الفصل الخامس والستون
***********
“القصر الإمبراطوري مكانٌ كهذا…..أمام السلطة، تنتشر الوحوش القادرة على فعل أيّ شيء في كلّ زاوية. إذا قرّرت العيش هنا، فمن الأفضل أن تُقسّي قلبك.”
قال تيوريك وهو يربت على كتف إدريك.
إدريك، الذي كان متجمّدًا من الصدمة، رفع رأسه ببطء ليحدّق في وجه رئيسه.
“هل السير شيركان يعلم بهذا الأمر أيضًا؟”
“بالطبع. من أمر بالتحقيق في كلّ هذه الحقائق هو القائد نفسه.”
“إذن لماذا…؟”
تلعثم إدريك وكأنه لا يستطيع الفهم.
نظر إليه الرجل بنظرة هادئة، ثمّ هزّ كتفيه وقال:
“حسنًا… لا يمكننا أن نعرف ما يفكر فيه ذلك الرجل.”
“…”
“لكن على الأرجح، هناك سببٌ ما لا نعلمه.”
عبس إدريك بين حاجبيه.
ما السبب الذي قد يكون وراء ذلك؟
تذكّر وجه الرجل الغامض الذي لا يمكن فهمه، فظهرت تعابير جديّة على وجهه.
فجأة، تلقّى ضربة قوية على ظهره.
نظر إدريك بدهشة إلى الوراء.
السير هارت، الذي صفعه بكفه السميكة، تحدّث بنبرة خفيفة لتغيير الجو:
“على أيّ حال، لم يعد عليك أن تهتمّ بأمر الأميرة الثانية.”
ثمّ أضاف بجديّة أكبر:
“قريبًا، ستغادر الأميرة الثانية القصر. عندها، لن تضطر لمواجهتها مجدّدًا. لذا، تخلّص من هذا الشعور المزعج وركّز على مستقبلك.”
كانت كلماته الأخيرة قريبة من التوبيخ.
هزّ تيوريك رأسه يائسًا وقال:
“لقد أغضبتَ وليّ العهد خلال رحلة الحج. أنتَ في ورطة، فكيف تفكّر في الاهتمام بغيرك؟”
تغيّر وجه إدريك.
شعر بثقل على كتفيه عندما أُشير إلى ما كان يقلقه بالفعل.
رأى تيوريك حالته المُحبَطة فضحك ضحكةً ساخرة وقال:
“يا للهول! ظننتُ أنك لا تهتم بالترقّي بسبب تصرّفاتك المتهوّرة، لكن يبدو أن الأمر ليس كذلك تمامًا، أليس كذلك؟”
“كان ذلك… لأنني اعتقدتُ أن عليّ أداء واجبي كفارس حماية. مهما كان، كنتُ فارسها.”
مرّت مشاعر معقّدة على وجه السير هارت عند سماع هذا الردّ المتزمت.
حدّق في وجه مرؤوسه للحظات، ثمّ أطلق تنهيدة طويلة وقال:
“أكرّر، هذا الدور انتهى. حان الوقت لتعود إلى مكانك.”
نظر إدريك إلى وجهه الحازم بهدوء، ثمّ أدار رأسه لينظر إلى الجدران الشاهقة بين الأشجار الكثيفة.
بين الأشجار الخضراء الداكنة، ظهر سقف القصر المنفصل الذي تقيم فيه الأميرة الثانية بشكلٍ خافت.
لم يكن سوى شخص رافقها لشهرين فقط.
لو لم يرَ إصابتها المروعة أمام عينيه، لما اهتمّ بها إلى هذا الحدّ.
“السير هارت محق.”
لقد انتهى دور الحماية الخاص بي.
البيئة القاسية المحيطة بتلك المرأة أمرٌ مؤسف، لكن لا شيء يمكنني فعله حيال ذلك.
“ربما يكون هذا للأفضل.”
كما قال السير هارت، القصر الإمبراطوري مكانٌ مليء بالوحوش المفترسة التي أعمتها السلطة.
فضلاً عن ذلك، أليست هي الكائن المكروه بشدّة؟
إذا تزوّجت من السير شيركان وغادرت إلى الشرق، فستتمكّن على الأقل من الابتعاد عن الأشخاص العدائيين المحيطين بها.
أطلق إدريك تنهيدة ثقيلة للتخلّص من شعور الذنب الغامض، ثمّ أومأ برأسه وقال:
“أفهم ما تقصده جيّدًا.”
ابتسم السير هارت، راضيًا عن إجابته، وقال وهو يضع ذراعه على كتف مرؤوسه:
“حسنًا، هيا بنا لنقوم بما علينا.”
بينما كان يُسحب تقريبًا، نظر إدريك مرة أخرى إلى سقف القصر المنفصل. لكنه سرعان ما استقام وخطا بخطواتٍ واثقة.
********
استلقت تاليا على السرير، تحدّق في الغبار العائم.
تطفو الجزيئات المتلألئة ببطء في الهواء، تتمايل مع تيّاره، ثمّ تهبط برفق على جسدها.
مدّت يدها لترفعها إلى الهواء مجدّدًا، وشاهدتها وهي تتساقط ببطء.
لم تفهم لماذا تقوم بهذا الفعل الغريب.
شعرت وكأنها أصبحت عشبًا بحريًا، تتحرّك حركاتٍ بلا معنى مع تيّار الماء.
هل أصابت رأسها بدلاً من ساقيها؟
بينما كانت غارقة في هذه الأفكار الضبابية، سمعت صوت فتح وإغلاق الباب.
أدارت عينيها لترى الدخيل.
دخلت المربية حاملةً كومة من القماش بين ذراعيها، وألقت نظرة قاسية عليها.
“ما زلتِ هكذا؟ ماذا تفعلين؟!”
خدش صوتها الحاد أذنيها بشكلٍ مزعج.
جذبت تاليا الغطاء وغطّت رأسها به.
لكن المربية انتزعته بسرعة وواصلت الصراخ بنبرةٍ حادة:
“انهضي واستحمّي فورًا! لقد تسبّبتِ في فوضى وطردتِ جميع الخادمات لأنكِ رفضتِ أن يلمسكِ أحد، والآن ماذا تفعلين؟!”
حدّقت تاليا بها بعيونٍ متجهّمة.
لم تفهم ما تقوله.
شعرت وكأنها كانت نائمة طوال الوقت، فهل جاء أحدٌ خلال ذلك؟
تجولت عيناها الضبابيتان في الغرفة.
كانت الأطباق والأغراض المكسورة متناثرة هنا وهناك. يبدو أنها تسبّبت في فوضى بالفعل.
“انهضي، قلتُ لكِ!”
أجبرتها المربية على النهوض من السرير.
نظرت تاليا إلى وجهها المتورّد بنعاس، دون أن تفهم شيئًا.
شعرت المربية بالإحباط من مظهرها، فضربت صدرها بقبضتها وقالت:
“كم من الأعشاب أحرقتِ وأنا غائبة؟ أنتِ بالكاد تستطيعين المشي، فكيف ستدخلين قاعة الزفاف هكذا؟!”
“قاعة الزفاف؟”
“ألا يجب إقامة حفل الزفاف؟!”
“من سيتزوّج؟”
تحوّل وجه المربية الأحمر إلى لون البرقوق من شدّة الغضب. بدا ذلك مضحكًا.
ردّت تاليا بنبرة متلعثمة:
“مبارك زواجكِ، يا مربية.”
“اليوم هو يوم زفافكِ أنتِ!”
صرخت المربية كأنها أوزة تُعصر رقبتها.
“قلتِ إنكِ ستقومين بذلك، فلماذا تتصرّفين هكذا؟!”
عبست تاليا.
بالفعل، لقد قرّرت الزواج من باركاس.
متى قالت ذلك؟ لا تتذكّر. شعرت وكأن إحساسها بالوقت ذاب في الدخان واختفى.
حدّقت بنظرةٍ شاردة، وهي تطرف بعينيها ببطء، ثمّ أنزلت قدميها من السرير.
على أيّ حال، اليوم هو يوم زفافها، أليس كذلك؟
إذن، لا ينبغي أن تبقى هكذا.
تعثّرت وهي تمشي نحو الحاجز.
قالت المربية:
“سأساعدكِ في الاستحمام وارتداء الملابس الداخلية فقط. الباقي يجب أن تتركيه لخادمات القصر الإمبراطوري.”
“حسنًا.”
“لا تعضّي أو تضربي أحدًا، مفهوم؟”
“هل أنا قطة لأخدش الناس؟”
بدت المربية وكأنها ابتلعت شيئًا غير صالح للأكل.
ضحكت تاليا بخفة على تعبيرها المذهول، فتنهّدت المربية وخلعت عنها ثوب النوم.
“هيا، استحمّي بسرعة.”
دخلت تاليا إلى الحوض.
فجأة، انسكبت مياه باردة فوق رأسها.
أزالت تاليا الشعر الذي يغطّي عينيها وفركت عينيها المؤلمتين.
كانت المربية مستعجلة.
سكبت زجاجة زيت عطريّة كاملة فوقها، ثمّ بدأت تفرك جسدها بفرشاة كبيرة. بدت معاملتها أقرب إلى غسل كلبٍ من خدمة أميرة.
لكن تاليا لم تشتكِ.
بفضل إحساسها المخدّر، لم تشعر بالألم.
“هيا، اخرجي.”
بعد أن سكبت الماء البارد أربع مرات على رأسها، حثّتها المربية بنبرةٍ عصبية.
خرجت تاليا من الحوض وهي تقطر ماءً.
لفّتها المربية بمنشفة كبيرة لتجفيفها، ثمّ ألبستها الملابس الداخلية والتنورة بسرعة مذهلة.
لم تكن تاليا تعتقد أن المربية البطيئة كالسلحفاة يمكن أن تتحرّك بهذه السرعة.
نظرت إليها بدهشة، فمسحت المربية العرق عن جبينها وهرعت إلى خارج غرفة النوم لتستدعي الخادمات.
سرعان ما أحيطت تاليا بعشرات النساء.
لا، ربما لم يكونوا عشرات.
كانت ترى شخصًا واحدًا كأنه اثنان، واثنين كأنهما ثلاثة أو أربعة، لذا ربما كان العدد أقلّ.
لكن في عيني تاليا، بدوا كعشرات.
أغمضت عينيها المرهقتين، ثمّ أغلقت جفونها.
بعد قليل، قادتها الخادمات، بعد أن أنهينَ كلّ شيء، إلى مكانٍ ما. شعرت كأنها تُجرّف مع تيّار الماء في بحرٍ شاسع.
عندما استعادت وعيها، وجدت نفسها في عربة كبيرة تتّجه إلى مكانٍ ما.
نظرت تاليا بنظرةٍ ضبابية إلى النافذة.
رأت سماءً ملوّنة بالحبر الأسود وتحتها كنيسة ضخمة.
في اللحظة التي رأت فيها هذا المشهد الضبابي، انتابها شعورٌ بالقلق لا يمكن تفسيره.
حدّقت في مدخل الكنيسة القريب، وهي تتعرّق بشدّة، ثمّ أمسكت بمقبض الباب.
حاولت فتح الباب والقفز خارجًا، لكن العربة توقّفت فجأة.
تعثّرت تاليا وسقطت على الأرض بسبب التوقّف المفاجئ.
اصطدم ركبتها، فانتشر ألمٌ حادّ حتى حوضها. عضّت شفتيها لتكبت أنينها.
في تلك اللحظة، انفتح باب العربة فجأة، وسقط ظلٌّ كثيف فوق رأسها.
رفعت تاليا رأسها بسرعة، ورأت باركاس محاطًا بستارٍ رماديّ، فتوقّف نفسها.
كان يرتدي ثوبًا أبيض نقيًّا، مزيّنًا بشعار عائلته على معطفه المرتخي، وانحنى نحوها.
شعرت بنظرات عينيه الزرقاوين وهي تتفحّص وجهها بهدوء.
التعليقات لهذا الفصل " 65"