المقدمة
في ظلمة الليل، ترددت خطوات منتظمة عبر الأرجاء كان غاريث جالساً على مقعد في الحديقة يحدق في البركة حين استدار ونظر نحو الرواق.
كان باركاس، مرتدياً زي فرسان البلاط الإمبراطوري الرسمي بإحكام و يسير عبر الرواق الطويل المتصل بالحديقة
بدا وكأنه أفعى تسبح ببطء في مياه عميقة ومظلمة.
لطالما تساءل غاريث أحياناً عن السبب.
شعر أشقر باهت أشبه بلون الكتان القديم، وعينان زرقاوان تتلألآن بوميض فضي، وبشرة شاحبة كالجبس…
رجل يتكوّن من ألوان باهتة أشبه برق قديم، ومع ذلك يبعث في النفس رهبة مظلمة لا تفسير لها.
كلما واجهه، شعر بقشعريرة تسري في ظهره بلا سبب واضح.
“سمو ولي العهد.”
رفع الرجل يده إلى صدره مؤدياً التحية فأومأ غاريث بيده بعصبية دافعاً إياه إلى التخلي عن الشكليات.
“دعك من هذه الرسميات الفارغة.”
فحتى وإن كان الرجل من أفراد الحرس الإمبراطوري إلا أنه كان قريباً من أن يخلف دوق شيوركان ويحكم المقاطعات الشرقية،
لم يكن شخصاً يمكن معاملته بتهاون
ومع ذلك، عامله غاريث كما لو كان أحد أتباعه الحقيرين مشيراً إليه بذقنه بازدراء.
“إلى متى ستدعني أحدق إليك من فوق؟ اجلس.”
رغم وقاحته، لم يبدُ على وجه الرجل أي تغيير. لم يظهر عليه الغضب ولا الخضوع، بل جلس بلا مبالاة على المقعد الرخامي، وكأن شيئاً لم يحدث.
ظل ولي العهد يتأمل ملامحه الدقيقة الخالية من المشاعر وعلى الرغم من أن مظهره لم يختلف كثيراً عن المعتاد، إلا أنه لم يكن من الصعب استشعار انزعاجه.
ربما لم تسر الأمور كما كان متوقعاً. ضيّق غاريث عينيه وسأله بنبرة استجواب:
“كيف جرت التحقيقات؟ لا تقل إنك فشلت في الكشف عن الجهة التي تقف وراء الأمر.”
“توصلنا إلى كل ما يمكن التوصل إليه.”
أجاب الرجل بنبرة رتيبة وهو ينزل طرف معطفه المغلق بإحكام بيده.
“لكن ربما لن تكون النتائج مرضية لسموك.”
رفع غاريث حاجبه باهتمام.
“فسر كلامك.”
“العقار الذي دُس في كأس سمو الأميرة لم يأتِ من قصر الإمبراطورة.”
“إذاً من أين جاء؟”
“كانت خادمة من القصر قد حصلت عليه بوصفة من طبيب البلاط ،لم يكن يُعتبر سماً حقيقياً، بل مجرد دواء قد يسبب القيء والمغص عند تناوله بجرعات كبيرة لذلك لم يكن يخضع لرقابة صارمة.”
“أتعني أن خادمة من القصر فقدت عقلها فجأة ووضعت الدواء في كأس أختي؟”
قهقه ولي العهد بسخرية، لكن عروقه كانت متوترة بشكل واضح، في إشارة إلى غضبه الشديد.
أما باركاس، الذي كان يراقب غاريث الذي احمر وجهه غضباً، فقد بدا وجهه خالياً من أي تعبير.
“الخادمة لم تضع الدواء بنفسها.”
“إذاً من الفاعل؟!”
صرخ غاريث فاقداً صبره.
“لا تماطل وأخبرني مباشرة! إن لم تكن الإمبراطورة وراءها، ولا الخادمة قد أخطأت، فمن الذي تجرأ ولعب بكأس أختي؟!”
“إنها الأميرة الثانية.”
تجمد غاريث عند سماعه الرد الصادم.
“تلك الحقيرة؟”
تقلصت ملامح ولي العهد بوحشية كان يشتعل غضباً عندما يُذكر اسم الإمبراطورة، لكنه عندما يُشار إلى ابنتها غير الشرعية، كان يبدو وكأنه يتحدث عن شيء دنس للغاية. من بين أسنانه المتصلبة، صدرت أصوات طحن مخيفة.
“تلك المجنونة قد تفعلها بالفعل. تلك الحقيرة تغار بجنون من أختي ولا تفرق بين العقل والجنون….”
على الرغم من الشتائم السوقية التي أطلقها غاريث، ظل باركاس صامتاً دون أدنى ردة فعل.
ظل غاريث، الذي لم يستطع أن يتخلى عن شكوكه، يلحّ على دور الإمبراطورة.
“مع ذلك… ألا تعتقد أن سينيفيير -تلك العاهرة- قد حرضتها؟ من المحتمل جداً أنها هي من دفعتها….”
“لو كانت الإمبراطورة متورطة، لما استخدمت دواءً تافهاً كهذا، بل كانت ستلجأ إلى سمّ حقيقي.”
أجاب باركاس ببرود، وعيناه الشاحبتان تتلألأ في الظلام.
“الإمبراطورة لا تترك أثراً خلفها عند تصفية الأمور.”
عجز غاريث عن الرد، فصمت. وعلى الرغم من استيائه من مقاطعة حديثه، إلا أن نبرة الازدراء في صوت باركاس أرضته نوعاً ما.
لقد شعر بالارتياح حين أدرك مجدداً أن هذا الرجل، الذي لا يبالي بشيء عادة، يتحفز فقط عندما يتعلق الأمر بتاليا لويم غيرتا، وصمة العار في العائلة الإمبراطورية.
“بالفعل… سينيفيير لن تخاطر بمكانتها بهذه الحماقة.”
قال غاريث، وقد بدا مزاجه يتحسن قليلاً.
“تاليا، تلك الحقيرة، أوقعت نفسها في الفخ هذه المرة. كنت أعلم أنها ستسبب المشاكل يوماً ما.”
ارتسمت على شفتيه ابتسامة مشاكسة تشبه تلك التي كان يوزعها أيام دراسته في الأكاديمية.
“لا بد أنها فقدت صوابها حين شعرت أن أختي ستسرق منك. كم كانت تلك اللقيطة تتفاخر عندما كانت تتعامل مع وريث دوقية شيوركان وكأنه لعبتها الخاصة؟! والآن ترى أن حارسها الشخصي سيصبح شريك أميرة حقيقية! لم تتحمل الأمر وانفجرت.”
لم يرد الرجل بشيء. كان باركاس لا يتحدث إلا للضرورة. لذا لم يكن صمته غريباً.
ومع ذلك، كان صمت هذا الرجل في بعض الأحيان يثير أعصاب غاريث بشدة. كما حدث الآن. فراح يحدق فيه مطالباً بإجابة.
“على أية حال، لن تتمكن من الإفلات هذه المرة. قد نتمكن حتى من محاكمتها بتهمة محاولة التسميم….”
“لن تسير الأمور كما تتمنون.”
قاطع باركاس ولي العهد مرة أخرى، مما جعل ملامح غاريث تتجهم بغضب. إلا أن نظرة الرجل بقيت هادئة لا تضطرب.
“أولاً، لا يوجد دليل قاطع، فقط مؤشرات ظرفية. لو أصرت تلك المرأة على الإنكار، سيكون من الصعب إثبات تورطها.”
“لكن يمكننا استخدام شهادة الخادمة….!”
“أتعتقد أنك قادر على إسقاط ابنة سينيفيير بشهادة خادمة واحدة فقط؟”
بينما كان غاريث يحاول أن يجد ما يرد به، تابع باركاس ببرود:
“ثانياً، حتى لو ثبت أن الأميرة الثانية فعلتها، فلن تُعاقب بشدة على مجرد دس دواء يسبب مغصاً. وإن ادعت أنه كان مجرد مزاح ثقيل، فلن تتجاوز عقوبتها الإقامة الجبرية لفترة قصيرة.”
“مزاح ثقيل؟!”
صرخ غاريث غاضباً، واندفع واقفاً ليقبض على عنق باركاس.
“هل تعلم ماذا جرى لخطيبتي أمام الحضور؟! فتاة لم تُحرج أبداً، انهارت وهي تتقيأ في وسط الحفل! هل تعرف كم عانت آيلا؟! كيف تجرؤ وتصف ذلك بالمزاح الثقيل…!”
اشتعل وجه غاريث بلون أحمر قانٍ وهو يسترجع الذكرى، وانطلقت كلماته مغمغمة بغضب.
“نعم، ربما غفلت عن الأمر حينها بسبب الفوضى، لكنني رأيت تلك الحقيرة تاليا تضحك من بعيد بينما كانت آيلا تتهاوى! لو مزقتها إرباً إرباً، لما شفي غضبي!”
“سموك.”
اهتز غاريث قليلاً وأرخى قبضته. لم يصرخ باركاس، لكن صوته البارد جعله يتصبب عرقاً من الخوف. فتراجع خطوة إلى الوراء يراقب باركاس بحذر.
راح الرجل يسوي ملابسه المبعثرة بهدوء.
“تلك المرأة ليست شخصاً يستحق أن تشغل به بالك.”
قالها بصوت رتيب، كأنه يذكر بحقيقة لا جدال فيها مثل تعاقب الليل والنهار.
“كل ما تفعله هو التسبب بالمشاكل بألعابها الحقيرة. سموك، أنت من سيحكم الإمبراطورية مستقبلاً. لا ينبغي أن تستنزف طاقتك على توافه كهذه.”
كأنما كان يهدئ طفلاً غاضباً.
لو كان الأمر في وقت آخر، لانفجر غاريث غضباً من جرأة الرجل على توبيخه. لكنه، مدركاً أنه تجاوز حدوده أولاً، لذا اختار الصمت.
نهض الرجل ببطء من مكانه وعلى الرغم من أنه ارتكب وقاحةً بمغادرة المجلس دون أن يستأذن ولي العهد، إلا أن حركته بدت طبيعيةً كجريان الماء.
قال بصوت هادئ:
“لقد أرسلتُ دواءً لسمو الأميرة يهدئ من اضطرابها. كذلك، سأقوم مستقبلاً بمراقبة كل الخمر والطعام الذي يقدم على مائدتها بدقة صارمة.”
رد ولي العهد، بنبرة غاضبة:
“إذن، تريد أن أتجاهل الأمر وكأن شيئًا لم يكن؟”
أجاب الرجل بلا مبالاة:
“سموّك إن أصررت على كشف حقيقة هذه الحادثة ومعاقبة الأميرة الثانية، فلن أمنعك. لكنني شخصيًا أود أن أنأى بنفسي عن هذا الأمر.”
احمرّ وجه غاريس غضبًا من رده الفاتر. بدا أن باركاس يريد طي صفحة الحادثة باعتبارها مجرد مزحة سخيفة صدرت عن فتاة حمقاء مأسورة بالغيرة.
وكان من الواضح، كما قال، أن إثارة ضجة حول حادث تافه كهذا لن يضر إلا بهيبة ولي العهد ووريث دوقية الشرق.
ومع ذلك، شعر غاريس برفض شديد لبرودة باركاس. ولم يكن ذلك فقط بسبب لا مبالاته تجاه شقيقته، بل لأن هناك شيئًا آخر أثار شكوكه. نظر إليه غاريس بعينين تومضان بالريبة وقال:
“لا تقل لي…. تحاول حمايتها، أليس كذلك؟”
توقف الرجل الذي كان قد استدار بالفعل ليعود أدراجه، وألقى بنظرة باردة من فوق كتفه.
وفي تلك اللحظة، هبت ريح من جهة البحيرة، فبعثرت خصلات شعره الأشقر الرمادي برفق. ومع ذلك لم تفقد ملامحه شيئًا من حدتها؛ بل ابتسم ابتسامة حادة كحد السيف، ارتسمت على وجه جامد كالقناع، وكأنها أول تعبير عاطفي يظهر عليه.
قال ساخرًا، وكأنما سمع حكاية مضحكة:
“أنا… أحمي تلك المرأة؟”
ضحك باركاس ضحكة خافتة، ولكن الغضب الحاد ومض في عينيه الزرقاوين.
للحظة، عجز غاريس عن الكلام. كان يعلم أن هذا الرجل يمقت تاليا، لكنه لم يدرك أن كراهيته بلغت هذا الحد.
باركاس كان ممن انتزع الكهنة منهم مشاعر الفرح والغضب والحزن منذ زمن بعيد. ولم يسبق لغاريس أن رأى، خلال أكثر من عشر سنوات، أي انفعال على وجهه.
فما الذي ارتكبته تاليا حتى يُخرج هذا الرجل الصلد أنيابه بهذا الشكل؟
راح غاريس يحدق فيه بنظرة يغمرها الفضول.
كان قد سمع أن باركاس، حين كان فارس الحرس الخاص بتاليا لويم غيرتا، تعرض لشتى صنوف الإهانة منها، لكنه لم يتصور أن تؤثر تلك الإهانات في رجل بمثل سموه وكبريائه.
كان يظن أن تاليا لم تكن بالنسبة إليه أكثر من مصدر إزعاج وضيق ليس إلا.
لكن يبدو أن الأمر لم يكن كذلك.
أطلق باركاس كلمات باردة، عيناه الزرقاوان الخاليتان من أي دفء تلمعان بوحشة:
“أنا فقط… لا أريد أن أتورط مع تلك المرأة مرة أخرى.”
ثم استدار، دون أن يضيف شيئًا، وسار عائدًا في الطريق الذي جاء منه.
غاريس، الذي راح يتابع ابتعاد باركاس بهدوء كالأفعى تنساب فوق سطح البحيرة، رسمت شفتيه ابتسامة مريبة.
(تحدث مع نفسه قائلاً:)
“تاليا… لا أعرف ماذا فعلتِ، لكن يبدو أنني استفدت.”
فالرجل الذي كان ينبغي أن يكون حليفها القوي، بات يكن لها حقدًا دفينًا، وهذا لن يؤدي إلا إلى توثيق التحالف بينه وبين غاريس أكثر فأكثر.
بوجه يغمره الرضا، نهض غاريس من مقعده.
التعليقات لهذا الفصل " 0"
ترجمة ممتازة شكرا على مجهوداتك
حبيت المقدمة تخليك تتشوق تعرف الاحداث الجاية
حماااااس