الفصل التاسع والخمسون
**********
“يبدو أنّ سحرة القصر اشتروا وحشًا آخر.”
ردّت رئيسة الخادمات التي كانت تتبعها بهدوء بتنهيدة.
اقتربت تاليا من القفص كأنّ شيئًا يجذبها.
رفع المخلوق المغطّى بالريش الأسود رأسه.
ارتجفت تاليا وانكمشت كتفاها.
كان هناك طائر غريب ضخم مغطّى بالريش البنيّ الداكن، وعلى جسمه رأس امرأة بشريّة.
لكنّه لم يكن وجهًا حيًا، بل كأنّه جثّة ملتصقة.
نظرت إلى الوجه الشاحب ذي العروق الزرقاء، فسمع صوتًا كريهًا كالسمك الفاسد.
“هل تشعرين بالشفقة على نفسكِ؟”
استدارت تاليا بسرعة.
كان غارسيل، مرتديًا سترة حمراء، يقف خلفها مباشرة.
ابتسم بسخرية وواصل ببطء:
“جسد وحش مع وجه امرأة… ألا يذكّركِ هذا بشيء؟”
تتبّعت عيناه الضيّقتان جسدها حتّى تنورتها التي تغطّي ساقيها.
عمّت ابتسامة أخيها غير الشقيق.
“سمعتُ أنّ ندوبكِ بشعة جدًا… لكنّكِ، على عكس هذا الوحش، تستطيعين تغطية جسدكِ، فهذا من حسن حظّكِ.”
شعرت تاليا بسائل مرّ يتصاعد في حلقها.
استدارت وضربت وجه الأمير المتعالي.
سمع صوت صراخ كالخنزير بجانبها.
كانت رئيسة الخادمات تصرخ وتتراجع متعثرة.
لم تبالِ تاليا، وخدشت وجه أخيها بأظافرها الملطّخة بالدم.
ظهرت أربع خطوط حمراء من عينه إلى ذقنه، لكنّها لم تكن عميقة بما يكفي.
مدّت يدها مجدّدًا، لكنّ الحرّاس هرعوا وأمسكوا بها من الجانبين.
تلوّت كحيوان في الفخّ، لكنّها لم تستطع الفرار.
غمرتها الدموع من العجز.
نظرت إلى أخيها بنظرات محتقنة.
كان جسده قويًا ومثاليًا.
لكنّه لم يعد مثاليًا بعد الآن.
ضحكت تاليا وهي ترى الدم يسيل على وجهه.
“كرّر كلامك مرّة أخرى. سأجعل وجهك لا يضحك أبدًا. لم يعد لديّ ما أخسره، ولا شيء يخيفني.”
نظر إليها غارسيل بدهشة، ثمّ تشوّه وجهه بغضب.
أمسك بشعرها المضفور بعنف، وسحب رأسها كأنّه سيكسره.
“كيف… كيف تجرئين على لمس وجهي؟”
كان وجهه الملطّخ بالدم مضحكًا ومحمرًا.
ضحكت تاليا بصوت أعلى.
رأت العقل يغادر عيني أخيها.
أمسك وجهها بيده الأخرى بقوّة، كأنّه سيسحق عظامها. لم تتوقّف تاليا عن الضحك رغم الألم.
فجأة، تدخّلت يد قويّة وأبعدت غارسيل عنها.
سقطت تاليا على الأرض.
زال الضغط، فتضحّت رؤيتها، وظهر ظلّ مألوف.
رمشت بعيون مشوشة، ثمّ جلست بسرعة
. كان قلبها يخفق بقوّة.
أخفت ساقيها بالتنورة بيدين مرتجفتين، فسُمع صوتًا مكتومًا من فوق رأسها.
“ها، لقد حان وقت ظهورك.”
نفض غارسيل يد باركاس بعنف، وهو يطحن أسنانه.
كانت عيناه الخضراوان تحترقان كجحيم.
سُمع صوت طقطقة أسنانه المرعب.
أمسك غارسيل كتف الأرشيدوق المستقبلي بعنف، وهدر:
“حسنًا. سأنتظر إجابتك بفارغ الصبر.”
ثمّ غادر عبر الحشد.
نظر باركاس إليها بعد لحظة.
شعرت تاليا بجسدها يرتجف.
كانت عيناه كالهاوية تجعلها تشعر بالصغر. بدت صورتها البائسة منعكسة في عينيه، كأنّهما تحطّمانها.
أمسكت تاليا الأرض بيد مرتجفة، وحاولت الوقوف، فشعرت بيد قويّة تسند ظهرها.
دفعته بعيدًا بذعر.
“لا، لا تفعل…!”
لكنّ مقاومته الضعيفة أُهملت.
رفعها باركاس بسهولة من تحت ركبتيها.
كبتت تاليا صرختها، وسحبت تنورتها لتغطّي ساقيها، لكنّ القلق لم يغادرها.
أمسكت طرف التنورة بقوّة، وقالت بصوت خافت:
“سأمشي بنفسي، أنزلني.”
لم يردّ باركاس.
ابتلعت تاليا ريقها. شعرت بخنق من صمته.
“أنزلني!”
رفعت صوتها، فشعرت بقوّة خفيفة في ذراعيه.
نظرت إليه، وأدركت أنّه يكبح شيئًا، فأغلقت فمها.
قال باركاس بصوت منخفض، وهو ينظر إلى الأمام:
“لا تريدين جذب المزيد من الأنظار، أليس كذلك؟ إن تحمّلتِ وجودي قليلًا، ستنجين من إذلال التعثّر أمام عيونهم.”
نظرت تاليا إليه بدهشة، ثمّ جالت بعينيها. رأت عشرات العيون المذهولة.
أخفت رأسها من النظرات، وسمعته يتنهّد. كادت تبكي، فعضّت على أسنانها.
“تحمّلي قليلًا.”
سارع خطواته وهو يهمس.
ظهر باب ضخم يؤدّي إلى قاعة الإمبراطور.
دهش رئيس الحجّاب عندما رأى باركاس يحمل الأميرة الثانية.
تجاهله باركاس، وأومأ برأسه.
“أتيتُ بأمر جلالته. افتح الباب.”
فتح الحاجب الباب، فظهرت قاعة مشرقة واسعة وعرش ذهبيّ.
نظرت تاليا إلى العرش.
كان رجل ضخم، كأنّه مصنوع من السلطة، ينظر إلى وثيقة بردانة.
كانت سينيفيير تهمس بشيء بجانبه، ثمّ مال رأسها لتنظر إليها.
ارتسمت ابتسامة أنيقة على وجهها اللؤلؤيّ.
“أخيرًا وصلتِ.”
حينها، التفت الإمبراطور إليها.
بلّلت تاليا شفتيها الجافّة.
شعرت بنظراته القاتمة تفحّصها.
لم تتحمّل الإذلال، فتلوّت.
“أنزلني الآن.”
تجاهل باركاس صرختها، وسار نحو العرش.
نظرت إليه بحيرة. لم تفهم تصرّفه.
كيف يجرؤ خطيب آيلا على فعل هذا أمام الإمبراطور؟
نظرت إلى العرش بقلق، فسمع صوت الإمبراطور الغاضب.
“سمعتُ أنّكِ تستطيعين المشي بلا مشاكل…”
ارتجفت تاليا، وقالت بتبرير:
“تعثّرتُ في الطريق، فقط ساعدني السير شييركان.”
دفعته بقوّة، فأنزلها باركاس، الذي كان كالتمثال، أخيرًا.
التعليقات لهذا الفصل " 59"