كان أحد الخدم يحدّق بها باحترام تذكّرت أن اسمه “دارين درو شيركان” قريب بعيد لباركاس
تحدّث الرجل بحذر:
“إن راق لكِ أي منتج سأقوم بشرائه لكِ”
“لا حاجة لست… بحاجة إلى شـ—”
كانت تاليا تهمّ بالرفض كعادتها لكنها صمتت فجأة ،كانت قد بدأت تسأم من الجلوس كتمثال لا دور له ونظرت إلى باركاس المحاط بالمسؤولين وأعضاء المجلس ثم غطّت رأسها بالقبعة المقنّعة ووقفت
“حسنًا لنذهب”
خرجت من القاعة الخلفية لتُفاجأ بساحة مزدحمة بمئات التجار ،
وقفت تاليا عند الحاجز تنظر إلى الأسفل كانت الأكشاك مكتظة بأكوام من الأقمشة الفاخرة والفِراء الملون ومن خلفها عربات وصناديق محملة بالبضائع تصطف في طوابير طويلة.
“من هنا من فضلكِ”
قادها الرجل إلى الدرج أمسكَت هي بالحاجز ونزلت الخطوات ببطء وعندما وطأت الأرض انكشفت لها زحمة السوق ونشاطه الحيوي
سارت عبر الممرات بين التجار تشاهدهم يتنافسون في المزايدة رجال يرتدون ملابس فاخرة لا تقل عن ملابس النبلاء يتجادلون بصوت عالٍ ،بينما يستخدم الوسطاء الموازين والعدادات لحساب العمولات والضرائب ويشحن النقّالون الأقمشة إلى العربات ،شعرت وكأنها سقطت فجأة في قلب حفلة جنونية.
وأثناء تجوالها وقعت عيناها على محل هادئ نسبيًا يبيع التوابل، اقتربت أكثر من متجر متواضع عرض قطعًا مصنوعة يدويًا بجودة ضعيفة وبينما كانت تحدّق في المعروضات بملل تحدّث الرجل الذي يتبعها كظل
“محل المجوهرات في الجناح الجانبي هل أرشدكِ إليه؟”
“لا حاجة لا أرتدي سوى حُليّ صنعتها الأقزام”
“آه… فهمت”
حكّ الرجل مؤخرة رأسه محرجًا وتاليا تجاهلته، دخلت زقاقًا تكثر فيه المحال الصغيرة وهناك لفت انتباهها نسيج جداري معلق
اقتربت منه وحدّقت في قطعة قماش منسوجة بدقة بخيوط ذهبية حمراء وبنية قاتمة تُصوّر امرأة شابة ذات بشرة بيضاء ووحشًا أسود بثلاثة رؤوس ،عبست تاليا أمام هذه الصورة المريبة وإذا بصوت أنثوي يتحدث بجانبها
“هل راقت لكِ تلك القطعة؟”
التفتت بحذر فرأت امرأة شرقية تقف خلف الكشك تنظر إليها بابتسامة ،وضعت المرأة دفتر الحسابات جانبًا وقالت باحترام
“سعرها ثلاثون سولديم لكن إن رغبتِ بها أبيعها لكِ بستة وعشرين”
“من قد يشتري شيئًا غريبًا كهذا؟”
أجابت تاليا بحدة ،لكن ملامح الفضول ارتسمت على وجه المرأة التي اقتربت تنظر إليها بتمعن
“تبدين من خارج هذه المنطقة أليس كذلك؟”
حدّقت فيها تاليا بريبة:
“وكيف عرفتِ ذلك؟”
“هذه النسيجة تُصوّر أشهر أسطورة في الشرق وبما أنك لا تعرفينها خمّنت أنكِ غريبة عن هنا”
“أسطورة؟”
نظرت تاليا مجددًا إلى النسيج وعلى ما يبدو سُعدت البائعة بظهور الاهتمام في عينيها فبدأت بالسرد:
“منذ زمن بعيد عاش وحشٌ هائل كاد يبتلع حتى نجوم السماء، وحش جشع أراد التهام كل كائن حي على الأرض”
توقفت لحظة لترى إن كانت تاليا تتابع ثم تابعت بصوت رنان فيه مسحة أسطورية:
“في يومٍ ما استيقظت روح الأرض لإيقاف هذا الوحش وغنّت تلك الروح لليالي وأيام متواصلة حتى روّضت الوحش ومن اتحادهما وُلد محارب عظيم ويؤمن الشرقيون أنهم أحفاده”
تذكرت تاليا أن خادمات قصر رايدغو كنّ قد حكَيْن لها شيئًا مشابهًا.
أخرجت المرأة من بين الأقمشة منديلاً صغيرًا وعرضته أمامها.
“لا يزال الكثيرون هنا يؤمنون أن حمل رمز الوحش الأسود يجلب الحظ ويطرد النحس لذا لمَ لا تشترين هذا كتذكارًا؟”
كان المنديل الأحمر مزينًا بصورة الوحش ذي الرؤوس الثلاثة بدا مألوفًا لتاليا ،ضيّقت عينيها ثم تذكرت أنها رأت هذا الشعار في كتب التاريخ خلال دراستها عن ممالك العصور القديمة، لقد كان رمز عائلة شيركان قبل أن تنضم إلى الإمبراطورية
امتدت يدها للمنديل دون وعي مدفوعة بشيئ غامض لم يكن من ذوقها أبدًا لكنها لم تشأ أن ترفض حماس البائعة أيضًا.
فأشارت للخادم خلفها:
“ما الذي تنتظره؟ ادفع”
لكن فجأة، ظهرت يد نحيلة عند كتفها ووضعت بعض العملات الذهبية على الطاولة
“هل هذا يكفي؟”
قال الصوت البارد التفتت تاليا مذعورة لترى باركاس، تلفه عباءته الزرقاء الداكنة ،ينظر إليها بلا تعبير اقترب منها وهمس عند صدغها بصوت منخفض
“هل ترغبين في المزيد؟”
نظرت إليه بتوتر ثم هزّت رأسها ببطء
نظر باركاس إلى البائعة
“هل السعر مناسب؟”
“نـ-نعم بالتأكيد إنه أكثر من كافٍ!”
أخذت المرأة القطع الذهبية بسرعة بينما استدار باركاس مغادرًا.
خرج بها من الزحام إلى ممر جانبي أكثر هدوءًا وسرعان ما وصلوا إلى جناح جانبي يحوي محلات فاخرة
قال وهو يشير نحو الداخل
“محل المجوهرات هناك حتى تجّار القارة الجنوبية يعرضون سلعهم فيه قد تجدين شيئًا يعجبكِ”
كانت تاليا تحدّق في وجهه بصمت عندما تدخل الرجل الذي كان يتبعهم وقال بلا لباقة:
“جلالتك سموّ الأميرة لا ترتدي إلا مجوهرات الأقزام هل تعتقد أن سلع الوثنيين ستروق لها؟”
حدّقت تاليا فيه من بين طيّات ردائها بغضب، لا يمكنها أن تضيع فرصة كهذه بسبب أحمق كهذا!
فقالت بسرعة:
“في الحقيقة… فكرت أنه لا بأس باقتناء قطعة فريدة بعض الشيئ”
نظر إليها باركاس من فوق كتفه ثم تابع طريقه دون تعليق ،
مروا بعشرات الأكشاك حتى وصلوا إلى مدخل متجر للمجوهرات تحرسه وجوه غليظة.
أخذها باركاس إلى الداخل.
“مرحبًا بكم”
رحّب البائع دون أن يرفع رأسه لم يتأثر باركاس ببروده وسار بها إلى المعروضات
“اختاري ما يعجبكِ”
بدأت تاليا تتفقد المجوهرات الموضوعة على المخمل الأحمر، بعضها كان ملفتًا حتى لعينيها التي اعتادت على التحف النادرة وبينما كانت ترفع إحدى القطع تلقائيًا صرخ البائع فجأة
“يا آنسة! لا تلمسـ—!”
لكنّه تجمّد في مكانه عندما عرف هوية باركاس وصرخ وهو ينهض.
“آه! المعذرة سمو الدوق! لم أعرفك! أرجو أن تتفضّل وتختار ما تشاء!”
قال باركاس ببرود
“كل ما لمسته سموّها سنشتريه”
“لا داعي لا داعي! سموّ الأميرة مرحّب بها كما تشاء!”
أما تاليا فلم تلقِ له بالًا ،
أخذت تفتّش في المجوهرات الأخرى وفجأة توقفت أمام جوهره زرقاء تلمع بهدوء، حملتها ورفعتها نحو الضوء فتألّقت بلون فضي ساحر، كان حجر قمرٍ رائعًا يُذكّرها بعيني باركاس
“أعجبكِ هذا؟”
سألها باركاس وهو يراقبها مبهوره بالجوهره وتوتّرت، تاليا وأنزلت الحجر بسرعة
التعليقات لهذا الفصل " 94"