استدارَ باركاس نحو الرجل ذي الملامح القاسية التي تبدو عنيدة بعض الشيء، وسأله:
“كم عدد الخيول الحربيّة المُدرّبة؟”
“في هذا المرعى وحده، ثلاثة آلاف رأس. إذا أضفنا المرعى الواقع في الشمال، فسيكون العدد حوالي ستة آلاف وثلاثمئة.”
“أقلّ ممّا ورد في التقارير.”
عند هذا التعليق، ارتسمت لمحة حمراء على وجه الرجل.
“ألم تكن سيادتك في المنطقة الوسطى؟ من الصعب عمليًا نقل كلّ التفاصيل الصغيرة خارج التقارير الدوريّة.”
أضاف الرجل وهو يتجنّب النظر إليه، كمن يقدّم عذرًا:
“قبل شهر، تعرّض أحد مراعي الخيول في الشمال الشرقي لهجوم من قِبل الزلاميين، ممّا تسبّب في أضرار كبيرة. ثمّ خسرنا عددًا لا بأس به من الخيول الحربيّة الجيّدة خلال معركة الانتقام.”
عبسَ باركاس وقال:
“لماذا لم يتمّ رفع تقرير إلى الإمبراطوريّة؟”
“بإمكاننا حلّ المشكلة بأنفسنا، فلمَ الإزعاج؟”
ردّ الرجل بنبرةٍ لا مبالية وهو يهزّ كتفيه.
“كان مبدأ سموّ الدوق أنّ مشاكل الشرق يجب أن يحلّها أهل الشرق بأنفسهم، وقد وافق التابعون على ذلك.”
“الشرق أيضًا جزء من أراضي إمبراطوريّة روم.”
ردّ باركاس بنبرةٍ جافّة:
“نحن أيضًا مواطنون في الإمبراطوريّة. كما أنّ الشرق يدين بالولاء للإمبراطوريّة، فإنّ على الإمبراطوريّة واجب حماية أهل الشرق.”
أغلق الرجل فمه بإحكام، وكأنّ كلمة “حماية” أثارت فيه رفضًا غريزيًا.
كان محاربو شعب الكان، ذوو الوعي الذاتي القوي، يعتبرون الدعم الخارجي إهانة.
بدلاً من تصحيح هذا التفكير الخاطئ، وجّه باركاس رأس حصانه نحو القرية الواقعة أسفل التلّ.
كان معظم سكّان المناطق خارج الأسوار يعيشون حياةً قاسية مقارنةً بسكّان المدن.
دليلاً على ذلك، كانت المباني المصطفّة على طول الطريق الطينيّ الزلق تبدو قديمة ومتهالكة.
بينما كان يتفحّصها بنظرةٍ لا مبالية، لفتَ انتباهه شيءٌ ما فجأة.
ضيّق باركاس عينيه ووجّه حصانه نحو مركز القرية.
عندئذٍ، رأى شيئًا معلّقًا على شجرةٍ كبيرة في الساحة.
اقترب أكثر، فعرف ماهيّته.
ثلاث جثث بدأت تتحلّل بلونٍ بنفسجي، ملفوفة بحبال حول أعناقها، متدلّية بلا حراك، كأنّها ماتت منذ زمن.
قال دارن، وهو يعبس:
“يبدو أنّهم وثنيّون أُعدموا مؤخرًا.”
استدار باركاس نحوه وسأله:
“هل تنتشر الطوائف الوثنيّة في كالمور؟”
“كما تعلم سيادتك، هناك العديد من أهل الشرق الذين لم يتخلّوا عن إيمانهم القومي. منهم من يعبد الأرواح كآلهة، ومنهم من يغرق في الخرافات.”
تنهّد الرجل تنهيدةً ثقيلة:
“مؤخرًا، زادت الشكاوى المتعلّقة بالوثنيين. ربّما بسبب النزاعات المتكرّرة مع الزلاميين، الذين يغرقون جميعًا في عبادة الأرواح. بسبب هذا العداء المتزايد للوثنيين، تُعقد محاكم دينيّة متكرّرة على مستوى القرى.”
“في غضون بضع سنوات، أصبح الوضع فوضويًا.”
ظهرت علامات الاستياء على وجه الرجل.
محاولًا إخفاء ذلك، ارتسم على شفتيه ابتسامة متكلّفة، وهزّ كتفيه العريضين:
“بما أنّ سموّ الدوق ظلّ طريح الفراش لفترة طويلة، فلا مفرّ من ذلك.”
نظر باركاس إلى الجثث بتفكير عميق، ثم أشار برأسه إلى رجاله:
“إذا تُركت هكذا، فمن المرجّح أن تتحوّل إلى غولات. أنزلوا الجثث، وأجروا مراسم دفن بسيطة.”
رفع الرجل حاجبيه الكثيفين:
“الوثنيين؟”
نظر إليه باركاس بنظرةٍ باردة:
“هل يجب أن أكرّر كلامي؟”
بعد أن حدّق فيه دارن للحظة، صاح في الفرسان المصطفّين:
“لمَ تقفون هكذا دون تنفيذ أمر سيادته؟”
نزل الرجال فورًا من خيولهم وقطعوا الحبال التي كانت تعلّق الجثث.
سقطت الجثث على الأرض الترابيّة بثقل، بصوتٍ مكتوم.
تأمّل باركاس رأسًا مكسور العنق بزاويةٍ غريبة نتيجة السقوط.
كانت الديدان تتلوّى في تجويف فارغ حيث كانت العينان، وبداخل الشفتين المقطوعتين بالسكّين، لم يبقَ أيّ سنّ.
كلّ ذلك كان إجراءً لمنع تحوّلها إلى غولات.
الجثث التي لم تُطهَّر بمراسم مقدّسة كانت مرشّحة بقوّة لتصبح أوندد، ولذلك كان الوثنيّون يُجردون من عيونهم وأسنانهم وأظافرهم.
‘عملٌ لا طائل منه…’
كان بإمكان الغولات استخدام الأدوات بناءً على ذكرياتها الحياتيّة.
لمنع الخطر، كان من الأفضل حرق الجثث بالكامل أو إجراء مراسم التطهير.
نظر إلى الجنود وهم يجرّون الجثث الثلاث إلى ركنٍ في الأرض الخالية، ثم أدار رأسه ليتفحّص الفلاحين بملابسهم الرثّة المجتمعين على جانب الساحة.
كان معظمهم يبدون خائفين، لكنّ البعض كانوا يرتدون تعابير استياء.
أشار إلى أحدهم:
“أنت، اذهب الآن واستدعِ كاهنًا.”
تحرّك الرجل المختار ببطء نحو الكنيسة الواقعة على طرف القرية.
سرعان ما جاء الكاهن وراح يؤدّي مراسم تطهير بسيطة.
راقب باركاس المشهد بهدوء، ثم أمر بدفن الجثث في مكانٍ مناسب، وقاد حصانه خارج القرية.
في تلك اللحظة، لفت انتباهه تمثالٌ خشبيّ مهجور في نهاية الطريق العريض.
كان تمثال كلبٍ برؤوس ثلاثة، أو ربّما ذئب، مقسومًا نصفين بفأسٍ وملقى على دربٍ يؤدّي إلى غابة أرغاند.
كان ذلك رمزًا واضحًا للعنة.
اكتشف دارن التمثال متأخرًا، فتصلّبت ملامحه وصاح بالجنود:
“أزيلوه فورًا!”
نظر باركاس إلى التمثال بهدوء، ثم أدار بصره نحو القرية.
كان من الواضح أنّ أحدهم وضعه عمدًا أثناء زيارتهم، في فعلٍ يحمل سوء نية.
ضحك ضحكةً جافّة:
‘يبدو أنّ هناك من لا يرحّب بعودتي.’
لم يكن بإمكانه معرفة إن كان ذلك عمل الوثنيّين الغارقين في الخرافات أم تحدٍّ من قوى مناهضة للإمبراطوريّة، لكنّه شعر أنّ الحياة هنا لن تكون سهلة.
سأله دارن، وهو يراقب تعابيره:
“هل نبحث عن الجاني؟”
هزّ باركاس رأسه قليلًا وهو يشدّ لجام الحصان:
“دعه. إثارة الضجيج بسبب تمثالٍ تافه لن يجلب سوى السخرية.”
تنهّد الرجل وأومأ برأسه:
“هذا صحيح.”
رغم موافقته، بدا أنّ مزاجه لم يتحسّن، إذ كانت نظرته للقرية حادّة. ربّما كان يفكّر في أخذ رجاله وإثارة المتاعب.
بعد مراقبته للحظات، شعر باركاس بإرهاقٍ غريب وهو يحثّ حصانه على التقدّم.
**************
عندما عاد إلى قلعة رايدغو، كانت الشمس تميل نحو الغرب.
نزل باركاس من على حصانه بسرعة، وسلّم اللجام إلى حارس الإسطبل، ثم عبرَ ساحة التدريب الواسعة.
عند دخوله القلعة، هرع رئيس الخدم نحوه:
“أهلاً بك، سيّدي الشاب.”
أومأ باركاس رأسه ردًا على التحيّة، ثم عبر القاعة المزدحمة وصعد الدرج.
تبعه الرجل مسرعًا وقال:
“لقد جاء عدد من اللوردات من مناطق مختلفة لمقابلتكم، سيّدي.”
عبس باركاس ونظر إلى رئيس الخدم:
“لوردات المناطق؟”
“هم أتباع يديرون المنطقة الجنوبيّة الشرقيّة.”
أضاف الرجل بحذر:
“يبدو أنّهم جاؤوا لترك انطباعٍ جيّد قبل مراسم تولّيك المنصب.”
فرك باركاس ذقنه بيده المغطّاة بالقفّاز، ثم استأنف صعود الدرج وهو يقول بلا مبالاة:
“جهّزوا مأدبة للضيوف. سأغيّر ملابسي ثم أتوجّه إلى قاعة الاجتماعات.”
“سيدي…”
بينما كان يتّجه إلى غرفة نومه في الطابق الثاني، أطال رئيس الخدم كلامه.
نظر إليه باركاس من فوق كتفه.
بعد تردّدٍ طويل، فتح الرجل فمه بحذر:
“هل ستتمكّن سموّها من حضور المأدبة الليليّة…؟”
ضيّق باركاس عينيه.
رئيس الخدم، وكأنّه ينمّ، تابع بسرعة:
“أليست ستصبح سيّدة هذا المكان قريبًا؟ ألا يُفضّل أن تُقام مناسبة لتعريفها بالخدم؟ الجميع يتساءل عنها. لكنّها ظلّت محتجبة في غرفتها طوال اليوم…”
“رئيس الخدم.”
قاطعه باركاس بنبرةٍ منخفضة:
“هل تعتقد أنّ على سموّ الأميرة، بجسدها المتعب، أن تخرج إلى قاعة المأدبة فقط لإرضاء فضول أقربائي أو الخدم؟”
شحب وجه رئيس الخدم. أضاف باركاس ببرود:
“لقد تعرّضت سموّها لحادثٍ كبير قبل بضعة أشهر. لم تتعافَ بعد من رحلةٍ شاقّة استمرّت أسابيع. يجب أن تستريح الآن، لذا أبلغ الجميع ألّا يزعجوها بأمورٍ تافهة.”
التعليقات لهذا الفصل " 80"
احبب الابطااال حييل موقادرة انطر ابي اقراها كلها !!!! ذكرتيني ب اغنيه على بالي لشيرين تشرح وضعها 😔😔😔