غمرت رائحة الماء العميق ونفحة النعناع الحادة رئتيها ثم رفعت تاليا عينيها المرتعشتين ونظرت إليه كان باركاس قد انحنى نحوها وهمس عند أذنها بصوت خافت
“إن أحدثتِ هذا الضجيج يا سموّ الأميرة فلا معنى لمشاركتنا نفس الغرفة”
استفاقت تاليا من شرودها كأنما أيقظها توبيخه المبطّن، ثم أبعدت يده عنها بسرعة وتراجعت بجسدها ،وما إن ابتعدت عنه حتى تجلّى أمامها جسده العضلي المتلألئ كأنه منحوت من حجر .
أخفضت بصرها بسرعة
“ارتدِ شيئًا! ألا تشعر بالحياء ؟”
زجرته بصوت خافت، تحركت جبهته بانكماشة طفيفة وهزّ باركاس رأسه مستنكرًا، ثم وقف وأجاب ببرود
“لستِ أنسب من يُلقي عليّ درسًا في الحياء، أنتِ التي كنتِ تتجولين في القصر بملابس بالكاد تغطي الجسد”
“متى فعلتُ ذلك؟”
رفعت رأسها غاضبة لتجادله لكنها صمتت عندما رأته يرتدي قميصًا جديدًا، كان يُدخل ذراعيه في الأكمام ثم قال بنبرة حادة:
“منذ أن بدأتِ تُمثلين دور الإمبراطورة قبيل بلوغك سن الرشد”
تلوّى وجه تاليا بالذل وتدفقت الذكريات عن تلك الأيام التي كانت تفعل فيها المستحيل لتجذب انتباهه فكاد الحزن يخنقها ثم اختطفت الوسادة بجانبها ووجهت بها ضربة قوية إلى ظهره
“الآن وقد بات جسدي عاجزًا حتى عن ارتداء تلك الثياب، فلا بد أنك تشعر بالرضا أليس كذلك؟”
استدار باركاس ينظر إليها بعين باردة بينما كان يُغلق أزرار قميصه وارتعدت تاليا للحظة ،إذ لم يكن باركاس قد فقد أعصابه قط رغم كل انفعالاتها منذ الحادثة لكن يبدو أن صبره بدأ ينفد
صعد إلى السرير وبدافع غريزي تقريبًا دارت تاليا بجسدها إلى الجهة الأخرى محاولةً الفرار، لكن ذراعه أحاطت خصرها وأعادها لتستلقي وحدّقت فيه بعينين مدهوشتين
كان الرجل الذي يستخدم القوة للسيطرة عليها كلما تجاوزت الحدود، ولهذا لم يكن تصرفه الجديد غريبًا تمامًا ومع ذلك شعرت بانقباض مفاجئ في صدرها.
اقترب وجهه منها وقال بلهجة تهديدية:
“من الأفضل أن تُقلعي عن هذه العادة”
حدّقت تاليا فيه بعينين مذعورتين كانت شفتاها تلسعانها من كثرة العض فنزلت عيناه الخالية من التعابير نحو فمها
ثم أضاف ببطء
“وعن تعذيب نفسكِ أيضًا”
بدأ قلبها يخفق كأنه سينفجر لم تعرف إن كان ذلك من الخوف أم من شعور آخر غير واضح وأغمضت عينيها بإحكام
“أ-أبعد نفسك عني”
“………”
“ألا تسمع؟ قلت لك ابتعد!”
لم يتحرك باركاس، كانت عيناه تلاحقانها بإصرار
فتشققت شفتاها من الجفاف
أخفت شفتيها المصابتين داخل فمها ،عندها فكّ باركاس قبضته عن معصمها لكنها لم تتمكن حتى من استخدام يدها المحررة إذ أمسك بذقنها
نظرت إليه بعينين تائهتين يمزجهما الخوف والحيرة ،لو كان شخصٌ آخر قد لمسها هكذا لظنت أنه يغازلها، ألم تعتاد في حفلات سينيفيير على أن يتحرّق الرجال لـ لمسّ جسدها ؟
لكن وجه باركاس الجامد الخالي من أي رغبة جعلها تشعر بأن الأمر لا يحمل أي دلالة بالنسبة له،
في حين كانت تاليا تحبس أنفاسها المضطربة، تمتمت:
“فهمت… فقط ابتعد عني”
رفعت عينيها إليه فارتدت نظراته الفضية كقطع الزجاج الباردة نحوها ،عيناه العميقتان أشبه ببئر تسحب كل ما بعقلها
بللت شفتيها بلسانها من دون تفكير ثم لمست بطرفه إبهامه فاحمرّ وجهها خجلًا، كان باركاس يراقب ردّة فعلها عن كثب وكأنه يتأكد إن كانت ترفضه فعلًا وتدفّق العرق على جبينها ،وكأن مشاعرها المكبوتة قد انكشفت تمامًا لم تعد تحتمل الصمت فتوسلت بصوت خافت:
“أنا… ساقي تؤلمني”
توقف باركاس للحظة ثم أدارت وجهها وتكلمت بنبرة مكبوتة:
“استيقظت بسبب الألم أرجوك فقط أستدعي المعالجة”
عندها فقط تراجع،
قفزت تاليا إلى زاوية السرير كوحش هارب من الفخ وراقبها باركاس بعينين مفكرتين ثم التفت وأطلق تنهيدة قصيرة
“لقد أحضرت الدواء مسبقًا”
“لا أريد دواءً ،نبتة النعاس أكثر فاعلية فقط أستدعي المعالجة هي تعرف كيف…”
لكن قبل أن تكمل رمقها بنظرة باردة جعلتها تسكت وتسحب الغطاء حتى ذقنها .
أخذ قارورة زجاجية من الرف وفتحها ثم مدّها نحوها.
نظرت تاليا إلى القارورة كما لو كانت عدوتها لكنها أخذتها على مضض.
كان ذلك هو الدواء الذي اضطرت لابتلاعه أول يوم لها في الشرق، ومنذئذ كانت تسكبه في أصص الزرع سرًا أغمضت عينيها بقوة وابتلعت السائل المرّ الذي أحرق لسانها.
أخذ باركاس القارورة الفارغة بهدوء ثم أعادها إلى الرف وأعادها إلى السرير بلطف كأنه يتعامل مع طفلة في العاشرة ،ذلك التناقض بين قسوته السابقة وهدوئه الآن زاد من اضطرابها
ماذا كان يعني تصرفه قبل قليل ؟ هل كان يحاول إخافتها ؟ أم أن هناك شيئًا آخر ؟ ثم قطعت يدُه التي رتبت الفراش فوقها حبل أفكارها وقال بنبرة هادئة.
“نامي الآن ستحتاجين إلى الراحة لتكملي جدول الغد”
نظرت إليه كما تنظر لأفعى لا تعرف متى ستلدغ، لكن باركاس بدا غير مدرك لحذرها أو ربما تجاهله إذ خفّض أضواء المصباح ثم سار نحو زاوية الخيمة وجلس أمام طاولة وفتح دفترًا يبدو أنه سجل حسابات .
كان يتفحص سجلات مالية على ما يبدو.
راقبته تاليا بصمت تتساءل متى سينضم إليها في الفراش، لكن الليل مرّ وهو لم يتحرك من مكانه وفي النهاية كانت هي من خارت قواها أولًا واستسلمت للنوم دون أن تدري لتفتح عينيها في اليوم التالي وهي وحدها في الخيمة الخاوية
كم كان سخيفًا توترها طوال الليل وهي تخشى مشاركته السرير.
تأملت الخيمة الرمادية التي تبللت بخيوط الفجر ثم تنهدت بمرارة، لقد وعد منذ البداية ألا يحدث شيئ فلمَ كانت قلقة إلى هذا الحد إذن ؟
“آنستي هل استيقظتِ؟”
كانت تتفحص جانب الفراش وكأنها تبحث عن أثر له حين سمعت صوت مربيتها قادمًا من خارج الخيمة، نهضت تاليا عن السرير مترنحة
“استيقظت”
دخلت المربية الخيمة وهي توازن صينية كبيرة على رأسها بخطوات صغيرة
“هل نمتِ جيدًا الليلة؟”
بدت المربية في حالة نادرة من البهجة إذ وضعت، الصينية الممتلئة بالطعام أمامها وبدأت تثرثر بابتسامة مشرقة
“أحضرت الإفطار وأعتقد أنكِ ستعجبين به، هذه المرة المسؤول هنا قدّم لنا بالأمس طعامًا لذيذًا فعلًا”
قطبت تاليا جبينها وهي تنظر إلى الأواني الذهبية كانت مليئة بعصيدة القمح وخبز أبيض خشن وجبن ذي رائحة قوية ومربى لزج ورؤية هذا الطعام وحده سبب لها الغثيان
“كفى فقط أحضري نبيذ العسل”
“لا يمكنني ذلك ،سموّ الدوق وبخني بشدة وأمرني أن أحرص على تناولكِ وجبة كاملة ،ألن تمانعي إن تعرضتُ لعقوبة ؟”
تناولت تاليا قطعة خبز تقلبها بتمعّن كأنها تبحث عن حشرات صغيرة ،كانت المربية تؤمن في أعماقها بأن الإمبراطور أو سينيڤيير لا يزالان يكنّان مشاعر لابنتهما غير الشرعية ربما أفرطت في تفسير كلمات باركاس أيضًا
التعليقات لهذا الفصل " 92"