الفصل 74
**********
أمال رأسه إلى جانب. كانت حواسه المعطوبة تتعطل أحيانًا.
انتظر حتى هدأ الصوت الطنّان، ثم تجاوز المرأة ودخل إلى الخيمة.
ربما أحرقوا الأعشاب طوال الليل، فقد كانت الرائحة المرّة للدخان تملأ الفضاء المظلم.
لكن في وسط تلك الرائحة، اختلط عبير غريب يشبه ما ينبعث من فاكهة على وشك التعفن.
منذ متى بدأت تلك الرائحة الغريبة تنبعث من جلدها؟
أوقف تنفسه لحظة، ثم استنشق الهواء ببطء. ناداها بهدوء:
“تاليا.”
لم يأتِ ردّ. لكنه شعر بوجودها.
تحركت عيناه بسرعة في الفضاء المزدحم بالأواني وزجاجات الخمر وأكواب الماء المتناثرة.
توقف عندما رأى كومة من الملابس متراكمة بجانب السرير المبعثر.
انحنى أمام صندوق كبير في ركن الخيمة.
فتح الغطاء بحذر، فظهرت هيئة صغيرة متكورة جالسة بداخله.
شعر بتفاعل غريب في جسده، كأن حافر حصان ضرب صدره.
هدّأ اضطرابه الداخلي ووضع يده على كتفها.
رفعت المرأة رأسها، الذي كان مدفونًا في ركبتيها.
تحت رموش مبللة، ظهرت عينان زرقاوان نقيتان بلا شوائب.
دمعة صافية تلألأت على بشرتها الشفافة كمخلوق يعيش في أعماق البحر.
أمسك خدها المبلل ومسح ذقنها المحمر قليلًا، ثم أمال رأسها المنكمش إلى الخلف.
لاحظ خدوشًا دقيقة على عنقها النحيل، كأن شيئًا خدشها.
وبينما يتفحصها بعناية، خرج صوت متصدع من بين شفتيها الحمراوين:
“الوحوش… هل طردتهم جميعًا؟”
نظر إلى عينيها مجددًا.
كانت حدقتاها الزرقاوان العميقتان ترتعشان كالماء.
تذكر اللحظة الأولى التي رأى فيها هاتين العينين.
كان ذلك اليوم الذي استعاد فيه إحساسه بالألوان، اللون الأول الذي رآه.
شعر بضيق في حلقه، فتنفس بعمق ورفع جسده المتيبس.
التفت ذراع ناعمة حول عنقه كأمر طبيعي. بلل صوت بكاء خافت جلده المشدود.
“ظننت أنني سأُختطف مجددًا.”
شدّ باركاس ذراعيه حولها.
‘لن يحدث ذلك مرة أخرى أبدًا.’
ترددت الكلمات على طرف لسانه لكنها عادت إلى حلقه.
منذ ذلك اليوم، صار يبتلع كلماته أمامها باستمرار.
تراكمت تلك الكلمات المبتلعة في أعماقه كالرواسب.
عبس وهو يشعر بثقل يضغط على أحشائه، ثم مسح ظهرها الضيق المرتجف بلطف.
استرخى جسدها المتيبس تدريجيًا وتشبث به بنعومة.
رفع رأسها عن كتفه قليلًا لينظر إلى وجهها، فظهرت عيناها المرهقتان مغلقتين.
مسح رموشها الذهبية المترهلة بإبهامه، ثم أعاد احتضان جسدها الزلق وتفحص الغرفة بسرعة.
رأى معطفًا معلقًا على عمود الخيمة، فأخذه وغطاها به، ثم خرج.
عبر المعسكر بسرعة، فألقى بعض المحاربين الخيّالة، الذين كانوا يفككون الخيام، نظرات فضولية.
سحب المعطف ليغطي رأسها.
كان الرجال ينظرون إليها بنظرات جائعة كالكلاب الضالة منذ كان طولها لا يتجاوز خمسة كوبت (حوالي 150 سم).
وهي، رغم خوفها، كانت تكشف نفسها أحيانًا أمامهم دون حذر.
كأنها لا تمانع أن تُمزق حتى الموت.
ضمها إلى صدره أكثر وأسرع خطواته ليتخلص من النظرات المزعجة.
دخل خيمته ووضعها على السرير، فبدت نحافتها الملحوظة خلال الأشهر القليلة الماضية واضحة.
تنهد بعمق.
ما أثار غضبه هو أن نحافتها كانت تجر جمالها الغريب نحو اتجاه خطير.
تتبع عيناه رقبتها النحيلة وكتفيها الهزيلتين وعظمة الترقوة البارزة، ثم أدار بصره نحو مدخل الخيمة.
كان صبي صغير، أحد الخدم، يحدق بها.
انتفضت أعصابه الميتة بحدة.
أمر الخدم بالمغادرة وأغلق المدخل بإحكام.
لم تكن فكرة جيدة، فقد امتلأت الخيمة برائحتها الحلوة المغرية.
ابتلع ريقه وهو يشعر بعطش غريب يحرق حلقه.
مرر يده على جبهته المبللة وألقى نظرة حادة، فملأت خدودها البيضاء المعلّمة بالدموع شبكية عينيه.
تذكر كلماتها المرعوبة منذ سنوات:
“قال ذلك الرجل… كأنني أصبت بالتسمم، لا أستطيع إلا أن أبحث عنه باستمرار…”
عض الجلد داخل خده بأسنانه، فشعر بطعم الدم الخفيف.
نقر صدغيه بأصابعه، ثم أمسك معطفه من ركن الغرفة.
خرج، فملأت رائحة الدم النتنة رئتيه.
استنشقها بعمق ليزيل الرائحة اللزجة من حلقه، فاقترب باراكان، الذي أكمل تسلحه، وقال:
“الاستعدادات انتهت تقريبًا. يتبقى خيمتكم فقط، ثم يمكننا المغادرة. هل نفككها الآن؟”
“بعد ساعة.”
ردّ باركاس بصوت منخفض بعد صمت قصير:
“نرتاح قليلًا ثم ننطلق.”
ظهرت ابتسامة مرحة على وجه الرجل.
أجاب بنبرة خفيفة:
“أمرك.”
استدار الرجل لينقل الأوامر إلى رجاله.
جلس باركاس على برميل مياه ونظر إلى سهل نوردن الممتد بين الأشجار.
مرّت نسمة جافة خدشت خده.
انتشرت رائحة مألوفة في الهواء.
أين شمّ تلك الرائحة من قبل؟
بينما يتتبع ذكرياته الباهتة، سمع عواء ذئب من بعيد.
أدار رأسه.
امتدت نغمة حزينة من أطراف الغابة.
التعليقات لهذا الفصل " 74"