الفصل 61
************
تسابق عشّاق النّميمة لتداول الحديث.
كان الحادث الذي تعرّضت له الأميرة الثّانية مؤسفًا، لكنّ إلقاء اللّوم على السّير شييركان لم يكن عادلًا في نظر الكثيرين.
وفقًا للقواعد، كان يجب معاقبة فارس الأميرة الثّانية الشّخصيّ فقط.
والأهمّ، أنّ هذا القرار لم يأخذ مشاعر الأميرة الأولى بعين الاعتبار.
على الرّغم من أنّ الخطوبة كانت سياسيّة، فقد تربّى الاثنان معًا منذ الطّفولة.
كانت الخطوبة الرّسميّة منذ ثلاث سنوات، لكنّ العلاقة فعليًا تمتدّ لأكثر من عقد.
انتقد الكثيرون هذا القرار الأحاديّ الذي فرّق بينهما.
واتّفق الجميع على أنّ نفوذ الإمبراطورة كان وراء هذا القرار الجائر.
“كيف ستصبح علاقة وليّ العهد بعائلة شييركان بعد الآن؟”
سألت خادمة وهي تحرّك القدر بمغرفة، موجّهةً السّؤال إلى معالجة أُرسلت من قصر الإمبراطورة.
كانت ماريسين، المعالجة المتوسّطة العمر، على اطّلاع بكلّ النّمائم بسبب تردّدها على القصر الرّئيسيّ.
أجابت ببرود وهي تقطّع الأعشاب الطّازجة بسكّين:
“حسنًا… إذا تزوّج السّير شييركان من الأميرة الثّانية وألغى خطوبته من الأميرة الأولى، فإنّ التّحالف القويّ بين العائلتين سينتهي.”
“إذًا، هل يمكن أن تدعم عائلة شييركان الأمير الثّاني؟”
عبست ماريسين بشكوك:
“بمعرفة طباع السّير شييركان، لا أعتقد أنّه سيتحوّل بهذه السّهولة.”
“لماذا؟ الأمير الثّاني أفضل بكثير من وليّ العهد الأحمق!”
رمقتها المعالجة بنظرة تحذيريّة:
“احذري كلامكِ. حتّى لو كان عدد الزّوار هنا محدودًا، فإنّ لجدران القصر آذانًا.”
أخرجت الخادمة شفتيها بنزق، لكنّها بدت خائفة وهي تلتفت حولها.
ضحكت ماريسين ساخرةً واستأنفت تقطيع الأعشاب.
لم يكن مصير علاقة وليّ العهد بعائلة سييركان يهمّها.
كانت تهتمّ بالنّمائم لمصلحتها الشّخصيّة، لكنّها لا تتدخّل خارج عملها.
وضعت ماريسين الأعشاب النّادرة في قدر صغير وجذبت المنفاخ.
سرعان ما بدأ عصير المندراغورا يغلي، مُطلقًا رائحة أعشاب قويّة تملأ المطبخ.
بعد أن نضجت الأعشاب، وضعت الإناء على النّافذة ليبرد، عندما سمعت صوتًا خشنًا من الخارج:
“هل يوجد أحد هنا؟”
رفعت الخادمة، التي كانت تُدخل الحطب في المدفأة، رأسها مندهشة:
“هل من المفترض أن يأتي أحد؟”
“لم يُخبرني أحد.”
أطلّت ماريسين من النّافذة لترى مدخل القصر الفرعيّ.
رأت أشخاصًا يرتدون رداءً فاخرًا بين الأدغال الكثيفة، لكنّهم لا يبدون من قصر الإمبراطورة.
شعرت بالقلق ودفعت الخادمة نحو الباب الخلفيّ:
“سأخرج لأرى. اذهبي إلى قصر الإمبراطورة واستدعي الجنود.”
لم يكن في القصر الفرعيّ سوى بضع خادمات، ومربّية الأميرة الثّانية، وهي المعالجة.
بسبب طباع الأميرة الثّانية الانعزاليّة، لم يكن هناك حرّاس كافون.
إذا كان هؤلاء ينوون الأذى، فلن يتمكّنوا من الصّمود.
ركضت الخادمة خارج المطبخ بسرعة.
انتظرت ماريسين حتّى ابتعدت الخادمة، ثمّ عبرت القاعة وفتحت الباب الرّئيسيّ.
كان هناك رجلان بزيّ عسكريّ وثلاث نساء يبدون من النّبلاء.
نظرت إليهم بحذر وقالت:
“ما الذي أتى بكم؟”
“جئنا لمقابلة تاليا رويم غيرتا.”
تقدّمت امرأة من الخلف.
عندما رأت ماريسين وجهها، شهقت.
كانت ثاني أعلى نساء الإمبراطوريّة مقامًا.
انحنت ماريسين بسرعة:
“أرى سموّ الأميرة الأولى.”
“اتركي الرّسميّات ودلّيني إليها.”
تحدّثت آيلا رويم غيرتا بنبرة متعبة.
رفعت ماريسين رأسها وردّت بحذر:
“أعتذر، سموّ الأميرة، لكنّ الأميرة الثّانية لم تتعافَ تمامًا بعد. ربّما لو زرتموها لاحقًا…”
“هل تخافين أن أؤذي أختي؟”
بردت نبرة الأميرة فجأة.
“إنّ ولاءكِ جدير بالثّناء، لكنّكِ لا تعرفين من تتحدّثين إليه. هذا ليس طلبًا، بل أمر.”
“…”
“هيا، تقدّمي.”
تجمّدت ماريسين كالفأر أمام الأفعى، ثمّ استدارت.
لم تتفوّه الأميرة الأولى بكلمة طوال الطّريق إلى الغرفة.
كانت ماريسين تراقبها بنظرات قلقة وهي تقترب من باب غرفة النّوم.
بعد ساعات من إشعال البخور، ربّما استيقظت الأميرة الثّانية.
لكنّها كانت قلقة بشأن قدرة مريضتها الضّعيفة على مواجهة هذه الزّائرة المُهيبة.
“انتظرنَ هنا. سأدخل وحدي.”
عند نهاية الممرّ، أمرت الأميرة مرافقيها بنبرة حازمة، وألقت على ماريسين نظرة آمرة.
طرقت ماريسين الباب بحذر:
“سموّ الأميرة، لديكِ زائرة. هل يمكنني الدّخول؟”
لم يأتِ ردّ.
هل ما زالت نائمة؟
أمسكت ماريسين المقبض بهدوء وفتحت الباب.
كانت رائحة الأعشاب الحادّة والفواكه المتعفّنة تملأ الغرفة.
عبست ماريسين من الرّائحة المزعجة، ثمّ رأت تاليا ممدّدة كالجثّة على السّرير، فارتاعت.
ركضت إلى جانبها ووضعت يدها تحت أنفها.
شعرت بنفس ضعيف، فتنفّست الصّعداء.
لكنّها رأت ساقيها المكشوفتين تحت الثّوب المرفوع.
كانت الضّمادات مفكّكة، والجلد المُدمّى مليء بالخدوش.
تنهّدت ماريسين بثقل ووضعت يدها على ساقيها، مُطلقةً تعويذة علاجيّة بسيطة.
فجأة، أمسكت يدٌ هزيلة معصمها.
نظرت ماريسين إلى عيني تاليا الضّبابيّتين الزرقاوين، فتوقّف نفسها.
كانت عيناها تائهتين، ترتعشان كالموج.
كانتا عينين تشبه دخان البخور الذي تستنشقه الأميرة يوميًا، مُشتّتتين للعقل.
“من سمح له بالدّخول؟”
تحدّثت تاليا بشفتين متشقّقتين وصوتٍ مخلوط بالخشونة.
استفاقت ماريسين وسحبت الغطاء لتغطّي ساقيها:
“أعتذر، سموّ الأميرة. الزّائرة أصرت على رؤيتكِ…”
أشارت بعينيها إلى الباب، فتبعتها عينا تاليا.
شعرت ماريسين بجسد الأميرة النّحيل يتوتر.
نهضت تاليا ببطء، ونظرت إلى أختها غير الشّقيقة بحذر:
“ما الذي أتى بكِ إلى هذا المكان الدّنيء؟”
“أردتُ التحدّث إليكِ.”
دخلت الأميرة الأولى، ونظرت إلى وجه أختها المريض، ثمّ إلى ماريسين:
“اتركينا وحدنا قليلًا.”
تراجعت ماريسين تحت ضغط هيبة الأميرة وخرجت من الغرفة.
قبل أن تغلق الباب، رأت الأختين: تاليا تبدو كأنّها ستنهار، بينما آيلا مشعّة بالحياة.
شعرت ماريسين بمرارة من هذا التّباين.
نظرت إلى تاليا بعينين مظلمتين لبضع لحظات، ثمّ أغلقت الباب بثقل.
التعليقات لهذا الفصل " 61"