الفصل 63
* * *
بعد مغادرة الزائرة غير المرغوب فيها، أمرت تاليا المعالج بتعبئة الغرفة بدخانٍ ضبابيّ.
عندما استنشقت الهواء الحارّ المتصاعد كالضباب، بدأت الحواس المتأجّجة تهدأ تدريجيًا.
غمرها شعورٌ عميقٌ بالراحة.
لو انتظرت قليلًا، سيزحف الضباب الباهت إلى داخل رأسها.
عندها، لن تضطر إلى التفكير في شيء.
كلّ ما أرادته هو النوم كالموتى.
أغمضت عينيها وهي مستلقية على السرير.
لكن مهما انتظرت، ظلّ خيطٌ من الوعي يربطها بالواقع، رافضًا الانقطاع.
حاولت النوم بجذب وجهها قرب المدفأة واستنشاق الدخان الحارّ بعمقٍ أكبر، لكنّ السعال فقط هو ما تفجّر.
بينما كانت تسعل بعنفٍ وجسمها يهتزّ، هرب النعاس الطفيف الذي تجمّع حول عينيها.
غارقةً في الإحباط، نظرت تاليا إلى النافذة.
كان السماء قد تلوّنت بلون الدم القاني.
بينما كانت تحدّق في لون الغروب المزعج الذي يثير القشعريرة، نهضت تاليا من السرير كأنّ شيئًا جذبها، وقفت على ساقيها وداست على الأرض.
لم تشعر بألمٍ يُذكر، يبدو أنّ الدواء فعّال.
خطت بضع خطواتٍ كتجربة.
تحرّكت ساقها اليسرى متأخرةً إيقاعًا واحدًا، وجرّت قدمها على الأرض.
لكن الألم الذي كانت تشعر به عند ثني المفاصل كان هادئًا.
بدا أنّ بإمكانها المشي بهذا الشكل.
أدخلت قدميها النحيفتين في شبشب، ثمّ أخرجت رداءً بغطاءٍ للرأس من الخزانة.
ارتدته بسرعة وخرجت من غرفة النوم بخطواتٍ متثاقلة.
في هذا الوقت، ربّما تكون المربية تتسكّع في غرفتها.
المعالج على الأرجح أنهى عمله وعاد إلى سكنه، والخادمات يسترحن في غرفهنّ.
كما توقّعت، مرّت عبر الرواق الطويل ونزلت السلالم دون أن تلتقي بأحد.
عبرت تاليا القاعة الواسعة وخرجت من القصر المنفصل عبر بابٍ جانبيّ يستخدمه الخدم.
هبّت نسمةٌ باردةٌ تلاطف وجهها.
استنشقت الهواء البارد الممزوج برائحة العشب والزهور، وتحرّكت بخطواتٍ متثاقلة.
بعد تجوالٍ عشوائيّ لفترة، أدركت فجأة أنّها بالقرب من ساحة التدريب.
طافت في رأسها المتخم سؤالٌ خافت:
‘لماذا جئتُ إلى هنا؟’
بينما كانت تحدّق بعيونٍ شاردةٍ في الساحة المحاطة بالضوء الأحمر، شعرت بحركةٍ واختبأت خلف الأدغال بغريزة.
رأت لمحةً لبعض الفرسان يتدرّبون في إحدى زوايا الساحة، يلوّحون بسيوفهم.
نظرت إليهم ببلاهة، ثمّ واصلت المشي.
استمرّت في التجوال دون هدفٍ واضح، وبدأت رؤيتها الواضحة تترنّح كالموج.
يبدو أنّ تأثير الأعشاب بدأ يظهر أخيرًا.
جرّت تاليا ساقيها المترهّلتين ببطءٍ شديد، كالدودة.
فجأة، لاحظت أنّ ظلّها الطويل قد ابتلعه ظلٌّ داكن، فرفعت رأسها.
كانت قد دخلت مبنىً مظلمًا دون أن تدرك.
‘أين أنا الآن؟’
عبست في حيرة، ثمّ جذبت انتباهها بابٌ في نهاية الرواق الطويل.
اقتربت منه متعثّرةً وطرقت الباب بحذر.
بعد لحظة، جاء صوتٌ عميقٌ منخفض:
“ما الأمر؟”
رمشت تاليا ببطء.
عند سماع هذا الصوت، تذكّرت أخيرًا سبب مجيئها إلى هنا.
أخرجت صوتًا مشوّشًا:
“جئتُ لأنّ لديّ شيئًا أودّ قوله لك.”
عمّ الصمت البارد.
ظنّت تاليا أنّ صوتها ربّما كان منخفضًا جدًا، فاستعدّت لتكرار كلامها.
في تلك اللحظة، سمعت خطواتٍ ثقيلة، ثمّ فُتح الباب فجأة.
رفعت تاليا رأسها.
ربّما كان باركاس يستريح بعد انتهاء يومه، إذ كان يرتدي سروالًا قطنيًا داكنًا وقميصًا لينًا خفيفًا.
تفحّصته بعيونٍ شاردة، ثمّ نزل صوتٌ بارد من فوق رأسها:
“هل جئتِ إلى هنا بهذا الزيّ؟”
أنزلت تاليا عينيها لتتفحّص ملابسها.
بين فتحات الرداء، ظهرت ملابس النوم الصيفيّة التي ألبستها إيّاها المربية.
‘ما المشكلة في هذا؟’
عبست، فوضع رداءٌ كبير على كتفيها.
نظرت إليه بدهشة.
نظر باركاس، الذي لفّها بردائه بإحكام، إلى الرواق الذي بدأ الظلام يعمّه.
“أين الحرّاس؟”
“حرّاس؟”
تقلّصت عيناه بحدّة.
أمسك باركاس بذقنها برفق ورفع وجهها للأعلى، ثمّ انحنى نحوها وحدّق في عينيها.
“كم عشبة نوم أحرقتِ؟”
حاولت تاليا تركيز عينيها لترى وجهه الذي كان يتشوّه تدريجيًا.
كان باركاس يرتدي تعبيرًا غريبًا لم ترَه من قبل.
‘لا، ربّما الغرابة في رأسي.’
العالم كلّه يبدو مشوّهًا، فكيف يمكن لهذا الرجل أن يبدو طبيعيًا؟
أبعدت يده التي تمسك وجهها بقسوةٍ نسبيّة وفتحت شفتيها:
“قلتُ إنّ لديّ شيئًا أريد مناقشته.”
رأت عينيه تتقلّصان.
بدا أنّ شيئًا ما لا يروق له.
نظر إليها بنظرةٍ باردة، ثمّ استقام ونظر إلى السماء التي بدأت تظلم عبر النافذة.
ثمّ أدار نظره إلى غرفته.
شعرت تاليا بالقلق وهو يبدو كأنّه يفكّر في شيء.
‘هل تحدّثتُ بلغة الإلف أو الأقزام؟ لماذا لا يردّ؟’
“ألم تسمعني؟ قلتُ إنّ لديّ شيئًا أريد قوله…”
فجأة، مال جسمها إلى جانب.
أمسكت تاليا بإطار الباب بسرعة.
يبدو أنّ المشي من القصر المنفصل إلى هنا تسبّب في تشنّج ساقها.
شعرت بتقلّص خفيف في عضلة فخذها اليسرى.
لمنع نفسها من الانهيار، أمسكت بالحائط بكلتا يديها ووضعت وزنها على ساقها الأخرى.
في تلك اللحظة، ارتفع جسمها في الهواء.
نظرت إلى الأعلى مذهولةً، فملأ وجهٌ متعبٌ رؤيتها.
حملها باركاس بذراعيه ودخل إلى غرفة نومٍ واسعة مضاءة بالشموع.
أنزلت تاليا نظرها، متفحّصةً المشهد المألوف والغريب في آنٍ واحد.
زرته هنا عدّة مرّات، لكنّها المرّة الأولى التي تدخل فيها غرفته.
خرجت ضحكةٌ ساخرة.
يبدو أنّ إعاقة ساقيها منحتها أخيرًا الحقّ في دخول ملاذه.
“تحدّثي عن الأمر بعد أن يزول تأثير الدواء.”
وضعها باركاس على سريره وتنهّد.
أمسكت تاليا بطرف ردائه بقوة وهو يحاول الابتعاد.
شعرت عبر القماش الخفيف بجسده المشدود والمرن يتوتر قليلًا.
‘هل أدرك ما سأقوله؟’
حاولت تركيز عينيها الضبابيّتين، ممسكةً بردائه كحبل نجاة:
“لا. سأتحدّث الآن. إن استعدتُ وعيي، لن أستطيع قول ذلك…”
“…”
“قلتَ إنّكَ ستتزوّجني إن وافقتُ، أليس كذلك؟”
لم يجب، بل اكتفى بالتحديق في عينيها بعمق.
حرّكت تاليا لسانها المتراخي بصعوبة:
“افعل ذلك. تخلّ عن أيلا رويم غيرتا، وتزوّجني.”
ساد صمتٌ ثقيل.
مرّ بريقٌ غامض على وجهه المقابل للغروب.
‘هل هو محتار؟’
ربّما شعر بالإحباط من ردّها، لأنّ كلامها كان يفترض الرفض.
لكن من فمه خرج صوتٌ هادئ بشكلٍ مخيف:
“سأفعل.”
تفحّصت تاليا وجهه بعيونٍ ضبابيّة.
خرجت ضحكةٌ مرهقة من تعبيره الخالي من العواطف.
بسبب هذا الرجل، اضطرّت أيلا لزيارة أختها غير الشقيقة التي كانت تحتقرها وتنازلت عن كبريائها.
تاليا تعاني من رغبةٍ في تدمير كلّ شيء.
لكن هذا الرجل، لماذا يبدو هادئًا إلى هذا الحدّ؟
أمام وجهه البارد الذي ينضح بالملل، شعرت بشيءٍ يتشقّق داخلها.
التعليقات لهذا الفصل " 63"