وقفت تاليا على قدميها محاولةً إبقاء ظهرها مستقيمًا قدر الإمكان.
شعرت بألم حاد ينتشر من ركبتيها حتّى ظهرها.
يبدو أنّ شيئًا ما قد أصيب عندما سقطت.
كانت تودّ أن ترتمي على الأرض في الحال، لكنّها تظاهرت بالهدوء ونظرت مباشرةً إلى والدها الحقيقيّ.
كان ذلك وجهًا لم ترَه إلّا بعد نصف عام، وكان مجرّد لقاء عابر من بعيد.
شعرت وكأنّها تواجه غريبًا تمامًا.
يبدو أنّ الرّجل الواقف أمامها شعر بالمثل.
أدار عينيه بعدم ارتياح واضح.
“سمعتُ عن المحنة التي مررتِ بها.”
كان صوته رتيبًا، كما لو كان يتحدّث عن أمر يخصّ شخصًا آخر.
“وقيل إنّ جسمكِ قد أصيب بخدوش أيضًا.”
رمقته تاليا بنظرة مليئة بالعداء.
كان هذا الرّجل بالنّسبة إليها غريبًا لا أكثر.
شعرت بالغضب يتأجّج داخلها بسبب حديثه المُتَجَرّد عن جروحها.
“هل هذا ما دفعك لاستدعائي؟”
ضحكت بسخرية حادّة، وهي تمسّد طرف ثوبها بخفّة وتُضيف بنبرة تهكّم:
“هل تريد أن ترى بنفسك أيّ خدوش أصابت جسدي؟”
تقلّصت حاجباه الغليظان بعنف.
على عكس توقّعاتها بأن يزمجر بغضب، ظلّ بيروس رويم غيرتا صامتًا، محدّقًا في وجهها بنظرة عميقة، كما لو كان يرى ابنته للمرّة الأولى.
“لا داعي لأن أرى بنفسي.”
ردّ الرّجل ببرود، ثمّ نقل نظره إلى باركاس.
شعرت تاليا بقلق خفيّ يتسرّب إليها من عينيه المعبّأتين بأفكار معقّدة.
لماذا استدعاها هي وباركاس معًا؟
نظرت إليه بشكّ متوجّس، لكنّ الإمبراطور، بعد صمتٍ طويل، قال فجأة بنبرة لوم:
“باركاس لايدغو شييركان، لقد وثقتُ بك وأوكلتُ إليك أمان أبنائي. وها هي النّتيجة أمام عينيّ.”
شعرت تاليا بدمها يتجمّد في عروقها.
تابع الإمبراطور، وهو ينقر بأصابعه على مسند الكرسيّ:
“الأميرة الثّانية أُصيبت بجروح خطيرة بسبب فشلك في حمايتها، بل إنّ جسدها أصابه ضرر دائم. هل تعترف بمسؤوليّتك عن هذا؟”
التقت عينا باركاس بعينيها للحظة، ثمّ ابتعدتا.
“أعترف.”
لم يكن في صوته أيّ مشاعر أو عواطف، ولا حتى ظلّ لشيء هادئ، بل كان يروي الأمر وكأنّه حقيقة بسيطة لا تستحق التوقّف عندها.
“سأتقبّل أيّ عقاب تفرضه.”
تقدّمت تاليا خطوة دون وعي.
‘باركاس ليس مخطئًا.’
كادت تصرخ بهذا، لكنّها أغلقت فمها.
هل هو حقًا بريء؟
نظرت إلى ساقيها المرتجفتين، ثمّ إلى وجهه.
لمحت صورة ظهره وهو يركض بعيدًا عنها، تلك الصّورة التي لن تنساها أبدًا، والتي سلبَت منها الكلام.
“حسنًا، ما دمتَ تعترف بهذا، فالأمر سيكون أسرع.”
تنهّد الإمبراطور بثقل، ثمّ أردف:
“بسبب هذا الحادث، انهارت خطبة الأميرة الثّانية مع عائلة الكونت. وربّما لن نجد لها زوجًا يليق بمقام الأسرة الإمبراطوريّة في المستقبل. فهي، على أيّ حال، فتاة مليئة بالعيوب…”
تحدّث الإمبراطور كما لو أنّها ليست موجودة، ونظر إلى وجهها الشّاحب بنظرة عابرة، ثمّ تابع ببطء:
“عليك أن تتحمّل هذه المسؤوليّة. أُلغِ خطوبتك مع آيلا رويم غيرتا، وتزوّج من الأميرة الثّانية تاليا رويم غيرتا.”
توقّف نفس تاليا.
لم تفهم ما سمعته، ونظرت إلى الإمبراطور بعيون زائغة، ثمّ إلى سينيفيير، التي كانت تبتسم ابتسامة الأفعى التي التهمت فريستها.
شعرت بقشعريرة وتعرّق جسدها بالكامل.
لم تجرؤ على رؤية تعبير باركاس وأطرقت رأسها.
‘باركاس لن يقبل بهذا الظّلم.’
كان ابن أحد النّبلاء.
حتّى الإمبراطور لا يملك سلطة إجباره على ذلك.
بالتّأكيد سيرفض.
أمسكت تاليا طرف ثوبها بيدين مرتجفتين.
بعد لحظات، تكلّم باركاس:
“إذا وافقت الأميرة الثّانية، فسأفعل.”
رفعت تاليا رأسها بسرعة.
كان ينظر إليها بنظرات ثاقبة، وأضاف ببطء:
“سأتزوّج من سموّها.”
شعرت وكأنّ قلبها توقّف.
حدّقت في شفتيه بدهشة.
هل حقًا قال ذلك؟
ربّما سمعَتْ خطأً.
لا، بالتّأكيد هذا وهم.
باركاس لن يقول شيئًا كهذا.
“هذا ما قاله، يا أميرة.”
أعادها صوت الإمبراطور المنخفض إلى الواقع:
“إذا وافقتِ، فسيكون منصب دوقة شييركان لكِ. فماذا ستقرّرين؟”
كان في صوته سخرية واضحة.
أدركت تاليا أنّ الإمبراطور يتمنّى رفضها.
ربّما بضغط من الإمبراطورة، لكنّه لا يريد أن تتزوّج ابنته غير الشّرعيّة من خطيب آيلا.
ربّما حتّى باركاس يتوقّع منها الرفض، لذا قال ذلك.
نعم، بالتّأكيد هذا ما يريده.
هدأت أفكارها فجأة.
لو وافقت، ستصبح ملكًا للرّجل الذي طالما تمنّته.
لكن، هل هذا ما تريده حقًا؟
نظرت إلى ساقيها المخفيّتين تحت الثّوب.
فكرة كشف جسدها له جعلت أمعاءها تتقلّص.
إذا رأت على وجهه أيّ تعبير عن النّفور أو الرّفض، فلن تتحمّل ذلك.
ربّما تنهار تمامًا.
رفعت عينيها إليه.
كان دائمًا يتجاهلها ويعطيها ظهره.
أنقذ آيلا، وليس هي.
لن يحبّها أبدًا.
هل تستطيع العيش إلى جانبه، في هذا الألم؟
“أنا… أنا…”
فتحت شفتيها المتشقّقتين.
لا يمكنها تحمّل ذلك.
لم تعد تريد أن تتأذّى.
كادت تتكلّم، لكنّها رأت وجه سينيفيير الخالي من الابتسامة.
كانت عيناها تحذّرانها: لن تسامحها إذا خذلتها.
شعرت بمعدتها تنقبض بألم.
“أنا…”
نظرت إلى وجوه باركاس، والإمبراطور، وسينيفيير بالتّناوب. اختلطت ملامحهم في رأسها.
شعرت بدوخة شديدة ووضعت يدها على رأسها.
كان جبينها مبللًا بالعرق.
حاولت مسحه بكمّها، لكنّ العرق تسرّب إلى عينيها مُسبّبًا وخزًا.
بينما تمسحه بنزق، اهتزّت رؤيتها فجأة وسقطت ساقاها.
سقطت على الأرض وتنفّست بصعوبة من الصّدمة.
سمعت صراخًا حادًا من بعيد.
يبدو أنّ وصيفات سينيفيير أثارنَ ضجّة.
استلقت على الأرض، تحاول تركيز نظرها الضّبابيّ. رأت وجه باركاس البارد الشّاحب عبر الضّباب.
هل شحوبه بسبب حبّها الأحمق؟
لا، بالتّأكيد هذا وهم.
لم يبدُ وجهه أيّ تأثّر برؤية حالتها المزرية. لماذا إذًا يشحب من أجلها؟
شعرت بتعبٍ شديد.
حاولت تاليا التشبّث به في رؤيتها الضّبابيّة، لكنّها استسلمت أخيرًا وأغمضت عينيها.
**********
انتشرت في القصر الإمبراطوريّ أخبار تفيد بأنّ خطوبة الدّوق المستقبليّ والأميرة الأولى قد أُلغيت، وأنّ الأميرة الثّانية ستحلّ محلّها.
التعليقات لهذا الفصل " 60"