الفصل 73
** اليأس يحمل لون الرماد**
***********
كانت ذكراه الأولى تبدأ دائمًا في المكان نفسه.
سهلٌ واسعٌ يتلألأ باللون الذهبيّ.
فوقه، تعصف الرياح.
شقّ طريقه عبر الأعشاب المتموّجة، فسقطت سماءٌ زرقاء عميقة بشكلٍ غريب فوق رأسه.
مشى باركاس، مأخوذًا بالإثارة الشديدة، عبر الحدّ بين الذهبيّ والأزرق دون هدفٍ واضح.
في لحظةٍ ما، لم يعد يعرف إلى أين يتّجه.
كان يركض بلا وعيٍ في الريح.
كان حرًّا.
يستطيع الذهاب إلى أيّ مكان، وفعل أيّ شيء.
كان العالم الجميل أمامه يهمس بذلك.
دقّ قلبه بعنف.
شعر بحرارة الدم المتدفّق في عروقه، وببرودة الهواء الجاف الذي ملأ رئتيه.
كلّ تلك الحواس أخبرته أنّه على قيد الحياة.
ذاق نشوة الحياة.
لكنّ تلك اللحظة الرائعة لم تدم طويلًا.
قيّدته جدرانٌ رماديّة سميكة من كلّ جانب.
في فضاءٍ ضيّق لا يسمح بالجلوس، ناهيك عن الاستلقاء، كأنّه تابوت، خدش الجدران حتّى تكسّرت أظافره.
لم تدم مقاومته العقيمة طويلًا.
من خلال شقٍّ ضيّق في الجدار، كانت عينا متعصّب تتفحّصانه بين الحين والآخر.
لن يُطلق الكاهن سراحه حتّى يزول “الشرّ” الموجود بداخله تمامًا.
في يأسٍ عميق، بدأ يقتل حواسه واحدةً تلو الأخرى.
أوّلًا، انتزع إحساس الألم.
ثم شلّ حاسّتي التذوّق والشمّ.
في مرحلةٍ ما، لم يعد يشعر بالجوع، واختفت رغبته في النوم.
لم يعد كائنًا حيًّا.
عندما تبخّر محتواه الداخليّ ولم يبقَ سوى قشرةٍ فارغة، فُتح باب القبر.
نظر بعيونٍ خاوية إلى الشخص الواقف في مواجهة الضوء.
بدلًا من عينين باردتين تلمعان بحرارةٍ غريبة ووجهٍ بارد كالفولاذ، رأى وجهًا نحيفًا شاحبًا من الصدمة.
مدّت امرأة ذات شعرٍ داكن وعينين فاتحتين ذراعيها نحوه.
لمست أصابعها النحيلة خدّه المتشقّق.
لكنّه لم يشعر بشيء سوى ضغطٍ خافت.
ربّما كانت تلك اليد هي الخلاص، فقد أخرجته من القبر.
تدفّق ضوء الشمس البارد إلى داخل حدقتيه.
امتلأت شبكيّته بمنظرٍ شاحب بشكلٍ غريب.
أدرك فجأة أنّ كلّ شيء يراه يحمل لونًا رماديًا.
عالمٌ بلا لونٍ أو رائحة، باهتٌ تمامًا.
كأنّ العالم بأسره سيتحوّل إلى رمادٍ وينهار في أيّ لحظة.
أو ربّما هو من أصبح رمادًا.
رفع جفنيه ببطء.
للحظات، لم يستطع تمييز مكانه.
بعد ثوانٍ، رأى سقف خيمةٍ مغطّى بظلالٍ داكنة.
رفع ذراعه ببطء.
لم تكن يد طفلٍ نحيف، بل يد رجلٍ بارزة العظام والأوتار.
لمسها كأنّه يتأكّد من شيء، ثم سمع صوتًا يشبه عواء حيوانٍ من مكانٍ ما.
نهض باركاس ميكانيكيًا، وفي اللحظة نفسها، اقتحم جنديّ الخيمة صائحًا:
“السير شييركان! ظهرت ذئابٌ رهيبة!”
أنزل قدميه من السرير فورًا، وأمسك برمحٍ طويل كان موضوعًا بجانبه، ثم خرج.
تبعه الخدم وهم يرتدون له درعًا خفيفًا.
تخلّص من أيديهم المزعجة، ومسح المخيّم المضطرب بعينيه بسرعة.
أضاء فجرٌ شاحب الخيام المرتبة وجنودًا يركضون بلا انتظام.
سرعان ما رصد حيوانًا أسود هائلًا يبلغ طوله ثمانية كيبت (حوالي 240 سم).
بدا أنّ الوحش رآه أيضًا.
انخفضت الذئاب الضخمة، ومع زئيرٍ شرس، قفزت نحوه.
مدّ قدمه اليسرى نصف خطوة إلى الأمام، وأمسك الرمح بشكلٍ مائل.
مالت شفرة الفأس الثقيلة المثبّتة على طرف الرمح نحو الأرض.
في اللحظة التي ملأ فيها الظلّ الأسود رؤيته، أمسك الرمح بقوّة وهزّه بقوسٍ واسع.
قطعت الشفرة الهلاليّة جلد الذئب القاسي، وشقت لحمه الكثيف وعظامه السميكة دفعةً واحدة.
تدفّقت الدماء كالنافورة من السطح المقطوع حيث سقط الرأس.
مسح السائل الذي وصل رذاذه إلى خدّه بكمه، وأدار رأسه جانبًا ليفحّص المنطقة.
رأى حيواناتٍ رماديّة تتفرّق بسرعة بين أشجار الصنوبريّة المصطفّة كالسياج.
أدرك أنّها تتراجع، فخفض عينيه نحو الجسد الضخم الممدّد على الأرض.
‘يبدو أنّ هذا كان القائد.’
تفقّد الذئاب، فعندما تَفقِد قائدها، تنهار نظامها بسرعة.
أنزل طرف الرمح الحاد إلى الأرض، واتّجه نحو الخيام المنهارة لتفقّد الأضرار.
بين الأعمدة المكسورة وكومة القماش الرمليّ، رأى حيوانًا أسود مشعرًا ممدّدًا.
انحنى ليفحّص جثّة الذئب التي اخترق قلبها، فسمع صوتًا خفيفًا يحمل نبرةً مرحة من خلفه:
“يبدو أنّ عودتك إلى وطنك في اليوم الأوّل تحظى باستقبالٍ صاخب.”
التفت فرأى رجلًا يرتدي معطفًا فضفاضًا على صدره العاري.
كان محاربًا من قبيلة باراكان.
أنزل رمح الفأس الذي يحمله إلى الأرض، وأشار برأسه نحو الغابة:
“هل أأمر الجنود بمطاردتها؟”
“لا يمكننا تشتيت القوّات الآن. ركّز على إصلاح الأضرار وتعزيز الحراسة.”
“لا أضرار تُذكر. أخذوا حصانًا واحدًا فقط.”
ردّ الرجل بنبرةٍ غير مبالية وهو يفرك رقبته:
“أصيب أحد الشباب الذين أكملوا طقس البلوغ هذا العام بجروحٍ طفيفة، لكن لحسن الحظّ، لا قتلى.”
استقام باركاس.
أضاء ضوء الشمس المتوهّج الآن المخيّم المدمّر بكلّ تفاصيله.
نظر حوله بهدوء لتقييم الأضرار، ثم عاد بنظره إلى الرجل:
“رتّب المخيّم. سنتحرّك قبل أن تجذب رائحة الدماء المزيد من الوحوش.”
” أمرك.”
استدار الرجل بخطواتٍ متمهّلة، فتحرّك باركاس نحو مركز المخيّم.
مرّ بجنودٍ يحاولون تهدئة الخيول المذعورة، وخدمٍ يزيلون الخيام المحطّمة.
تجاوزهم، واتّجه نحو وعاء ماءٍ بجانب خيمةٍ كبيرة.
عكست المياه النقيّة التي جُمعت في الليلة السابقة ظلًا شاحبًا كالأشباح.
تأمّل ذلك للحظة، ثم غرف الماء بيده وغسل الدم عن وجهه.
شعر بملمس الماء الفاتر يحفّز بشرته قليلًا.
مسحه بعنف، ثم اقترب بيده من أنفه ليشتمّ.
زالت رائحة الدم النفّاذة، وفاحت رائحة خفيفة للماء.
لم يعرف أيّ الرائحتين أفضل.
كانت حاسّة الشمّ أوّل ما استعاده من حواسه.
لكنّه لا يزال غير قادرٍ على ربط الإحساس بالعواطف.
يستطيع تمييز نوع وقوّة الروائح، لكنّها لا تترجم إلى شعورٍ بالرضا أو النفور.
كلّ ما يفعله هو تمييز ما يُرضي الآخرين وما لا يُرضيهم بناءً على ما تعلّمه.
ووفقًا لما تعلّمه، فإنّ رائحة الدم تثير اشمئزاز الناس بشكلٍ خاصّ.
خلع درعه الملطّخ بلا مبالاة، ورمى به على الأرض، ثم فحص قميصه.
لحسن الحظّ، لم تكن هناك بقع دم.
لكن ربّما كانت هناك روائح أخرى مزعجة لم ينتبه إليها.
اتّجه نحو خيمته لتغيير ملابسه.
في تلك اللحظة، رأى قزمًا ربعيًا يقف أمام خيمةٍ في وسط المخيّم، يدقّ الأرض بقدميه بقلق.
اقترب باركاس منه مباشرةً دون تردّد:
“ما الذي حدث؟”
كان صوته خشنًا حتّى في أذنيه.
نظرت إليه المرأة بعيونٍ مرعوبة، وقالت:
“منذ قليل، لم نعد نرى الآنسة…”
في تلك اللحظة، رنّ طنينٌ في أذنيه.
التعليقات لهذا الفصل " 73"