الفصل 75
************
كان جسدها الضعيف يعاني من الحمى طوال الرحلة الطويلة.
نظرت تاليا إلى السقف المتراقص وهي تتقلب وتتنفس بصعوبة.
كانت العربة تتحرك ببطء لا يختلف عن المشي، لكن حتى تلك الاهتزازات كانت تعذبها.
أمسكت رأسها بسبب صداع يشبه انشقاق جمجمتها.
فجأة، سمع صوت بوق حاد من الخارج.
هل وصلوا أخيرًا؟ نهضت بصعوبة ونظرت من النافذة.
امتلأت رؤيتها المحمومة بمشهد سهل شاسع.
اتسعت عيناها أمام المنظر الغريب.
امتدت مراعٍ خضراء داكنة إلى ما لا نهاية، كأنها تلتقي بالسماء.
اجتاحت عاصفة تلك الحقول الخضراء.
فتحت النافذة لتبرد وجهها المحموم بالنسيم البارد.
“هناك كالمور.”
التفتت فزعة إلى الصوت المفاجئ، فرأت رجلًا يقود حصانًا بالقرب منها.
اقترب أكثر وابتسم بودّ:
“أنا تايرون. هل تتذكرينني؟ التقينا من قبل.”
أغلقت فمها وأرسلت نظرة حذرة.
تلاشت ابتسامته قليلًا.
بعد لحظة تأمل، تابع بنعومة:
“يبدو أنكِ مريضة جدًا.”
“…”
“سنصل قريبًا إلى قلعة رايدغو. هل ترين الجدران هناك؟”
أشار إلى الأمام.
تبعت تاليا إشارته بعينيها.
في نهاية الأفق، ظهر جدار رمادي بني يشبه ما صيغ من الرماد والرمل.
أخرجت رأسها لترى أوضح.
بدت قلعة رايدغو كأنها بنيت بتكديس صخور ضخمة.
أحاطت جدران خارجية سميكة بلا زخرفة سفح التل، وفوقها ارتفعت أبراج وقلاع حجرية بتصميمات خطية مستقيمة.
غطت رقبتها دون وعي.
هل لأن المكان الذي ستعيش فيه بدا قاسيًا للغاية؟
شعرت بقشعريرة.
“قد يبدو الخارج خشنًا بعض الشيء، لكن الداخل مزيّن بفخامة لا تقل عن أي قلعة في المناطق الوسطى. لن تجدي أي إزعاج.”
قال الرجل وهو يتفحص وجهها بنبرة مطمئنة. ردت تاليا بنظرة متشككة.
هل هذا الريفي وضع قدميه في قصر إمبراطوري أو قلاع النبلاء الكبار؟
شعر بنبرتها المتعالية، فبرزت عروق جبهته.
أضاف بصوت قوي:
“قلعة رايدغو بناها الأقزام في عصر الأمم العشر. إنها تتفاخر بحجم ورفاهية لا تقل عن القصر الإمبراطوري…”
“أعرف. لقد استعبدتم شعب الكان الأقزام في الشمال الشرقي وبنيتموها، أليس كذلك؟”
أغلق فمه بإحكام أمام كلماتها الحادة.
تابعت تاليا ببرود لتمنعه من الكلام بحرية:
“إذا انتهيت من الثرثرة دون سؤال، هل يمكنك المغادرة الآن؟”
“يا إلهي!”
هز الرجل رأسه مذهولًا.
“هل تعرفين معنى كلمة ‘اجتماعية’، سموكِ؟”
“وهل تعرف معنى ‘التدخل الغبي’؟”
شحذت صوتها:
“أم أنك لا تعرف معنى ‘الوقاحة’؟”
أدرك أن استمرار الحديث لن يفيده، فأدار حصانه وغادر كأنه يهرب.
نظرت تاليا إلى ظهره بنظرة نارية، ثم أغلقت النافذة.
الأشخاص الذين يقتربون بلطف دون سبب غالبًا ما يخفون نوايا أخرى.
هذا الشرقي كان يبتسم بفمه فقط، بينما عيناه تفحصانها وتقيّمانها بعناية.
ربما أراد استكشاف نوع المرأة التي ستصبح الدوقة الكبرى القادمة.
سخرت تاليا، سحبت الستارة، وغرقت في مقعدها.
لا يمكنها التراخي لحظة.
عشيرة شيركان بالتأكيد لا ترحب بها.
كانت الإمبراطورة السابقة برناديت ابنة عم الدوق الكبير شيئركان، وكانا مقرّبين جدًا.
لا شك أن عشيرة الكان تنزعج من أن ابنة الإمبراطورة الحالية، المتعارضة سياسيًا معهم، أصبحت الدوقة الكبرى بدلًا من آيلا، قريبتهم.
أمسكت تاليا رأسها النابض.
ربما ستواجه معاملة أسوأ مما تتخيل.
حتى في القصر الإمبراطوري، حيث كانت سينيفير مسيطرة، عانت من كل أنواع الإهانات.
قلعة رايدغو لن تكون أقل سوءًا.
خدشت شفتيها المغطاة بالقشور بأظافرها.
شعرت بحرقة في حلقها الجاف بسبب الحمى.
أخرجت زجاجة ماء من درج العربة وشربت، فسمع صوت بوق مدوٍ من الخارج.
نظرت بين الستائر مجددًا.
كانت العربة قد وصلت إلى القلعة.
بعد إجراءات التحقق من الهوية، مرت العربة عبر البوابة الضخمة.
أصدرت تاليا صوت إعجاب لا إرادي وهي تتجسس على المناطق المحيطة.
لم يكن تايرون يبالغ.
على عكس الخارج الخشن، كان داخل القلعة مليئًا بجمال محسوب بدقة.
تفحصت الطرقات النظيفة بشكل مذهل، والأبراج الحادة التي تخترق السماء، والمباني المصممة بعناية.
بدا كل شيء وكأنه نحتته يد فنان واحد.
ارتفعت القلاع المصنوعة من الحجر الرمادي والرخام الأسود بارتفاعات متنوعة بجمال متناسق، وكانت الجسور الحجرية المقوسة تربط بين المباني كالشرايين.
نظرت إليها بعيون مبهورة، ثم رأت نافورة في وسط الساحة.
اتسعت عيناها.
كانت النافورة أكبر وأفخم بكثير من تلك الموجودة في القصر الإمبراطوري، تنفث الماء بقوة.
لا شك أن القلعة تزخر بمصادر مياه وفيرة.
تدفقت المياه من النافورة إلى قنوات على جانب الطريق.
أدارت عينيها بلا توقف، مغمورة بجمال القلعة المصنوع من الحجر والرخام والفولاذ والماء.
توقف الفرسان الذين كانوا يسيرون في طابور أمام مبنى يبدو أنه القلعة الرئيسية.
نظرت تاليا إلى الأمام.
أمام قلعة رائعة تجمع بين أسلوب الإمبراطورية روم الدقيق وجماليات الشرقيين، اصطف أناس بملابس فاخرة.
توقف باركاس، الذي نزل من سرجه، وصاح بلغة الشرق.
نزل الحاضرون من السلالم وأحاطوا به.
‘هل هؤلاء أقرباء باركاس؟’
تفحصتهم بعيون فضولية.
اقترب باركاس من عربتها بعد أن فرّق الحشد.
أغلقت تاليا الستارة بسرعة، وكادت تتظاهر بالنوم، لكن باب العربة انفتح فجأة ودخل باركاس.
نظرت إليه بتوتر.
كان يرتدي، كعادته بعد مغادرته فرسان روم، درعًا من الحديد الأسود ومعطفًا شرقيًا فضفاضًا.
ملأ جسده الكبير، المشبع برائحة العشب الجاف، رؤيتها.
“كيف حالكِ؟”
خلع قفازه ووضع يده على جبهتها. عبس قليلًا عندما شعر بالحرارة.
“الحمى لم تنخفض بعد.”
“لا بأس. ليست المرة الأولى.”
أنزلت عينيها بتعبير متضايق.
اعتادت لمسته نوعًا ما، فلم تعد تفاجأ كثيرًا، لكن الإحراج ظل قائمًا.
عبثت بحاشية تنورتها، فخلع معطفه وغطاها به، ثم حاول رفعها بذراعيه.
أدارت جسدها بسرعة وضمت ركبتيها:
“لا تفعل! هل تريد إهانتي أمام عائلتك؟”
ضاقت عيناه وأمال رأسه كأنه لا يفهم:
“لماذا يعدّ اهتمام الزوج بزوجته إهانة؟”
نظرت إليه مذهولة.
كانت تعلم أنه رجل مكرّس للواجب، لكنها لم تتوقع أن يتحمل مسؤولية زواج فرضه الإمبراطور.
نظرت إليه بحدة:
“هل علمتك آيلا هذا؟ أن على الزوج رعاية زوجته؟”
ضاقت عيناه أكثر. فكر لحظة ثم قال ببرود:
“ألم نؤدِ القسم أمام الكهنة؟ أن أعتني بزوجتي كجسدي.”
“مضحك. أنت لا تعتني حتى بجسدك.”
“…”
“ولستُ أنوي لعب دور ‘الزوجة المطيعة’ كما يهذي الكهنة. لذا توقف عن تقليد الزوج المخلص.”
ردت بحدة ونهضت متعثرة لتخرج، لكنه اقترب من خلفها ورفعها بسرعة.
نظرت إليه غاضبة، لكنه تكلم أولًا:
“هل أبدو غبيًا لأطالبكِ بـ’الطاعة’؟”
“ماذا تعني…!”
“لا أتوقع منكِ شيئًا، فافعلي ما تريدين.”
قال ببرود وهو يعدل احتضانها بذراع واحدة:
“وأنا أيضًا سأفعل ما أريد.”
سحب غطاء المعطف على رأسها ونزل من العربة.
عبست تاليا تحت ضوء الشمس القوي.
عندما اتضحت رؤيتها، رأت وجوهًا غريبة تنظر إليها بخليط من الحذر والفضول.
احمر وجهها من الخجل. بدلًا من إظهار هيبة الأميرة، كانت محمولة كطفلة عاجزة، مما أثار إحساسًا بالإذلال.
“هل هذه هي التي أزاحت الأميرة الأولى وأخذت مكان زوجة أخي؟”
سمعت صوتًا محايدًا واضحًا. أخفت وجهها في كتفه دون وعي.
نظرت خلفها.
كان صبي بشعر أسود كثيف وعينين ذهبيتين بنيتين ينظر إليها وذراعاه متقاطعتان خلف رأسه.
ربما كان في الخامسة عشرة. اقترب وجهه الطفولي منها.
تفحصها بعيون فضولية:
“عيناها تشبهان حجر اللازورد.”
مد يده فجأة ليرفع غطاء رأسها.
تجمدت من وقاحته غير المسبوقة، لكن باركاس أمسك معصمه.
“لوكاس.”
رنّ صوته البارد فوق رأسها بشكل مخيف.
التعليقات لهذا الفصل " 75"