لم يمضِ وقت طويل على مغادرة عائلة تارين لقلعتها ودخولها إلى القصر الإمبراطوري، حيث مرّ نصف شهر فقط.
كانت والدتها سعيدة أخيرًا لأن اسم ابنتها تم تسجيله في السجلات الإمبراطورية، لكن تاليا كانت تشعر بالكراهية تجاه المكان الغريب الذي وصلت إليه. ازداد شعورها بالقلق عندما بدأ اهتمام سينيبيور ينصب فقط على تجديد القلعة.
كان القصر الإمبراطوري، على عكس ما أخبرتها به والدتها، مكانًا جافًا ومرعبًا. أينما ذهبت، كانت نظرات حادة تلاحقها، وكان الخدم الذين يعتنون بها أكثر برودًا من خدم عائلة تارين.
شعرت وكأنها طفلة ضائعة. لذا، كانت تهرب في كل فرصة لتتسلل من غرفتها وتتجول حول القصر الصغير.
كانت تذهب بشكل خاص بالقرب من الحديقة، حيث تم اقتلاع جميع الأزهار والأشجار من أجل محو آثار الملكة السابقة. وقد أصبح المكان مشوشًا تمامًا، مليئًا بالخراب.
على الأقل بدأت بعض الأشجار الوردية والشجيرات الملونة تملأ المساحات الفارغة بالقرب من المدخل الرئيسي والجنابي، ولكن الحديقة الخلفية التي لم تُكمل أعمال تجميلها بعد كانت مجرد كومة من الأتربة المبعثرة، لذلك لم يكن يزور المكان أحد.
عندما كانت تالياً تشعر بالملل من الهمسات والنظرات الجارحة، كانت تجد نفسها تقضي وقتًا طويلًا في الزاوية المدمرة للحديقة، غارقة في أفكارها.
في ذلك اليوم، كانت قد ابتعدت عن مربية الأطفال التي كانت تزعجها، وكذلك عن إحدى الخادمات التي كانت تحاول تمشيط شعرها باستخدام مشط حاد كان يؤلم فروة رأسها. هربت إلى الحديقة الصغيرة.
بسبب المطر الذي بدأ في السقوط منذ الظهيرة، لم يكن هناك أي عامل في الحديقة. جلست تالياً في زاوية من الحديقة المهجورة، تنظر إلى قطرات المطر تتساقط بلا هدف.
لم يمض وقت طويل حتى سمعت صوت صفير خفيف من بعيد.
نظرت حولها بتردد، ثم بدأ المطر الغزير يهطل عليها، وجذبتها رغبة غامضة للاتجاه نحو أطراف القصر. عند المكان الذي كان فيه شجرة ضخمة حتى صباح ذلك اليوم، لم يكن هناك سوى حفرة عميقة.
اقتربت تالياً من كومة الأتربة المرتفعة، ثم نظرت إلى الأسفل. كان هناك طائر صغير عالق في الوحل، يبكي بصوت ضعيف.
“هل سقط من الشجرة؟”
كان الطائر يبدو وكأنه على وشك الموت. كانت قطرات المطر الثقيلة تضرب جسده البني المبلل، والوحل الأسود اللزج يغطي ساقيه النحيفتين وأجنحته المتواضعة، بينما كانت صرخاته الضعيفة تتحول تدريجيًا إلى ارتجافات متقطعة.
وقفت تالياً هناك، مطأطئة رأسها، مراقبة المشهد، حتى وجدت نفسها دون أن تدري تمد قدمها نحو الحفرة.
كان هذا تصرفًا غبيًا. رغم أنها سارت بحذر، إلا أن الأرض المبتلة امتصت حذاءها بسرعة، ووجدت نفسها تسقط في الوحل.
سقطت على الوحل، وشعرت بالتراب الكريه يدخل بين شفتيها، فتشنج جسدها في حركة عصبية.
كانت فستانها الأخضر الذي صنعته المربية قد أصبح في حالة يرثى لها، وكان الوحل قد التصق بشعرها الذي كان قد تم تجعيده بعناية.
اشتعل الغضب في داخلها.
نهضت وهي تهمس بكلمات غاضبة، ثم همت بمغادرة الحفرة، لكنها سمعت مرة أخرى الصراخ الضعيف. كان الصوت بالكاد مسموعًا، ولكن بالنسبة لها كان يبدو كأن الطائر يصرخ في ألم.
اقتربت تالياً أكثر، متجاوزة البرك السوداء، لتجد الطائر الصغير في الوحل، وقد بدأت أجنحته البنية الصغيرة تتدلى.
“هل مات بالفعل؟”
لكنها لمست الطائر بحذر، فأحست بحركة خفيفة في جسده الرطب. كان لا يزال على قيد الحياة.
احتضنت جسده البارد بين يديها، ونفخت عليه بلطف لتدفئته. فبدأ الطائر بفتح منقاره البني الصغير، وأجنحته التي كانت مبللة بدأت تتحرك بشكل ضعيف، وكأنه يحاول النجاة.
بينما كانت تراقب هذا المشهد، شعرت بشيء في قلبها يضغط بشدة. لم تكن تعرف ما هذا الشعور. كيف يمكن أن يؤلمها رؤية الطائر الذي فقد مكانه وأمه، وهو يقاوم الموت في يديها.
كانت تمسك بالطائر بعناية، وتضعه في أقرب جزء من صدرها الدافئ. ثم نظرت إلى الطريق الوعر المليء بالوحل أمامها.
كانت الأرض قد أصبحت أكثر رخاوة بسبب المطر الغزير، وحاولت أن ترفع قدمها عدة خطوات، لكنها أدركت أنها لن تستطيع الصعود إلا إذا زحفت على يديها وقدميها.
أغلقت شفتيها بإحكام. لم تستطع ترك الطائر الذي أنقذته، وفي نفس الوقت لم يكن بإمكانها أن تترك كرامتها كأميرة وتزحف على الأرض مثل حيوان.
لذلك، بقيت واقفة هناك لفترة طويلة، تحت المطر البارد المتساقط.
ثم، من خلال الستار الرمادي من المطر، ظهر صبي.
كان طويل القامة ويرتدي رداء أسود مثل الرهبان، وقبعته كانت تغطي رأسه. لكن من خلال الجفن الأبيض الناصع للمطر، استطاعت تالياً أن ترى بوضوح عينيه الزرقاوين اللامعتين، وكانتا جميلتين للغاية.
“ماذا تفعلين هنا؟”
سألها الصبي، منحنيًا قليلاً نحوها. كان صوته باردًا وغير متناسب مع ملامح وجهه الناعمة التي ما زالت تحتفظ ببعض الطفولة. شعرت تالياً برعشة في عمودها الفقري.
في ذلك الوقت، ظنت أن السبب هو البرد فقط. ولكن الآن، بعد أن فكرت في الأمر، ربما كان ذلك هو شعورٌ غامض، إذ أدركت حينها أن ذلك الصبي، الذي نظر إليها بعينين باردتين، كان سيجلب لها جحيمًا لا ينتهي من المعاناة…
لو كانت قد فهمت هذا الشعور في ذلك اليوم، ربما كانت ستلقي بالطائر إلى الوحل وتزحف مثل الخنزير على الأرض الموحلة، ثم تبتعد عن ذلك الصبي بعيدًا، وتنسى حتى أنها قابلته.
لكن تالياً، وهي في سن الثامنة، لم تكن تعلم أن الصبي الذي ظهر تحت المطر كان سيصبح يأسها الأبدي. لذلك، نظرت إليه كما كانت تفعل دائمًا، وردّت عليه بكلمات قاسية.
“هل لا ترى؟ أنا عالقة هنا في الحفرة ولا أستطيع الصعود.”
حدق الصبي فيها، وكان يبدو وكأنه كان يريد أن يسألها لماذا دخلت هناك أصلاً، لكنه لم يطرح السؤال. بدلًا من ذلك، وبغض النظر عن ملابسه الفاخرة التي تلوثت بالطين، بدأ يسير نحو الحفرة حيث كانت واقفة.
فوجئت تالياً بتصرفه. لم تكن تتوقع منه أن يفعل شيئًا كهذا.
تقدم الصبي، الذي بدا أطول منها بكثير، ثم مد يده إليها وقال:
“امسكي بيدي.”
التعليقات لهذا الفصل " 6"