الفصل 72
*********
مشَت الخادمات بهدوء عبر الرواق.
تبعتهنّ تاليا، تحرّكت بحذرٍ شديد مع كلّ خطوة.
عندما وصلت إلى السلالم بمشيةٍ أبطأ من السلاحف، كان ظهرها مبلّلًا بالعرق.
نظرت إلى السلالم بعيونٍ يائسة.
في تلك اللحظة، رأت باركاس يدخل القصر بخطواتٍ واثقة.
نظرت إليه تاليا، ناسيةً كيف تتنفّس، وهي تتفحّصه من رأسه إلى أخمص قدميه.
بدلًا من زيّ فرسان رويلم، كان باركاس يرتدي درعًا أسود محفورًا بشعار عائلة شييركان، ومعطفًا رماديًا داكنًا مصنوعًا من فراء حيوانٍ ملفوفًا على كتفيه بشكلٍ فضفاض.
مع مظهره الذي يشبه فرسان قبيلة الكان، الذين أرعبوا قارّة روبيدين يومًا ما، شعرت بقلبها ينقبض.
اقترب منها بخطواتٍ طويلة، وتوقّف أمامها.
ربّما بسبب عجلته، كان شعره المصفّف بعناية دائمًا مشعثًا بشكلٍ غير معتاد.
انحنى نحوها، محدّقًا بعينيه المعدنيّتين اللامعتين:
“كيف حال جسمكِ؟”
رمشت تاليا بعينيها بدهشة. في العادة، كانت ستنهره بقسوة ليتركها وشأنها، لكنّ لسانها جفّ بشكلٍ غريب.
بعد جهدٍ جهيد، تمكّنت من النطق بكلمةٍ واحدة:
“…بخير.”
ضيّقت عيناه، كأنّه يشكّ في ردّها الهادئ.
تفحّص وجهها بعمق، ثم خلع قفّازه ولمس جبهتها.
دفعته ثاليا بعنفٍ ردّيًا.
مع صوت الصفعة، ساد صمتٌ متوتر.
أمسكت أصابعها المؤلمة، وتفحّصت تعبيره بحذر.
لم يبدُ منزعجًا بشكلٍ واضح. أو ربّما لا تعرف.
هل استطاعت يومًا قراءة تعبيره بدقّة؟
أطرقت ثاليا بعينيها، وتمتمت بصوتٍ خافت:
“فاجأتني بلمستك المفاجئة.”
فجأة، اقتربت أصابع طويلة بيضاء مجدّدًا إلى مجال رؤيتها.
انكمشت رقبتها، لكنّه لم يسمح لها بدفع يده مرّةً أخرى.
لمس جبهتها بخفّة، ثم أحكم ربطة معطفها حتّى أعلى رقبتها بعناية.
وبدون إعطائها فرصة للاعتراض، رفعها بذراعيه وقال بنبرةٍ فظّة:
“من الآن فصاعدًا، يجب أن تعتادي على لمستي.”
اتسعت عينا تاليا. شعرت بقلبها يرتجف.
‘ما الذي يعنيه بذلك؟’
‘لا، لا تتوقّعي شيئًا.’
إنّه فقط يريد رعاية العرجاء المسكينة.
بينما كانت تسحق أملها المتزايد كالأعشاب الضارّة، أعاد باركاس تهيئتها في وضعٍ أكثر راحة، ثم نزل السلالم ببطء.
خوفًا من السقوط، لفّت تاليا ذراعيها حول رقبته.
أمسك ظهرها بيدٍ واحدة، وخطا بحذر.
بعد لحظات، ظهرت أمامها حديقةٌ مليئة برجالٍ غرباء.
تفحّصتهم تاليا بتعبيرٍ متسائل.
لم يكونوا من فرسان رويم، على ما يبدو.
كان الرجال يحملون رماحًا طويلة على ظهورهم، ويرتدون معاطف فضفاضة فوق دروعٍ داكنة.
تقدّم أحدهم نحو باركاس وقال:
“هل هي التي ستصبح الدوقة القادمة؟”
نظرت تاليا إلى الرجل بعينين حذرتين.
كان شابًا ذا بشرةٍ سمراء كالقمح المحمّص، وشعرٍ بنيّ داكن، وعينين سوداوين.
تفحّصها بنظرةٍ فضوليّة وهي تكاد تُظهر عينيها فقط من تحت المعطف، ثم انحنى بأدب:
“تشرّفتُ بلقائكِ، صاحبة السمو. أنا تايرون إيل دراكان.”
عند سماع ذلك الاسم الغريب، أدركت تاليا أنّ هؤلاء من الشرق، ربّما أتباع عائلة شييركان جاؤوا لدعم باركاس.
حاولت سحب طرف المعطف الذي يغطّي وجهها لتردّ على التحيّة، لكنّ باركاس منعها.
غطّى رأسها بالقلنسوة، ومرّ بالرجل قائلًا بنبرةٍ غير مبالية:
“سنغادر قريبًا، جهّز الخيول.”
“ألا يجب أن نمرّ بالقصر الإمبراطوري؟”
“لقد أنهيتُ تسليم قيادة الفرسان بالفعل. لم يعد هناك سبب للبقاء هنا.”
ردّ باركاس بحزم، وألقى نظرةً باردة على الخادم الواقف بجانب العربة.
“لمَ لا تفتح الباب؟”
هرع الخادم المذهول لفتح باب العربة.
صعد باركاس إلى الداخل، ووضع تاليا على مقعدٍ مغطّى ببطانيّة سميكة.
ثم رتّب ملابسها بعناية وقال:
“سنتحرّك دون توقّف لبضع ساعات. إذا شعرتِ بأيّ إزعاج، أرسلي إشارة إلى السائق.”
نظرت إليه تاليا بعيونٍ مشوّشة.
لم تفهم سبب هذه العجلة.
هل هناك من يطاردهم؟
تذكّرت فجأة وجهي غارسيل وآيلا.
‘هل يخطّطان لشيء ما؟’
تردّد صوت آيلا المشبع بالحقد في أذنيها: “ستندمين.”
عضّت ثاليا شفتيها.
دائمًا كانت هي من تخطّط للمؤامرات، لكن الآن تبدّلت الأدوار.
إذا كانت آيلا تحبّ باركاس ولو بنصف حبّها له، فستفعل أيّ شيء لاستعادته.
ربّما ترسل قطّاع طرق لمهاجمتهم.
ربّما لهذا السبب يتوقّع باركاس…
“صاحبة السمو.”
قاطعها صوته وهو يرفع ذقنها ليجعل عينيها تقابلانه، كأنّه لاحظ اضطراب أفكارها.
“ألم أخبركِ من قبل؟ لا داعي للتفكير في أيّ شيء.”
رنّ صوته المنخفض في ذهنها كأنّه تعويذة.
بدت تاليا مرتبكة.
‘ما الذي يعنيه بذلك؟ هل يحاول منعي من إثارة المشاكل مسبقًا؟’
‘أم أنّه…’
أوقفت أفكارها المتفرّعة بسرعة.
هو الرجل الذي تركها في حالةٍ فوضويّة ثم غادر كأنّ شيئًا لم يكن، تاركًا إيّاها في مكانٍ غريب دون أن يظهر لأسبوعٍ كامل.
كانت الخيبة في قلبها عميقة جدًا لتتمسّك بأملٍ واهٍ من كلماتٍ غامضة.
دفعَت يده وقالت بنبرةٍ حادّة:
“لا تقل أشياء غريبة، وإذا كنتَ ذاهبًا، فلننطلق الآن.”
لم يتحرّك حتّى مع كلماتها القاسية.
شعرت بنظرته الغامضة تخدش جبهتها.
بلّلت تاليا شفتيها الجافتين.
وبعد أن جفّ حلقها تمامًا، نهض ببطء وخرج من العربة.
عندما سمعت صوت الباب يُغلق، أطلقت تاليا زفرةً محبوسة.
اقتربت من جدار العربة، ونظرت من النافذة لترى باركاس يتحدّث مع رجال الشرق.
بين الرجال ذوي الشعر الداكن وبشرة القمح الفاتح، بدا باركاس كغريبٍ بارز.
ربّما لا يختلف الأمر كثيرًا.
غادر وطنه في سنّ صغيرة، وقضى معظم حياته في القصر الإمبراطوري.
الشرق بالنسبة إليه مكانٌ غريب أيضًا.
فجأة، تخيّلت صورة صبيّ صغير أُرسل وحيدًا إلى أرضٍ غريبة.
تحوّلت تلك الصورة إلى صورتها عندما وصلت إلى القصر لأوّل مرّة.
‘هل شعر باركاس، في السادسة من عمره، بالوحدة مثلي؟ هل شعر بالخوف والاختناق كأنّه في بطن وحش؟’
بينما كانت غارقةً في هذه الأفكار، بدأت العربة بالتحرّك.
رأت المناظر الغريبة والمألوفة تتدفّق كالنهر.
ابتسمت ابتسامةً مريرة.
‘هل هذا وقتٌ للقلق على الرجل الذي سيهيمن على الشرق؟’
من الآن فصاعدًا، ستذهب وحيدةً إلى أرضٍ غريبة، دون أحدٍ تعتمد عليه، لتبدأ حياةً جديدة.
ومع ذلك، هي قلقة على أشياءٍ لا داعي لها…
‘حسنًا، متى كان لديّ مكانٌ أعتمد عليه؟’
جلست تاليا متكوّرة في زاوية العربة، ودفنت وجهها في ركبتيها.
حتّى القصر الإمبراطوري لم يكن مكانًا تستطيع التمسّك به.
بالنسبة إلى سينيفيير، لم تكن سوى أداةٍ مفيدة.
بالنسبة إلى الإمبراطور، كانت تذكيرًا دائمًا بأخطاء الماضي المزعجة.
وبالنسبة إلى إخوتها غير الأشقّاء، كانت بقعةً قذرة يجب إزالتها يومًا ما.
فجأة، أصبحت فضوليّة:
‘في الشرق، ماذا سأصبح؟’
التعليقات لهذا الفصل " 72"