الفصل 71
*******
تحت تلك النظرة الجافة، شعرت بفمها يجفّ تمامًا.
أطرقت تاليا رأسها وهي تعضّ شفتيها المتصلّبتين و تعبث بأطراف أصابعها.
لم تكن تعرف ماذا تقول.
كأنّها أصيبت بالخرس، أغلقت فمها بإحكام وأدارت عينيها يمنةً ويسرةً، ثمّ سمعَت صوتًا هادئًا ومستويًا:
“مربيتك في الغرفة المجاورة. إذا احتجتِ إليها، ناديها.”
رفعت ثاليا رأسها مجدّدًا لتنظر إليه.
واصل باركاس حديثه بهدوء وهو يدخل ذراعه في كمّ قميصه:
“بعد أسبوع، سنغادر إلى الشرق. سأستدعي العمّال، فإذا كنتِ ترغبين بحمل أمتعة، جهّزيها مسبقًا.”
“هكذا، بهذه السرعة؟”
ردّت ثاليا بتردّد ووجهٍ مشوّش، فنظر إليها باركاس، الذي كان يزرّر قميصه، بعينين مغلّفتين بضباب كثيف، يتفحّصان وجهها بعناية.
“هل هناك سبب للبقاء في القصر الإمبراطوري أكثر من ذلك؟”
نظرت إليه تاليا بتعبيرٍ مندهش، ثم هزّت رأسها ببطء.
تأمّلها باركاس للحظة، ثم اقترب من السرير بخطواتٍ متزنة.
شعرت ثاليا بقلبها ينقبض فجأةً وهو يقترب.
دون وعي، استقرّت عيناها على شفتيه.
هل كان ذلك حقيقةً أم حلمًا؟
بينما كانت تغرق في هذه الأفكار، رُفع ذقنها فجأة، واقتربت عينان زرقاوان شفّافتان من وجهها.
“مثل البارحة، هل تتكرّر نوبات الألم المفاجئة كثيرًا؟”
شعرت تاليا بقلبها المنقبض يتشقّق بصوتٍ مسموع.
دفعَت يده بعنف، غاضبةً من معاملته لها كمريضةٍ مصابة بمرضٍ خطير.
“لا أعرف. وما يهمّني ذلك؟”
“إذا كانت هناك مشكلة، قد نحتاج إلى علاج إضافي…”
“إذا لم يستطع سحرة عائلة تارين فعل شيء، فكيف ستعالجني أنت؟”
رفعت صوتها بنبرةٍ قلقة، فأغلق باركاس شفتيه بإحكام.
جذبت شفتاه الحمراوان، المرسومتان بخطٍّ حادّ، انتباهها مجدّدًا.
الأمر الأهمّ الآن هو ما حدث الليلة الماضية، حين اجتاحها فمه بحريّة.
فلمَ يهتمّ بساقيها؟
حرّكت تاليا شفتيها الجافتين وقالت:
“على أيّ حال… البارحة…”
‘لمَ فعلتَ ذلك بي؟ هل كان ذلك فقط لإعطائي الدواء؟’
كادت تسأل، لكنّها أغلقت فمها مجدّدًا.
ربّما لم تكن القبلة سوى لحظةٍ عابرة.
ربّما كانت ذاكرتها المضطربة قد شوهت الحقيقة.
ابتلعت ريقها الجاف، وألقت نظرةً خاطفة على تعبيره.
دون أن يبدي اهتمامًا بما لم تكمله، استقام باركاس وتكلّم بنبرةٍ رتيبة:
“لقد أعددتُ معالجًا في الغرفة المجاورة. إذا شعرتِ بأيّ إزعاج، استدعيه فورًا.”
‘هل هذا كلّ شيء؟’
‘ألا يوجد شيء آخر تريد قوله لي؟’
تقلّبت الأسئلة في فمها، لكنّها لم تخرج سوى على طرف لسانها. ثم استمرّ صوته الهادئ:
“حتّى يوم المغادرة، سأبقى في القصر الإمبراطوري.”
نظرت إليه تاليا بتعبيرٍ كأنّها تلقّت ضربةً على رأسها.
لمست أصابع باردة جبهتها، فشعرت بشرتها وكأنّها تُطعن بشفرة.
انكمشت رقبتها تلقائيًا، فأزال باركاس، الذي كان يزيل خصلات شعرها المبعثرة عن وجهها، بيده.
وقف معطيًا ظهره للنافذة، فاستقرّ ظلٌّ داكن على وجهه.
“لفترةٍ من الزمن، لن تضطري لمواجهتي. لذا، كوني مرتاحة.”
فتحت تاليا فمها بسرعة، شعرت أنّ عليها قول شيء، لكنّ حلقها تألّم فلم تستطع إصدار صوت.
استدار باركاس ببطء، وأمسك معطفه المعلّق على الحائط.
نظرت تاليا إلى ظهره وهو يعبر الغرفة، مذهولةً.
أمسك مقبض الباب، ثم التفت إليها من فوق كتفه.
بدا وكأنّه سيُقدِم على قول شيء، لكنّه خرج دون أن ينطق بكلمة.
مع صوت الباب وهو يُغلق، حدّقت تاليا فيه ببلاهة، ثم أنزلت قدميها من السرير.
شعرت بألمٍ حادٍّ يتصاعد عبر عظامها.
تجاهلت الألم المشتعل وتقدّمت نحو الباب، فأدارت المقبض.
لم يكن باركاس هناك، ربّما نزل السلالم، وكان الرواق غارقًا في صمتٍ موحش.
أغلقت الباب بوجهٍ خاوٍ، وعادَت إلى جانب السرير.
لم يتبقَ من أثر باركاس في الغرفة سوى ثوبٍ رسميّ مطوي بعناية.
أمسكت تاليا بالثوب المطوي على الرفّ، ودفنت وجهها في القماش الناعم.
بدلًا من رائحة النعناع، تسرّبت رائحة الورد الكثيفة إلى أنفها.
ربّما بسبب احتضانه لها طوال اليوم، كان القماش المزيّن بالتطريز الفاخر مشبعًا برائحة زيوت العطر التي وضعتها الخادمات.
ارتدته على مضض، واستلقت على السرير البارد.
تذكّرت صدره العريض الذي احتضنها دون فجوات وهي تتلوّى من الألم.
بالنسبة إليه، الذي اضطرّ لرعاية مريضة طوال الليل، كانت تلك أسوأ ليلة.
أيّ رجلٍ في العالم سيُرحّب بليلةٍ أولى شاقّة ومزعجة كهذه؟
عضّت تاليا شفتيها المرتجفتين بقوّة.
منذ البداية، كان زواجًا قبلته لإشباع رغبةٍ طفوليّة في الانتقام.
وبما أنّها جعلته يكره الليلة الأولى، ينبغي أن تكون راضية.
هدّأت ألمها الداخليّ بصعوبة، ونظرت إلى النافذة الزجاجيّة البيضاء المضيئة.
شعّ ضوء الشمس ببريقٍ ساطع من خلف الغشاء الشفّاف.
فجأة، خطرت لها فكرة أنّ هذا هو الصباح الأوّل الذي تستقبله كتاليا رويم شييركان.
تمتمت تاليا بوجهٍ مبهم:
‘كيف ستجري حياتي من الآن فصاعدًا؟’
* * *
اقترب يوم المغادرة إلى الشرق بسرعة.
منذ الصباح الباكر، بدأت تاليا التجهّز تحت إلحاح الخادمات، ونظرت بعيونٍ متعبةٍ من النافذة.
في الفناء الواسع، اصطفّت أكثر من عشرين عربة محملة بالأمتعة.
كانت مكدّسة بالحرير المغطّى بالكتان، والمصنوعات الدقيقة للأقزام، والفساتين التي نسجتها الجنيّات، وصناديق المجوهرات النادرة.
كانت نصف هذه الأشياء هدايا من القصر الإمبراطوري، والنصف الآخر كنوز جمعتها تاليا بعناد على مرّ السنين.
تأمّلت تاليا تلك الكنوز التي كانت مهووسة بها يومًا ما لفترةٍ طويلة، ثم أغلقت الستارة.
قبل موسمٍ واحد فقط، كانت تتلهّف لاقتناء الفساتين النادرة والحليّ.
كانت تأمل أن يرى باركاس تألّقها فيراها أجمل من آيلا، فيندم على خطبته لها.
لكن الآن، لم تكن المجوهرات أو الملابس تهمّها.
فهي لن تستطيع أبدًا أن تكون أنيقة كآيلا أو جميلة كسينيفيير.
مهما زيّنت هذا الجسد، فلن تبدو سوى بائسة ومثيرة للشفقة.
جلست تاليا على السرير، وفركت ركبتيها النابضتين بالألم.
بدأ مفعول مسكّن الألم الذي تناولته فجرًا يتلاشى، وبدأ الألم الخامد يستيقظ مجدّدًا.
أدخلت شمعة عطريّة جديدة في المدفأة التي خمدت نارها.
وبينما كانت توشك على إشعالها، سمعَت طرقًا على الباب من خلفها:
“صاحبة السمو، لقد وصل السير شييركان.”
في تلك اللحظة، استيقظت حواسها المغمورة كما لو كانت قد خرجت من الماء.
أنزلت تاليا الشمعة بسرعة وقامت من مكانها.
اقتربت من الباب وفتحت المقبض، فرأت صفًا طويلًا من الخادمات يصطفّن على طول الجدار.
تفحّصتهنّ بنظرةٍ شاملة:
“…وأين مربيتي؟”
“لقد صعدت إلى العربة بالفعل.”
تنفّست تاليا الصعداء، فقد كانت قلقة من أن ترفض مربيتها الذهاب وتعود إلى القصر.
“انتظرن قليلًا، سأخرج حالًا.”
استدارت لأخذ معطفها، لكنّ خادمةً كبيرة في السنّ فتحت فمها بسرعة:
“قال السير شييركان إنّه يريد منكِ ارتداء هذا.”
نظرت ثاليا بعيونٍ متجهّمة إلى الثوب الطويل الذي مدّته الخادمة.
كان عباءة بقلنسوة فضفاضة تغطّي الجسم بأكمله. بدا أنّه أُحضر لإخفاء مشيتها المتعرّجة.
شعرت بالإهانة فاحمرّت أذناها، لكنّها ارتدت العباءة دون تعليق.
غطّت الأطراف الطويلة قدميها تمامًا، كأنّها لفّت نفسها بستارة.
لمست سطح القماش الناعم، ثم أشارت برأسها إلى الخادمات:
“هيّا بنا الآن.”
التعليقات لهذا الفصل " 71"