أجعل ندف الثلج ترقص في الهواء كأنها تتمايل مع تيارٍ غير مرئي من الريح، وأجعل ضوضاء السيارات القادمة أعلى قليلًا، وأمدّ حواسي لتغمر المباني المحيطة بي، لأشعر بضغطها.
كنت أفعل ذلك كلّما شعرت بالتهديد — وسيلةً لتأكيد قدرتي على التأثير في العالم.
بالنسبة لشخصٍ مثلي، كان العالم أكثر ليونةً مما هو عليه لدى الآخرين، وكان في ذلك نوعٌ من الطمأنينة.
لكن التأثير لا يعني القوة.
كان الأمر أشبه بقانون نيوتن الثالث: لكل فعلٍ ردّ فعلٍ مساوٍ له في المقدار ومعاكس له في الاتجاه.
كلما ازدادت قدرتك على التأثير في العالم، ازداد ردّ العالم عنفًا عليك.
وكلما عظمت قدرتي، ازدادت المخاطر التي تحيط بي.
كان الأدرينالين يجري في عروقي، لأن ما كنت على وشك فعله كان غبيًا… وخطيرًا.
كنت ذاهبًا إلى منطقة الأشباح.
لم يكن يُفترض بالأشباح أن يتجمعوا بأعداد كبيرة.
ليس لأن منظمة “the PA” منعت ذلك، بل لأن الأمر بديهيّ، بعد كل ما بذلوه لإخفاء هوياتنا عن البشر، كان تجمعنا في مجموعاتٍ كبيرة بمثابة رسم هدفٍ على ظهورنا.
كان تجنّب بعضنا بعضًا تصرفًا ذكيًا، وهكذا كنا نفعل — في الغالب.
لكنها من تلك القواعد الغريبة التي يعرفها الجميع ولا يلتزم بها أحد.
في النهاية، الحاجة إلى التواصل مع من يشبهك كانت تدفع الأشباح إلى البحث عن بعضهم.
نتيجةً لذلك، وُجدت جماعة صغيرة وسرّية من البشر المعدَّلين جينيًا، يختبئون في وضح النهار بين بشرٍ غافلين.
ولم يكن كل شبحٍ في المدينة عضوًا في تلك الجماعة.
أنا مثلًا، لم أرغب أن تكون لي أي علاقة بها.
المخاطرة بنفسي لأجل القليل من الصحبة لم تكن مغرية.
وفوق ذلك، لم يكونوا يشبهونني حقًا.
إخفاء مدى قدرتي عن المنظمة كان صعبًا بما فيه الكفاية؛ فكيف سيكون الحال مع أمثالي من الأشباح؟
لكنني كنت بحاجة إلى أن أجد الرجل ذا العينين الزرقاوين.
كنت بحاجة إلى معلومات.
ولا يوجد مكانان أفضل من هذين يمكن أن تجد فيهما معلومات عن شبح:
أرشيف المنظمة، ونادي الأشباح.
كنت أعرف مكانه منذ أيامي الأولى بعد خروجي للحياة وحدي، حين كنت غبيًا بما يكفي لأصدق أن هناك من يمكن أن يساعدني.
لكنني غيّرت رأيي بعد زيارتين فقط، ولم أعد إليه منذ ذلك الحين.
—
كان المكان الذي يجتمع فيه الأشباح مختبئًا في مبنى مكاتب قديم على أطراف المدينة.
لم يكن غير مرئي، بل مملًّا جدًا لدرجة أن لا أحد يلتفت إليه.
بابٌ قديم بطلاءٍ متقشر يُفتح على موقف سيارات، تعلوه لافتة صغيرة بالكاد تُقرأ كُتب عليها:
“جمعية هواة جمع الطوابع المحلية”.
خلف الباب درجٌ ضيّق يقود إلى أعماق المبنى، وإلى بابٍ آخر أقلّ لفتًا للانتباه.
أما النادي نفسه، فكان يبدو وكأنه موجود خارج مجرى الزمن.
طاولاتٌ وكراسٍ مغبّرة أقدم من عمري، ورفوفٌ عليها طوابع قديمة ملصقة على أوراق صفراء.
وعلى الجانب البعيد نافذة صغيرة تؤدي إلى المطبخ.
مقابل مبلغٍ بسيط يمكنك الحصول على كوب شاي أو قهوة أو بيرة رخيصة، وربما لقمة تسدّ جوعك إن كنت يائسًا بما يكفي.
كان صاحب النادي، رجلًا مسنًّا وقورًا يُدعى ويليام، يقف خلف مكتب الاستقبال يقرأ صحيفة.
في الداخل نحو نصف دزينة من الأشخاص: بعضهم يحتسون الجعة ويتحدثون بصوتٍ خافت، وآخرون يراقبون مباراة من لعبةٍ تُسمّى رحلة الموت ينتظرون دورهم لمواجهة الفائز.
كانت رحلة الموت لعبة قديمة من ألعاب الأشباح، توارثوها منذ العصور الوسطى.
تُلعب على لوحٍ دائري، مرسوم عليه دوائر متحدة المركز وخطوط شعاعية متناظرة، أشبه بشبكة عنكبوت.
الخطوط الأفقية فيها لاصقة، بينما تسمح الخطوط العمودية للقطع بالتحرك بحرية.
أما القطع نفسها فكانت تُصنع من الزجاج أو — تقليديًا — من الكريستال الصخري.
على عكس الشطرنج، لم تكن للقطع أدوار محددة، لكن لونها كان يؤثر في سلوكها: الأفتح كانت الأضعف، والسوداء الأقوى.
الهدف بسيط:
أن تنتهي اللعبة وأنت تملك القطعة التي جمعت أكثر عدد من القتلات، أو صمدت حتى النهاية.
لكن اللعبة لم تكن مجرد اختبار للذكاء أو الاستراتيجية؛
كان يُسمح للاعبين بتغيير لون القطع باستخدام قدراتهم، ما يجعلها أيضًا منافسةً في التحمل الذهني.
إلا أن اللعبة — مثل الشطرنج — كانت تحكي قصة.
فهي تمثّل طقسًا حقيقيًا من طقوس «رحلة الموت» التي كان الأشباح القدماء يتّبعونها:
حين يشعر أحدهم بقرب إصابته بالمرض، كان عليه أن يهجر عائلته وأرض الأشباح، ويسير إلى أعماق الصحراء، حتى يقتله الحرّ أو المرض.
أما الأقوياء، فكانوا ينجحون في عبور الصحراء والجبال والوصول إلى أراضي البشر القدماء.
لهذا السبب، كان البشر لقرون لا يرون من الأشباح إلا كائنات مرعبة مغطاة بالرمال والدم، فجميع الأشباح الذين واجهوهم قد تضاعفت قدراتهم بفعل المرض، ودُفعوا إلى الجنون القاتل بسببه.
ليس غريبًا إذن أن يكرهوننا إلى هذا الحد.
كان اللاعبان في تلك اللحظة شابًا يافعًا وامرأة في الأربعينيات.
توقفا عن اللعب ونظرا إليّ، وكذلك فعل الجميع في القاعة.
“مرحبًا.”
لوّحت بيدي بتوتر.
وضع ويليام صحيفته جانبًا وقال:
“هل أستطيع مساعدتك؟”
لم يتعرف إليّ.
وهذا طبيعي، كنت في السادسة عشرة أو السابعة عشرة عندما رآني آخر مرة، وأقلّ توازنًا بكثير مما أنا عليه الآن.
لم يكن هناك “رمز سرّي” لإعلان أنك شبح، لكن أيّ تجلٍّ بسيط للقدرة كان كافيًا.
أخرجت بعض الفكة من جيبي وألقيتها على الطاولة بابتسامة مهذّبة.
“نعم، هل يمكنني الحصول على كوب شاي؟”
حين نطقت، كانت العملات المعدنية تسقط.
دارت اثنتان منها قليلًا، ثم توقفتا واقفتين على حافتيهما.
نظر ويليام إلى الأسفل، ثم رفع رأسه بابتسامة ودودة.
“بالتأكيد يا بُني. أنا ويليام، أهلًا بك.”
استرخى الجميع في النادي فورًا.
واستُؤنفت لعبة رحلة الموت.
صبّ ويليام الشاي في كأس ووضعه أمامي.
“سكر؟”
هززت رأسي.
“لم أرَك هنا من قبل يا بُني، ما اسمك؟”
نفخت على الشاي قليلًا.
“اسمي ماثيو. التقينا قبل بضع سنوات.”
“ماثيو… آه، أنت ابن ليندا! انظر إليك، لقد كبرت! كيف حالك؟”
كانت في صوته حرارة صادقة حين ذكر اسم أمي، ولم أستطع إلا أن أُكنّ له مزيدًا من الودّ.
“بخير، أظن ذلك. وأنت؟”
قطّب وجهه قائلًا:
“الشيخوخه يا بني… أليس هذا شيئًا غريبًا؟”
بالفعل.
معظمنا لم يكن عليه أن يقلق بشأن الشيخوخة أصلًا.
تبادلنا الحديث قليلًا، بينما كنت أتابع المباراة بطرف عيني.
كان الشاب الأشقر يخسر.
يبدو في عمري تقريبًا، لكنه أقرب إلى صبيّ في الخامسة عشرة: شعره أشعث، عيناه واسعتان، وجسمه نحيل.
علامات الغضب تملأ وجهه بينما يخسر قطعة تلو أخرى.
تمكّن من تحويل إحداها إلى اللون الأرجواني، لكن خصمته لم تتأثر.
المرأة كانت هادئة وودودة، تبتسم بثقة وهي تحرك قطعها — معظمها برتقالي أو أحمر.
قال ويليام:
“إذن يا ماثيو، هل هناك سببٌ محدد لزيارتك مجددًا؟ أم سئمت من مخالطة البشر؟”
ترددت لحظة، أحدق في أوراق الشاي في قاع الكأس.
“أبحث عن شخص.”
ابتسم ويليام:
“آه؟ دعني أخمّن… فتاة شابة؟”
“لا.”
ارتفعت حاجباه، لكنه لم يعلّق.
“رجل. طويل القامة، نحيف. ربما مشرّد. عيناه زرقاوان، وتحت شفته ندبة صغيرة.”
“وما اسمه؟”
“لا أعرف.”
عضّ ويليام شفته بتفكير.
“وهل هو… من المحتمل أن يأتي إلى هنا؟”
أومأت.
“نعم.”
ظلّ صامتًا للحظة.
“لا، لا أعرف أحدًا بهذه الصفات. وإن لم أعرفه أنا، فلن يعرفه أحد هنا. آسف يا بُني.”
خلفنا كانت المباراة تقترب من نهايتها.
كل قطع الشاب الأشقر كانت محاصرة.
حرّكت المرأة قطعها في وضع هجومي، غير مبالية بالدفاع.
ثم فجأة، ابتسم الفتى.
ضاقت عيناه قليلًا، وفجأة تحولت جميع قطعه الخمس المتبقية إلى اللون الأسود في آنٍ واحد.
نظر إلى خصمته بنظرة فخرٍ متعجرفة.
يا للغباء.
تغيير لون عدة قطع في الوقت نفسه أمرٌ بالغ الصعوبة لمعظم الأشباح، خصوصًا إلى الأسود.
ما فعله يتطلب أن تكون درجته C5 على الأقل، وربما أعلى.
وهذه ليست قوة يُفترض أن تستعرضها.
كان يتباهى، فخورًا بقدرته القوية.
لكن القدرة القوية ليست مدعاة للفخر — بل للخوف.
عدت لأنظر إلى ويليام، مشمئزًّا قليلًا.
“شكرًا لك. كان احتمالًا بعيدًا أصلًا.”
اللعنة… ماذا عليّ أن أفعل الآن؟
ذكّرني عقلي بالمكان الآخر الذي يمكن أن أجد فيه المعلومات — أرشيف المنظمة — لكنني لست مجنونًا بما يكفي لأحاول الوصول إليه.
ومع ذلك، لم يكن هناك طريق عودة الآن.
لقد أخفيت لقاءنا عن “الحامية”، ولم يبقَ أمامي إلا خيارٌ واحد:
أن أعثر على الرجل ذي العينين الزرقاوين، وأعرف ما الذي كان يعرفه عن أمي.
لكن السؤال هو: كيف؟
أنهيت شايّي، وودّعت ويليام، وتوجهت نحو الباب.
كانت اللعبة قد انتهت: قطعة سوداء واحدة بقيت على الطاولة، تتحول ببطء إلى النقاء.
استخدمها الفتى لقتل بقية قطعه، ثم بدأ بمطاردة قطع خصمته في جنون.
استراتيجية متهوّرة، لكنها فعّالة.
كِدت أصل إلى الباب حين شعرت بيدٍ تلمس كتفي.
التفتُّ، فرأيت الشاب الأشقر واقفًا خلفي، وعلى وجهه تعبير متوتر بعض الشيء.
قال:
“مرحبًا… أنا ميكي.”
—
>>الأشباح لا يحتاجون إلى القلق بشأن الشيخوخة، لأنهم عادةً يُصابون بالمرض ويموتون قبل أن يشيخوا.
التعليقات لهذا الفصل " 10"