كان باركاس يحدّق في الحجر الكريم الأحمر المتقد كأنّه يشتعل لبرهة قبل أن يقترب من التاجر ويدفع ثمنه.
أما تالْيا فقد نظرت إلى بروش الياقوت الموضوع في يدها بنظرة خيبة أمل تغمرها مشاعر مريرة.
فـ سألها باركاس بنبرة غير مبالية
“هل هناك شيئ آخر؟”
رغم أنّ كلماته كانت على الأرجح عفوية إلا أنها شعرت كأنّه يحاول اختبار نواياها ،أو معرفته بشيئ تخفيه، ثم حبست نظراتها التي أوشكت أن تعود إلى حجر وأجابت:
“لا حاجة كلّها أشياء عادية”
كان صوتها فاترًا مما جعل وجه التاجر يرتجف بعبوس خفيف، تجاهلت ذلك واستدارت نحو باب المتجر لكن باركاس لحق بها على الفور يلف ذراعه حول خصرها محاولًا دعمها كـ عادته عندما تتعثر.
خرجت من المتجر متقبّلة لمساته التي أصبحت مألوفة على غير رغبة منها، وهناك في الخارج كان البعض من حاشية باركاس غير دارِن درو شيركان ينتظرونه.
اقترب أحدهم وقدّم تقريرًا بصوت جاد:
“لقد أتممنا جولة السوق، إمدادات المواد مستقرة والتجارة في السلع الأساسية نشطة ،ولكن وردت شكاوى عدّة عن تدهور الأمن”
التفت باركاس إليه بينما كانوا يمرّون بممر بدا خاليًا إلى حد ما وسأله
“هل هناك مشكلة في الحرس المدني؟”
أجاب الرجل:
“ليست المشكلة في الحرس بحد ذاته بل يبدو أن عصابات من اللصوص تنشط مؤخرًا وتهاجم القوافل التجارية تباعًا”
قطّب باركاس حاجبيه بقلق فـ أضاف الرجل بنبرة حذرة
“طلب سيد قلعة دوركاين لقاءً لمناقشة هذه المسألة كيف تود التصرف ؟”
فرك باركاس ذقنه بتأمل ثم أومأ موافقًا
“حسنًا فلنلتقِ بـ سيد القلعه أولًا”
في تلك اللحظة كانت تاليا تنظر بخفية إلى الخلف،
الحجر الكريم الذي تركته خلفها بدا كأنه يلوح في مخيلتها ،يلمع في زاوية منسية من الذاكرة
أخبرت نفسها أن ذلك الحجر لا قيمة له وحاولت أن تواسي نفسها بذلك ولكن شعور الندم ظل عالقًا في صدرها لا يفارقها
حين وصلت إلى العربة الواقفة على جانب الطريق كان التوتر قد بدأ يتسلل إلى داخلها ربما لن تجد حجرًا بذلك اللون أبدًا مرة أخرى وجلست داخل العربة تتفحص بروش الياقوت بتذمر ثم نظرت من النافذة.
رأت باركاس يتحدث مع حاشيته يبدو أنهم كانوا يتلقون التعليمات بشأن قرار سبق أن اتّخذه وما إن تأكدت من انشغاله حتى بدأت تبحث بين الأمتعة المخزنة
وبعد أن بعثرت أشيائه دون ترتيب عثرت أخيرًا على كيس جلدي مملوء بالذهب دسّته في طيّات ثيابها على الفور وخرجت بهدوء من العربة
كان الجنود منشغلين بحمل هدايا زفاف أرسلها النبلاء المحليون، ولم يلاحظ أحد مغادرتها عبرت الطريق الرئيسي بسرعة وعادت إلى داخل سوق التجارة
كان التجّار يشرعون في ترتيب بضائعهم وإغلاق محلّاتهم، ولكنها شدّت قبعتها أكثر على رأسها وتوغلت في الزحام رغم أن الألم بدأ ينتشر من ساقيها إلى الورك بسبب التحرك المتسرع
تجاهلت الألم واندفعت إلى داخل محل المجوهرات وهناك وسط واجهة العرض كان الحجر الذي يشبه عيني باركاس يقبع بهدوء فوق وسادة حمراء يشع بضوء خافت
أمسكته حدّقت فيه ثم التفتت إلى التاجر وقالت
“أريد شراء هذا الحجر”
نظر التاجر إليها بدهشة ثم ابتسم ابتسامة عريضة وقال
“تملكين عينًا خبيرة سموكِ هذا حجر قمر نادر بلون ونقوش فريدة سعره الأصلي 35 سولديم ولكن لأجل سموّك سأبيعه لكِ بثلاثين فقط”
كانت تاليا تستمع إليه بنصف تركيز وبدأت تفتح كيس النقود
لكن فجأة جاءها صوت ساخر من الخلف
“هذا نصب صريح حجر قمر بثلاثين قطعة ذهبية ؟”
استدارت لـ تجد لوكاس ريداغو شيركان الذي كان يحدق إلى الحجر في يدها بازدراء
“لا يساوي حتى خمس قطع”
صرخ التاجر مستاءً
“ماذا تقول! هذا الحجر نادر جدًا! مَن يملك مثله؟”
رد لوكاس بسخرية
“ومع ذلك لا يستحق هذا السعر الباهظ”
“حتى بثلاثين هو سعر معقول في المزاد قد يُباع بأكثر!”
قاطعه صوت النقود وهي تُسكب فوق الطاولة
سكبت تاليا العملات الذهبية الملكية فوق الطاولة دون أن تعدّها ويبدو أنها تجاوزت الثلاثين بسهولة
وضعت الحجر في جيبها وقالت بتكبّر
“لا أريد العدّ خذ ما يلزم”
وخرجت من المحل بخطى واثقة لتجد بعض الفرسان في انتظارها على مقربة وقد بدوا كأنهم كانوا يبحثون عنها
مرّت بجانبهم رافعةً رأسها، لكن لوكاس أمسك بها بعد قليل
قال غاضبًا
“هيي لا يمكنكِ الخروج هكذا!”
رفعت حاجبيها وقالت بنبرة حادة
“هيي؟”
أخفض لوكاس نظره فورًا بعد أن نجحت أسابيعها الأخيرة من التأديب في ترك أثرها عليه وقال بصوت أكثر احترامًا
“لا يصح أن تخرجي وحدكِ يا زوجة أخي”
ردّت عليه تاليا ببرود
“كنت سأعود قريبًا”
“على الأقل كان يجب أن تخبرينا لا يمكنك التسلل هكذا”
دفعت يده عن كتفها بقوة وقالت:
“أنا لست سجينة في قصر شيركان ولا ملزمة بإخبارك بتحركاتي”
“لم أقصد ذلك… ماذا لو حدث لكِ مكروه؟”
تجاهلت تاليا تعليقاته وأسرعت عائدة نحو الميدان حيث بدا أن الجنود انتهوا من استعدادات الرحيل.
ذهبت نحو العربة وباركاس كان يتحدث مع أحد النبلاء القريبين، حين لمحها رمقها بنظرة باردة وبلعت ريقهاهل كان غاضبًا لأنها اختفت دون إذن ؟
لكنّه تنهد وقال
“اصعدي العربه أنا سأركب على ظهر الحصان”
ثم توجه نحو الجنود دون أن يقول المزيد وتنفست تاليا الصعداء وصعدت إلى العربة
*****************
عندما بدأت العربة تتحرك خارج المدينة أخرجت تاليا الحجر الكريم من عباءتها وتأملت فيه.
تلألأ الحجر الأزرق الفضي بضوء باهت تحت الظلال، ونظرت إليه كأنها تمسك بجوهرة للمرة الأولى في حياتها ثم أعادته إلى صدرها ونظرت من النافذة.
كانت الغيوم الرمادية قد غطت السماء التي كانت مشرقة قبل ساعات وبدأ هواء بارد مشبع برائحة المطر يهبّ.
وكما توقعت حين اقتربت العربة من أسوار المدينة
بدأ المطر بالهطول بهدوء.
ألصقت خدها بزجاج النافذة البارد وأمعنت النظر إلى الأمام ،ظهرت على التل قلعة ضخمة وبدائيه الطراز يبدو أنها قلعة دوركاين
********
عند وصولهم إلى بوابة القلعة خرج رجل يرتدي جلد دبّ على كتفيه لاستقبالهم، كان في منتصف العمر ذو لحية سوداء كثيفة ،انحنى باحترام نحو باركاس
“أهلاً بقدومكم ،سمو الدوق أنا أوزان داركن سيد هذه المنطقة”
قفز باركاس من فوق حصانه ورد بهدوء:
“باركاس ريداغو شيركان”
نظر إليه اوزان بتأمل ثم ابتسم بلطف
“لا شك أنكم تعبتم من الطريق أعددنا ،مأدبة فخمة على شرف قدومكم”
أومأ له باركاس مجاملة وأعطى زمام حصانه لخادم،
ثم اتجه نحو تاليا كانت واقفة تحت المطر فانحنى قليلًا ومدّ طرف عباءته فوق رأسها ليحجب عنها المطر
السيد الذي كان يراقب المشهد باهتمام قال:
“لا شك أن هذه السيدة الفاتنة هي دوقة القصر، سررت بلقائكِ سيدتي يمكنكِ مناداتي بأوزان فقط”
أومأت تاليا برأسها دون قول كلمة وبدت على اوزان بعض ملامح الحرج لكنه سرعان ما استعاد ابتسامته وقال:
“يشرفني أن أستضيفكم سأبذل قصارى جهدي لضمان راحتكم”
قالت تاليا بحدة
“دعك من المجاملات خذني إلى غرفتي بسرعة هل تنوي تركي تحت المطر طويلًا؟”
أُربك الرجل وسارع إلى الدرج وهو يقول
“اه المعذرة من هنا من فضلكم”
************
عندما دخلوا البناء الحجري الكبير استقبلتهم رائحة الخشب المحترق والشموع.
سارت تاليا بجوار باركاس تتأمل المكان الذي بدا كأنه يعود لعصر الممالك القديمة.
كان القصر من الداخل مظلمًا ورطبًا ،تفوح منه رائحة عبق العصور الغابرة .
التعليقات لهذا الفصل " 95"