ما إن فتحت تاليا عينيها حتى بدأت بالاعتناء بمظهرها على نحو لم تعهده من قبل. تحملت بصمت أيدي الوصيفات وهن يفركن بشرتها بخشونة حتى احمرّت، وصبرت على مشط الشعر الذي كان يُمرر على فروة رأسها بإلحاح حتى شعرت بالوخز.
بعد أن أنهت استعداداتها، ارتدت فستان المخمل الذي أهداه لها جدّها من جهة والدتها في اليوم الذي غادرت فيه قصر عائلة تارن، وهو ذاته الذي لم يكن يُلقي لها نظرة رضا من قبل.
وحين نظرت في المرآة، رأت طفلة بوجه ملائكي، فكّرت أن والدتها لو عادت في عمر التاسعة، فستبدو هكذا تمامًا.
تأملت في عينيها الزرقاوين العميقتين، اللتين ورثتهما من والدتها، ثم غادرت غرفتها بتصميم واضح على وجهها. لكنها لم تجد الفتى الذي اعتادت رؤيته كل يوم في وقت تدريبه، وكأنه اختفى تمامًا هذا اليوم.
راوغت خدمها، وتجولت طويلًا في أرجاء القصر، تبحث عنه بين أروقته وساحاته، لكن دون جدوى. خارت قواها، وشعرت بالإحباط يخنقها. تساءلت إن كانت لن تراه مجددًا أبدًا، وكان ذلك كفيلًا بأن يعتم رؤيتها ويثقل قلبها.
لم تكن تدري لماذا تشبثت بذلك الفتى إلى هذه الدرجة، وهي لم تتحدث إليه إلا مرة واحدة.
لكنها، في قرارة نفسها، كانت تعرف السبب. في ذلك اليوم الماطر، كان بإمكانه أن يتجاهل طفلة مغطاة بالطين، لكنه لم يفعل.
دخل الحفرة بنفسه، واتسخ ثوبه وحذاؤه ليُنقذها.
ضم جسدها المرتجف بين ذراعيه الدافئتين، وأطال النظر في عينيها بعطف واهتمام.
عاملها كما يُعامل المرء طائرًا صغيرًا على وشك الموت، فأخذها إلى مكان آمن.
كان ذلك كافيًا ليصبح هو أملها الوحيد.
واصلت تاليا سيرها بمحاذاة جدران القصر العالية التي بدت وكأنها تصل إلى السماء.
كان القصر الإمبراطوري شبيهًا ببطن وحش ضخم، واسع ومعقد، حتى بعد مرور شهور على إقامتها فيه، ما زالت تكتشف أماكن جديدة.
تجوّلت بين الحدائق المزهرة، ثم عبرت ساحة واسعة لتصل إلى الجهة الخلفية من القصر الرئيسي.
قدماها اللتان لم تتوقفا منذ الصباح تؤلمانها بشدة، وكانت تشعر بأن كل خطوة تُشعل نارًا في باطن قدميها.
مسحت عرق جبينها ونظرت من خلال أوراق الأشجار إلى السماء الزرقاء.
وقبل أن تهمّ بالعودة إلى جناحها، أبصرت من بين أشجار القضبان الطويلة ظهر فتى مألوف يمشي بهدوء. اتسعت عيناها فرحًا.
مع أن المسافة بينهما لم تكن قصيرة، إلا أنها عرفته على الفور. حركته الرشيقة والهادئة، وثبات ظهره، كلها أمور لا يُمكن أن تُقلد.
أسرعت تاليا لتلحق به، لكنها لم تستطع تقليص المسافة مهما حاولت.
لاحظت أنه كان يسرع الخطى، فتساءلت إلى أين هو ذاهب بهذا العجلة.
أرادت أن تناديه، لكن أنفاسها كانت متقطعة فلم تستطع إصدار صوت. وانتهى بها الأمر بأن فقدت أثره.
جلست منهكة تتكئ على جذع شجرة، والشمس الحارقة تخترق وجهها المتعرق.
حدّقت إلى الأعلى بعينين شبه مغمضتين، وبينما كانت تسرح، سمعت ضحكة خفيفة وسط النسيم، أشبه بزقزقة طائر صغير.
نهضت تاليا وسارت ببطء نحو مصدر الصوت.
اجتازت الأشجار الكثيفة والغياض حتى وصلت إلى حديقة خلابة تملؤها أزهار اللافندر والماريجولد والزهور البيضاء الصغيرة، وبينها نافورة صغيرة وشرفة رخامية ناصعة البياض، بدت كقصر جنيات ساحر.
تأملت المنظر كأنها مسحورة بجماله، إلى أن رأت الفتى جاثيًا على ركبة أمام مقعد رخامي.
لكنه لم يكن وحده.
كانت تجلس أمامه فتاة جميلة تبدو في مثل عمره، بشعر أسود داكن كالحرير وخدين ورديين.
كانت تتحدث بسرعة وحماس، وكان الفتى يبتسم ابتسامة خفيفة. رؤية تلك الابتسامة جعلت قلب تاليا ينكمش كأن شيئًا طعنها. شعرت وكأن كنزًا يخصّها قد سُرق منها.
كانت تعلم أن ذلك الشعور غير منطقي.
كان واضحًا أن الاثنين يعرفان بعضهما منذ زمن، بينما هي… مجرد غريبة.
ومع ذلك، قررت تاليا أن تتقدم وتُعرّف بنفسها بأدب. أرادت، بأي طريقة، أن تكون جزءًا من تلك الأجواء الدافئة التي أحاطت بهما. بل وأكثر، أرادت أن يُوجه الفتى ابتسامته وعينيه الزرقاوين نحوها.
مدفوعة بذلك الشعور العارم، خرجت من خلف الأشجار واقتربت من النافورة.
وفورًا، ارتفعت نحوهما نظرتان: واحدة فضية كضوء القمر، والأخرى خضراء صافية كزجاج زمردي.
شعرت تاليا بجفاف في حلقها، فلم تعتد التواصل مع أطفال في سنها.
لكنها كانت أميرة الإمبراطورية. من ذا الذي يجرؤ على رفض صداقتها؟
رفعت ذقنها وتحدثت بثقة:
“مرحبًا.”
لكن الفتى لم يرد، بل ظل يحدق بها بلا حركة.
هل لم يتعرف عليّ؟ لعل شكلي الآن في هذا الفستان لا يُشبه صورتي عندما كنت مغطاة بالطين…
همّت بالحديث عن المرة التي أنقذها فيها، لكن الفتاة التي كانت إلى جانبه صرخت فجأة بصوت مرتجف:
“لا! لا! ليس هنا! هذا المكان بالذات لا!”
كان صوتها وكأنها ترى كابوسًا حيًّا.
ثم نظرت إلى تاليا بعينين مرعوبتين، وألقت بنفسها على الفتى:
“أرجوك يا باركاس! أطردها من هنا! لا تدعها تطأ هذه الأرض! لا أريد أن أراها مجددًا!”
لفّت ذراعيها حول عنق الفتى.
باركاس احتضن الفتاة المرتجفة، ونظر إلى تاليا من فوق كتفها بنظرة باردة كالثلج. تاليا تراجعت خطوة إلى الوراء.
قال بصوت منخفض:
“غادري… حالًا.”
حدّقت فيه بدهشة للحظات، ثم استدارت وركضت.
كأن دلوا من الماء المثلج سُكب فوق رأسها. عقلها توقف عن التفكير.
ركضت وركضت، لا تدري كم مضى من الوقت، حتى اقتربت من القصر الرئيسي، وفجأة شدّ أحدهم شعرها بقسوة، فانقلب رأسها إلى الخلف وسقطت أرضًا بقوة.
لم تفهم ما حدث، كل ما شعرت به هو ألم في بطنها وهي تتدحرج فوق العشب.
“كيف تجرؤين على المجيء إلى هنا؟!” صرخ فتى غاضب فوقها.
رفعت وجهها بذهول، كان فتى لم تره من قبل.
شعره أسود وعيونه خضراء كالنار، ويشبه الفتاة التي كانت مع فاركاس بشكل مدهش.
لا تعرف من هو، ولا لماذا يهاجمها.
تجمدت من الصدمة، لكنه ركلها في بطنها مرة أخرى.
“موتي!”
تقلص جسدها، وبدأت تسعل.
تابع الفتى ركلها كما لو كانت كرة.
“موتي! موتي! موتي!!”
صرخاته المدوية كانت كالمسامير تخترق أذنيها. استمر هجومه حتى جاء الخدم مسرعين.
زحفت تاليا على الأرض محاولة النجاة من ركلاته، لكن حتى بعد كل ذلك، لم يهدأ غضبه.
صرخ الفتى وهو يُمسك به الخدم:
“اختفي من هذا العالم! أيتها اللقيطة القذرة!”
التعليقات لهذا الفصل " 9"
يا قلبي زعلت عليها كتير😞
😞😞😞😞