الفصل الثامن والخمسون
**************
جلست تاليا منتصبة الظهر كمن أصابته صاعقة.
استدارت المرأة بأناقة وواصلت كلامها.
“كانت هناك أوامر من الإمبراطورة بتزيينكِ بما يليق بمقابلة إمبراطور الإمبراطوريّة. أرجو منكِ التعاون.”
أشارت بيدها إلى الخادمات، فتقدّمت أربع منهنّ يحملن الأزياء نحو السرير.
تراجعت تاليا بسرعة.
“ابتعدن جميعًا. لا أنوي مقابلة ذلك الرجل.”
“تجنّبي الكلام غير المحترم.”
تحوّل صوت المرأة الناعم فجأة إلى نبرة قاسية كالجليد.
“حتّى لو كنتِ الأميرة، فلن يُسمح بالتطاول على جلالة الإمبراطور. سأتغاضى هذه المرّة، لكن انتبهي لاحقًا.”
تقلّصت كتفا تاليا للحظة، ثمّ أصبحت عيناها حادتين.
“وماذا ستفعلين إن لم أفعل؟ ستخبرين جلالته العظيم؟”
“ليس هذا مستحيلًا.”
ردّت المرأة ببرود.
ضحكت تاليا ضحكة جافّة.
“حقًا؟ إذن اذهبي الآن إلى القصر الرئيسيّ وأخبريه. قولي له إنّ الأميرة الثانية الوقحة قالت إنّها لا تريد رؤية وجهك المتعجرف!”
فجأة، شعرت بألم حارق في ظهر يدها.
نظرت تاليا إلى المرأة بدهشة.
كانت المرأة قد ضربتها بعصا رفيعة، وأرسلت إليها نظرة جليديّة.
“سلطتكِ كأميرة تأتي من جلالة الإمبراطور. لا يمكن التغاضي عن مثل هذا الكلام.”
“كيف… كيف تجرئين…”
لم تستطع تاليا إكمال جملتها، وارتجف جسدها.
نظرت إليها المرأة ببرود واتّجهت نحو الباب.
“أوصت الإمبراطورة بإحضاركِ إلى جلالته بأيّ وسيلة. هل تريدين منّا استخدام القوّة؟”
فتحت المرأة الباب بعنف، وهي تهدّد.
رأت تاليا جنود قصر الإمبراطورة مصطفّين في الرّدهة، فتوقّف نفسها.
نظرت المرأة إلى وجهها الشاحب بهدوء، ثمّ تكلّمت بنعومة.
“لا داعي لنغضب بعضنا. إذا تعاونتِ، سينتهي الأمر بسرعة.”
كان هذا تهديدًا باستخدام القوّة إن لم تتعاون.
كادت تاليا أن تبكي من الإهانة، وهي تمسك قبضتيها بقوّة حتّى ابيضّت مفاصلها.
في تلك اللحظة، لو كانت سينيفيير أمامها، لربّما طعنتها بخنجر في صدرها.
هل كان عليها أن تَسحق كرامتها الأخيرة بهذه الطريقة؟
لن تسامح تلك المرأة أبدًا.
“هيّا، اغسلن سموّها جيّدًا.”
عند أمر رئيسة الخادمات، انحنت خادمتان فوق السرير.
دفعت تاليا أيديهما بعنف.
“لا تلمسن جسدي!”
تراجعت الخادمتان بسرعة من صرختها الحادّة، خوفًا من انتقامها لاحقًا.
لاحظت تاليا تردّدهنّ، فاتّخذت موقفًا أكثر حدّة.
“سأترك الاستحمام للمربيّة. اخرجن جميعًا من غرفتي.”
نظرت إليها المرأة بتفكير، ثمّ تنهّدت باستسلام.
“حسنًا. لكنّ التزيين لي. لا أتنازل عن هذا.”
غادرت رئيسة الخادمات مع الخادمات.
بعد قليل، دخلت المربيّة إلى الغرفة مسرعة.
كانت دائمًا تؤذيها بكلماتها اللا مبالية، لكنّ رؤية وجهها جعلت تاليا تشعر بالراحة وكادت تبكي.
دفنت تاليا وجهها في كتف المربيّة التي اقتربت لتساعدها.
دون أن تلحظ ألمها، بدت المربيّة سعيدة.
“سمعتِ من رئيسة الخادمات، أليس كذلك؟ جلالته يطلبكِ! لا بدّ أنّه قلق عليكِ بعد سماع خبر إصابتكِ.”
استمعت تاليا إلى ثرثرة المربيّة بإذن واحدة، وقامت بصعوبة، متألّمة من الألم النابض في عظامها.
عضّت على أسنانها، وسحبت ساقها المؤلمة إلى خلف الستار.
دخلت إلى حوض الاستحمام الرخاميّ متعثرة، فصبّت المربيّة الماء الدافئ على جسدها.
غطست تاليا في الماء الفاتر، ونظرت إلى ساقيها. كانت الندوب الحمراء تبدو كديدان منتفخة.
لمستها بأصابعها، فضربتها المربيّة على ظهرها.
شعرت تاليا بالحزن، لكنّها أبعدت يدها دون كلام، خائفة من أن تغضب المربيّة وتغادر.
“هيّا، ارفعي رأسكِ لأغسل شعركِ.”
مالت تاليا رأسها إلى الخلف، فصبّت المربيّة الماء الفاتر من إبريق كبير.
بعد أن زال الصابون، خرجت تاليا متعثرة من الحوض.
جفّفت المربيّة جسدها بمنشفة كبيرة، ثمّ ألبستها ملابس داخليّة وتنورة داخليّة.
“الآن، ستهتمّ رئيسة الخادمات بالباقي.”
غادرت المربيّة الغرفة بوجه مرتاح، فعادت رئيسة الخادمات مع الخادمات.
تحمّلت تاليا نظراتهنّ التي تفحّصتها من رأسها إلى أخمص قدميها.
دارت المرأة حولها، ثمّ صفّقت للخادمات.
“ارفعن شعرها وألبسنها الملابس المُعدّة. أنا سأختار الحليّ.”
بدأت عشرات الأصابع تتحرّك حولها بسرعة.
تحمّلت تاليا معاملتهنّ لها كدمية وهي تشعر بالتعذيب.
ألبستها ثلاث أو أربع خادمات الملابس وخلعنها مرارًا، بينما كانت الأخريات يجدلن شعرها الطويل إلى ضفائر ويرفعنه.
راقبت رئيسة الخادمات كلّ شيء بوجه صلب، ثمّ أومأت برأسها أخيرًا.
“هذا يكفي.”
تراجعت الخادمات اللواتي كنّ يرتبن ملابسها.
نظرت تاليا إلى رئيسة الخادمات بعيون متعبة.
وضعت المرأة عباءة حريريّة لؤلؤيّة على كتفيها، واستدارت نحو الباب.
“حان وقت الذهاب.”
غادرت تاليا الغرفة متردّدة.
حاولت المشي بطبيعيّة، لكنّ ساقيها المخدّرتان لم تستجيبا.
شعرت بنظرات الجنود تترصّدها مع كلّ خطوة متعثرة. أرادت سحق تلك العيون.
كبتت إهانتها وخرجت من القصر المنفصل، فرأت عربة تنتظر في الحديقة.
بجانبها، وقف رجل غريب يرتدي درعًا.
‘هل استقال الفارس السابق؟’
مرّ وجه الرجل الذي أزعجها طوال الرحلة في ذهنها.
لكنّها سرعان ما شعرت أنّ الأمر لا يهمّ.
كان فرسان الحرس يتغيّرون كلّ موسم.
لقد حان وقت التغيير.
صعدت تاليا العربة بوجه جامد.
تبعتها رئيسة الخادمات، وفتحت شفتيها المغلقتين بصوت صلب.
“اليوم، سيتحدّث جلالته عن أمر هامّ. أرجوكِ، تجنّبي أيّ تصرّف غير لائق.”
“ما هذا الأمر الهامّ؟”
“لا أعرف.”
“إذن، كيف تعرفين إن كان هامًا أم تافهًا؟”
أغلقت المرأة فمها. بدا أنّ صبرها قد نفد.
أدارت تاليا وجهها لتنظر من النافذة، وهي تدلّك صدغيها.
كانت العربة قد غادرت حديقة القصر المنفصل، وتعبر أراضي القصر الإمبراطوريّ الشاسعة بسرعة.
نظرت تاليا بقلق إلى المناظر المارّة بسرعة، وهي تدلّك ركبتيها النابضتين بالألم.
حتّى مع الوسادة السميكة، كانت اهتزازات العربة تؤلم عظامها. مسحت قطرات العرق وكبتت الألم بشدّة.
أخيرًا، توقّفت العربة المتقلبة.
خرجت تاليا متعثرة، وعبست وهي ترى ضوء الشمس يتدفّق على الساحة الواسعة.
كان القصر الرئيسيّ مليئًا بالناس اليوم بشكل غير عاديّ.
نظرت إليهم بحزن، فقالت رئيسة الخادمات بحثّ:
“جلالته ينتظر. هيّا بنا.”
عضّت تاليا شفتيها وتحرّكت.
لاحظت الناس يتراجعون ويتهامسون عندما تعرّفوا عليها.
حاولت تجاهلهم وهي تمرّ بجانب الحرّاس عند المدخل، لكنّ أحدهم أوقفها.
“لا يمكنكِ المرور الآن. نأسف، لكن اعبري الباب الجانبيّ…”
نظر الجنديّ إلى وجهها متأخّرًا، وشهق بقوّة.
نظرت تاليا إليه بنظرات باردة.
“من تجرؤ على منعه؟”
“آسف، سموّ الأميرة.”
ابتعد الجنديّ بسرعة.
مرّت تاليا بالذين ينحنون لها بتكلّف، ودخلت المبنى.
حاولت إخفاء مشيتها غير الطبيعيّة، لكنّ العرق غمر جسدها. لم تنجح جهودها.
نظرت جانبيًا لترى ردود فعل الآخرين.
فجأة، لمحت قفصًا ضخمًا في جانب القاعة.
فتحت عينيها بدهشة عندما رأت ما بداخله.
“ما هذا…؟”
التعليقات لهذا الفصل " 58"