منذ ذلك اليوم، بدأت تاليا بالتجول في الحدائق الخلفية كلما سنحت لها الفرصة. لكنها لم تره مرة أخرى، لا حتى تمّت زراعة شجرة دردار كبيرة في المكان الذي عثرت فيه على الطائر المحتضر، وامتلأت الحديقة الكئيبة بزهور زاهية الألوان.
شعرت وكأنها فقدت كنزًا نادرًا وجدته بالمصادفة. كم تمنت لو أنها تجاهلت نداء المربية في ذلك اليوم…
والدها الذي وعد بزيارتها لم يأتِ، وأمها أيضًا لم تكلف نفسها عناء البحث عنها.
أمضت تاليا مساءها بين خادمات باردات ووجبة لا طعم لها، تندم بصمت على عدم ملاحقة ذلك الفتى. شعرت بأنها لو توسلت قليلاً، لكان قد أخذها معه رغمًا عنه. في كل مرة تلتف ببطانيتها الباردة، كانت تشتاق لتلك اليدين الكبيرتين الدافئتين اللتين احتضنتاها.
بدأت تشك، ربما لم يكن سوى وهم نسجته وحدتها. لكنها بالكاد غرقت في ذلك الشك، حتى عاد الفتى وظهر أمامها مجددًا.
لا، بل الأدق أن نقول إن تاليا هي من عثرت عليه هذه المرة.
مرت الفصول، وها هي الآن في التاسعة من عمرها، والحر الشديد حلّ محل زخات المطر.
بينما كانت تمر بممر طويل في طريقها إلى الجناح الإمبراطوري، استوقفتها أصوات صارخة، فالتفتت نحو نافذة مقوسة ضخمة. كان الفرسان المتدربون، يرتدون سترات سوداء، يتدربون على السيوف الخشبية تحت شمس الصيف القاسية.
ورغم أن عددهم يقارب الثلاثين، إلا أن عيني تاليا انجذبتا نحوه كأنها فراشة مأخوذة ببريق لهب.
خصلات شعره الأشقر الباهتة تتلألأ بوميض فضي تحت الشمس. كانت هذه أول مرة تراه دون غطاء رأس، ومع ذلك عرفته على الفور—الفتى الذي ظهر وسط أمطار الربيع المبكرة.
مالت بجسدها أكثر نحو النافذة لتراه بوضوح.
كان الفتى ذو العينين الزرقاوين يتحرك برشاقة وأناقة لافتة، تميز بها عن سائر المتدربين. كل حركة منه كانت تحمل خفة ورزانة تنبعث معها أصوات كأنها تمزق الهواء.
سألت الخادم العجوز المرافق لها:
“من يكون ذلك الشخص؟”
ألقى نظرة عابرة من دون اهتمام:
“جميعهم فرسان متدربون، أبناء من عائلات نبيلة يتدربون لينضموا إلى الحرس الإمبراطوري.”
لم يهتم بمعرفة من بالتحديد أثار فضولها.
رمقها بنظرة غير راضية حين تباطأت في السير
“جلالة الإمبراطور ينتظرك. هيا بنا.”
تركت النافذة على مضض، وسارت بصمت في الممر البارد نحو والدها. كانت هذه أول مرة تراه منذ دخولها القصر منذ أشهر، ومع ذلك، لم تشعر بشيء.
حتى حين زار الإمبراطور منزل عائلتها في السابق، لم تشعر به كأب. كان رجلًا بوجه صارم لا يهتم بها، وهي بدورها لم تكن تحب من سرق قلب أمها.
وحتى بعد تسجيلها رسميًا في نسب العائلة الإمبراطورية، لم يتغير شيء.
دخلت غرفة فخمة وواسعة، وألقت نظرة حذرة على الرجل الضخم الذي يقف وظهره للضوء.
مر وقت قبل أن ينطق، عيناه لم تفارق الوثيقة أمامه:
“عليكِ أن تتعلمي قواعد السلوك الإمبراطوري من الآن.”
ثم ختم الورقة دون أن ينظر إليها.
انتظرت تاليا أن يرفع بصره نحوها، لكنه لم يفعل. لم تستوعب… كيف يمكن لرجل أحبّ سينيڤيير إلى هذا الحد، أن لا يستطيع حتى النظر إلى ابنته التي تشبهها تمامًا؟
أخذ يكتب على الطاولة، بينما تابع بنبرة باردة:
“أحضرت معلمين من أفضل ما يكون. ابتداءً من الغد، عليكِ الحضور قبل الظهيرة لتلقي الدروس. عليك بذل جهد كبير لتعويض ما فاتك.”
لم يكن بحاجة لردّها، إذ لوّح بيده إشارة لانصرافها. وهكذا انتهى لقاؤها الأول مع والدها منذ عام.
عادت تاليا أدراجها ببطء، تبحث بنظرها من النافذة عن الفتى. لكن الساحة كانت خالية، لا شيء سوى شمس الصيف الساطعة.
بعد ذلك، صارت تراقبه كل يوم أثناء تدريبها. كانت تحب ملامحه التي تشبه تمثالًا من الجص، وقطرات العرق التي تلمع على جبينه، والحمرة الخفيفة التي تصبغ وجنتيه مع الحركة.
كانت تحدثه في سرها أحيانًا:
“ذلك الطائر… ماذا حدث له؟ هل مات؟ هل دفنته؟ أم صار قويًا وتركته يطير بعيدًا؟”
أرادت أن تقف أمامه وتسأله مباشرة، كما فعلت في ذلك اليوم الماطر. أرادت أن ترى إن كانت عيناه لا تزالان تخبئان تاجًا فضيًا.
وحين أصبح هذا الشوق لا يُحتمل، حدث شيء غيّر كل شيء.
كانت تاليا تحدق بالساحة متجاهلة درس التاريخ، حين شعرت بظل ثقيل خلفها.
التفتت بسرعة. كانت والدتها، التي لم ترها منذ أكثر من أسبوعين، تقف هناك.
رغم أن وجهها كان مألوفًا، شعرت وكأن قلبها توقف لثانية. سينيڤيير، المتألقة بجمال ملكي، بدت وكأنها تجسيد لكل ما هو ساحر في هذا العالم.
سألت الأم وهي تحدق بها:
“ما الذي كنتِ تنظرين إليه بهذه الطريقة؟”
ارتبكت تاليا وابتعدت عن النافذة. لا تدري لماذا، لكنها لم تشأ أن تذكر الفتى.
لكن سينيڤيير رأت كل شيء. نظرت عبر النافذة إلى الفتى الأشقر الطويل، وابتسمت بمكر:
“إنه ابن دوق شيوركان، أليس كذلك؟”
رفعت تاليا رأسها بدهشة. كانت تتوقع أنه من عائلة نبيلة، لكن لم يخطر ببالها أنه من تلك العائلة العريقة.
لمعت عينا سينيڤيير بدهاء:
“هل ترغبين به؟”
احمر وجه تاليا ولم تجب.
ضحكت سينيڤيير بصوت خافت، وانحنت لتطبع قبلة على خد ابنتها:
“إن أردتِ، يمكنني أن أقدمه لكِ كهدية.”
همساتها كانت باردة كالرياح التي تعصف بغابة ليلًا. اعتدلت في وقفتها وابتسمت ابتسامة خبيثة:
“لكن ليس بالمجان. إن أردتِ جائزة، عليكِ أولًا أن ترضي والديكِ.”
أدركت تاليا مغزى كلامها، فاحتضنت كتاب التاريخ المهمل على حافة النافذة، ثم استدارت تركض. شعرت كأن عيني والدتها تلاحقانها كخيوط عنكبوت.
لطالما اشتاقت لرؤية أمها. لكن الآن، لماذا تهرب منها؟
كانت تنوي أن تصرخ في وجهها، أن تشكو، أن تبكي… أن تسألها لماذا تركتها وحدها. لكن سينيڤيير لم تعد أمها القديمة، بل أصبحت شيئًا مخيفًا غريبًا.
في تلك الليلة، لم تستطع تاليا النوم.
حتى في منزل آل تارن، لم تكن حياتها مثالية، لكنها كانت تملك سينيڤيير… كصديقة أقرب من الأم. كانتا معًا ضد العالم.
لكن الآن، سينيڤيير أصبحت إمبراطورة، وتركتها وحيدة في عالم غريب لا تعرفه.
شعرت تاليا بأن الوحدة تنخر عظامها. كانت تتوق بشدة لوجود أحد بجانبها. شعرت أنها قد تعطي أي شيء في مقابل أن يحتضنها أحدهم بذراعين دافئتين وينظر إليها بعينين لطيفتين.
لذلك قررت أن تقابله بنفسها — ذلك الفتى الذي كانت تراقبه من بعيد فقط.
التعليقات لهذا الفصل " 8"
البطلة ماضيها يحزن خصوصا التحول بعلاقتها مع امها
ابوها مريض؟؟؟ مو طبيعي هذا وهو يحب امها وميت عليها والله لو انها غاصبتك تجيبها