“إنه يقوم بجولة في المقاطعة مع صاحب المكان بما أنه تولّى منصبه للتو فلا بد أن هناك الكثير مما ينبغي عليه فحصه”
أجابت المربية بلهجة عابرة وهي تضع الطعام على الطاولة.
“هيا لا تتهربي اجلسي وتناولي إفطاركِ عليكِ الاستعداد للانطلاق قريبًا”
زفرت تاليا بصمت وسحبت الكرسي وجلست أمام الطاولة، لم تكن تشعر بالجوع لكنها لم ترغب في افتعال شجار مع مربيتها التي بدا عليها المزاج الطيب للمرة الأولى منذ زمن.
“سآكل القليل فقط”
“كما تشائين”
ابتسمت المربية وبدأت تقطع الطعام إلى قطع صغيرة مناسبة ووضعتها في صحن أمامها
بدأت تاليا بتفكيك قطعة خبز صغيرة بحجم الظفر إلى أجزاء أصغر، تتفحصها لتتأكد من خلوها من أي شوائب و عندما اطمأنت دفعتها في حلقها مع المربى اللزج وما إن أوشكت على إنهاء الوجبة حتى قدمت لها المربية قطعة لحم مطبوخة بصوص بني غريب مع بيضة مسلوقة
لم تستطع حتى الاقتراب من رائحة اللحم فاكتفت بتناول البيضة بصعوبة ،ثم وقفت عندها أحسّت بحركة خارج الخيمة
“سموكِ أتيت لأتفقد حالتكِ الصحية”
كانت المعالجة التي أوصت بها سينيفيير ، ثم ردّت تاليا ببرود:
“ادخلي”
دخلت امرأة في منتصف العمر ذات ملامح مرتبة
وسألت بلطف:
“هل لا زلتِ تشعرين بالألم؟”
“ليس كثيرًا اليوم”
جلست تاليا على طرف السرير وردّت بجفاء، اقتربت المعالجة وبدأت بفك الضمادات عن ساقها ،وعندما ظهرت الندوب المتورمة أدارت المربية وجهها بعيدًا بسرعة.
قامت المعالجة بدهن الندوب بكريم كثيف لزج ثم أعادت لفّ الضماد حولها
“سأجعله خفيفًا قليلًا اليوم حتى لا يُهيّج الجلد”
“لا لُفّيه بإحكام لا أريد أن ينفك أبدًا”
“هل تنوين زيادة الندوب؟”
وبّختها المعالجة بنبرة صارمة ،حدّقت فيها تاليا بعينين حادتين ثم عضّت شفتيها وهزت رأسها ؛
ابتسمت المعالجة برفق وأكملت لف الضماد بتأنٍ
“لا تقلقي لففته بإحكام لن تُفتح الضمادات بسهولة”
لم تُجب تاليا بل بدأت تلمس الضماد بأطراف أصابعها،
كان ثابتًا فعلًا ،تنفّست الصعداء بخفوت ثم أخرجت المعالجة مبخرة صغيرة من حقيبتها
“سأشعل لكِ بعض الأعشاب المهدئة قبل الانطلاق ستساعدكِ على تحمّل الرحلة”
وضعت شمعة أعشاب جافة في مبخرة خزفية
لكن تاليا أوقفت يدها فجأة
“لا حاجة”
فتحت المعالجة عينيها بدهشة
“أأنتِ متأكدة؟ قد يزيد الألم أثناء السير بالعربة”
“سأتحمّل، باركا—-…”
كادت أن تقول إن باركاس يكره رائحة الأعشاب لكنها ابتلعت كلماتها لم تُرد أن تبدو وكأنها تهتم برأيه، لا أحد بات هناك ليسخر من مشاعرها ومع ذلك لا زالت تتكتم فقالت بحدّة
“قلت لا ،فدعينا على هذا”
أرسلت المعالجة نظرة قلق قبل أن تعيد الشمعة إلى الحقيبة، ثم نهضت تاليا وغسلت وجهها وارتدت ثيابها بمساعدة المربية
وعندما خرجت رأَت أمامها صفوفًا غير منتظمة من الخيام الصفراء وأناسًا يتحركون بينهم بانشغال
أحست بالرهبة من المشهد الغريب،
أطفال يركضون حفاة فوق الأعشاب،
نساء جالسات أمام الأفران يخبزن الخبز ويشوون اللحم، رجال يمتطون خيولهم بصدور عارية… بدا كل شيئ غريبًا ومختلفًا
“استيقظتِ أخيرًا”
بينما كانت تاليا تحدّق بذهول سمعت صوتًا مألوفًا والتفتت فرأت فتى نحيفًا بعينين ذهبيتين جالسًا على صندوق خشبي يحدّق بها كان شقيق باركاس الغريب
“هل كل أفراد العائلة الإمبراطورية كسولين مثلكِ ؟ الجميع كان ينتظر أن تنتهي من تجهيزاتكِ!”
رفعت تاليا حاجبيها بازدراء مما جعل الفتى يتراجع قليلًا وقد شعر بالحرج.
“أعني لقد تجاوزت الشمس كبد السماء وأنتِ لم تظهري بعد..”
“وأين هي تحيتك لي ؟”
سألت ببرود ،فرفع الفتى كتفيه وردّ بوقاحة:
“لا أحيي حتى والدي”
“وهل تظن أن كونك ابنًا غير شرعي هو أمر يدعو للفخر؟”
تشنّجت ملامح الفتى فجأة
“من قال إنني ابن غير شرعي؟ أنا فقط أعيش بحرية!”
أدارت تاليا ظهرها له بلا اهتمام لكنه أسرع للحاق بها
“هل كنتِ دومًا بهذا السوء؟ ماذا جرى لكِ بالضبط؟”
“…….”
“تقول الشائعات إنكِ كنتِ تضربين الخادمات وتضعين السم في كأس شقيقتكِ الكبرى هل هذا صحيح؟”
توقفت تاليا فجأة وتراجع الفتى خطوة كأنه يخشى أن تصفعه
حدّقت فيه بصمت ثم رفعت طرف فمها بابتسامة باردة
“صحيح كل ما سمعته صحيح”
اتسعت عينا الفتى وأكملت تاليا بنبرة هادئة
“كنت أضرب الخادمات كلما شعرت بالملل وسبق أن وضعت السم في كأس أختي الغير شقيقة”
بدأت عينا الفتى ترتجفان لم يعرف إن كانت صادقة أم تتباهى ،
اقتربت تاليا منه ببطء وواجهته وجهًا لوجه
“أتظن أن هذا كل شئ ؟ كنت أجهز سكينًا حادًا كل ليلة لأقطع وجهها الجميل إلى شرائح”
رأَت الشعر الناعم على وجهه ينتصب وأذناه تحمران بشدة فهمست تاليا بصوت بارد عند أذنه
“لهذا احذر مني لا أفرّق بين من أمامي ومن خلفي”
وعندما اعتدلت بجسدها رأت الرعب واضحًا في وجهه، ثم أنفجرت تاليا بضحكة ساخرة، وبدأت تمشي بعَرَجٍ نحو العربة
*****************
استمرّت جولة تفقد المقاطعة بسلاسة بعد أن قضوا الليلة في المراعي قرب قلعة رايدغو،
توجهوا شرقًا لزيارة قرية كبيرة ثم تحركوا شمالًا
بين القرى مرّوا بمخيمات متناثرة على طول الطريق الترابي يبدو أن الكثير من شعب “الكان” لا يزالون يعيشون حياة الترحال ،فـ مع مواشيهم التي تعدّ بالمئات كان لا بد من التنقل حسب مواسم العشب
أما المستقرون في القرى فكانوا يعيشون حياة مشابهة للإمبراطوريين ،يسكنون بيوتًا من الحجر والطين، يزرعون الأرض وبعضهم يملك وِرشًا للحِرف اليدوية أو يبيع الطعام في الأسواق برزت تجارة الصوف بشكل خاص فقد كان نسيج الصوف واللباد الفاخر من أهم مصادر الدخل في الشرق
وفي المدن الكبرى كانت تقام أسواق ضخمة ويتوافد إليها التجار من مختلف أنحاء الإمبراطورية لشراء الأقمشة الثمينة
وبهذا كانت كميات ضخمة من الذهب تتدفق إلى مراكز التجارة وكانت مهمة باركاس الأساسية تقييم سير العمل في هذه المراكز
“السوق في ازدهار مستمر سنويًا ،التجارة لا تقتصر على الأقمشة، بل تشمل المواد الغذائية والحِرف أيضًا”
شرح الإداري بجوار باركاس بنبرة رزينة:
“هذه البيانات تشمل الضرائب المحصلة هذا الموسم إلى جانب الإيجارات ورسوم المرور وأرباح مزرعة الخيول التي تديرها عائلة الدوق”
قلب باركاس بدفاتر الحسابات بسرعة ،كانت تاليا تراقبه بملل ثم صرفت نظرها إلى النافذة، شوارع مرصوفة بعناية ومبانٍ حجرية مصطفة بأناقة المدينة بأكملها تمتد أمام عينيها
بدت لها منطقة الشرق مكانًا غريبًا للغاية مزيجًا عشوائيًا من عالمين مختلفين، خيام بدوية فوق المراعي الواسعة وداخل الأسوار العالية حياة إمبراطورية رسمية وفجأة قطع شرودها صوت من جانبها.
“سيأخذ الأمر بعض الوقت هل ترغبين في الخروج قليلًا والتجوّل في السوق؟”
التعليقات لهذا الفصل " 93"