
“حسنًا… كيف كان هذا؟”
ظلّوا صامتين لعدة ثوانٍ، ينظرون إليّ بتعبيرات غريبة، ثم انفجروا بالتصفيق والهتاف.
“هذا كان رائعًا يا رجل!”
“يا إلهي، مذهل!”
“قلت لكم أيها الأوغاد!”
رفعت نيلي إبهامها نحوي، ثم بدأت تُصفّق بصمت.
“من علّمك العزف هكذا؟!”
قبل أن أجيب، التفتت كلير إلى ديلان بابتسامة انتصار.
“أمه التي علّمته.”
رفع ديلان حاجبيه.
“هل كانت والدتك… عازفة بيانو محترفة أو شيء كهذا؟”
ابتسمت.
“لا. كانت نادلة.”
كانت تلك أول مرة أبتسم فيها وأنا أفكر بها منذ وقت طويل… طويل جدًا.
—
تدرّبنا لساعتين بعدها. وبما أن تيد وأنا عضوان جديدان، اضطررنا للحاق بهم، لكنه لم يكن صعبًا. الأغنية التي كنا نتدرّب عليها كانت مفعمة بالجنون والبهجة… لكنها كانت تحمل طبقة مظلمة أيضًا. وحين سألت كلير عمّا تدور حوله الأغنية، قالت:
“إنها تتحدث عن شعورك بالخوف الشديد من شيء ما لفترة طويلة، وحين يحدث أخيرًا، يكون أسوأ بكثير مما تخيلت، وتكون مُحطّمًا تمامًا، لدرجة أنه لم يعد مضحكًا أصلًا، لكنك تصبح غريبًا… بلا خوف، لأن أسوأ ما يمكن أن يحدث قد حدث بالفعل. وتدرك أن أي شيء تلقيه الحياة عليك بعد ذلك لا يمكن أن يكون أسوأ. لذا بالطبع، إنها تتحدث عن التحرر من اليأس. نسميها: سيدة اليأس.”
كانوا جميعًا جيدين جدًا، رغم بعض الخشونة. تيد كان مذهلًا على الطبول، لكنه أحيانًا يسبق الإيقاع. شعرت أن هذا سيختفي حين ينسجم أكثر مع الآخرين. كلير كانت تميل للمبالغة، لكن ذلك لم يضرّ اللحن كثيرًا، ومع ذلك كان لديها ما تعمل عليه. كما توقعت، كان لدى ديلان صوت مميز وجذاب، قوي ومرن بما يكفي ليُصبح شيئًا فريدًا مع الخبرة.
ثم كانت هناك نيلي. كانت بلا عيب. غيتارها يغني بشكل لم أسمع مثله من قبل، والمذهل أنها كانت تجعل الأمر يبدو بلا أي جهد. كان لها حضور لا يُنسى: هادئة، مسترخية، واثقة، قادرة على البقاء متماسكة تمامًا في خضم أعنف المقاطع. كانت ببساطة في مستوى آخر مقارنة بالبقية… على الأقل الآن.
لم أعزف أبدًا ضمن مجموعة من قبل، لذا كان هذا الشعور — شعور البهجة المشتركة — جديدًا عليّ تمامًا. كان غريبًا، أن تتنازل قليلًا عن السيطرة على الموسيقى، أن تترك لآخرين جزءًا منها، ومع ذلك تظل جزءًا منها وتشعر بها. أحببت هذا الشعور.
لقد استمتعنا كثيرًا.
—
>>الذاكرة العضلية:تعني قدرة عضلات الجسم على تكرار حركة أو أداء معين تلقائيًا بعد التدريب المتكرر، دون الحاجة لتفكير واعٍ مستمر.
مثال:
عند تعلم العزف على البيانو أو الغيتار، بعد فترة من التدريب، تصير أصابعك تتحرك بمفردها على النغمات الصحيحة.
التعليقات لهذا الفصل " 13"
😭😓 يزعل