مسح أسروس العرق عن وجهه بكمّ قميصه، ثمّ قفز درجات السّلم الحجريّ دفعة واحدة وسحب مقبض الباب المغلق بإحكام.
فانكشف أمامه مشهد القاعة الكبرى الصّامتة كأنّها موتى.
لم يكن هناك حارس واحد، ولا حتّى خادمة ترى عينيه، فتفحّص أسروس المكان المظلم الخافت بنظرات متجوّلة، ثمّ تحرّك بخفّة ليصعد السّلم.
لم يكن يعلم لمَ يخفّض صوت خطواته.
كما شعر في زيارته السابقة، كان هذا القصر يشبه مقبرة مهجورة.
الجوّ المرعب يجعل المرء يكتم أنفاسه دون وعي.
بينما كان يرمق النوافذ المغطاة بالستائر بنظرات سريعة، قفز أسروس درجتين درجتين حتّى وصل إلى الطابق الثالث في لمح البصر.
أخيرًا، ظهر باب غرفة نوم أخته في مجال رؤيته.
توقّف أمام الباب المصنوع من خشب الماهوغاني الضخم ليلتقط أنفاسه، ثمّ طرق الباب بحذر.
لكن، حتّى بعد انتظار طويل، لم يأتِ سؤال “من هناك؟” ولا إذن بالدخول.
‘ربّما، أهي نائمة؟’
ألصق أسروس أذنه بالباب، ثمّ طرقه هذه المرّة بقوّة أكبر.
فجأة، سمع صوت ارتطام من الداخل.
تردّد للحظة، ثمّ سحب مقبض الباب بهدوء ليطلّ على الغرفة.
كان هناك دخان أبيض ضبابيّ يتصاعد داخل غرفة النوم الفوضويّة.
سعل أسروس بصوت خافت بسبب الهواء الكثيف، ثمّ فتح عينيه على اتّساعهما فجأة.
كان المشهد أمامه يبدو وكأنّ عاصفة قد اجتاحت المكان.
وقف مشدوهًا، فمه مفتوح، وهو يرمش بعينيه، ثمّ تقدّم كأنّ شيئًا يجذبه إلى قلب تلك الفوضى.
كانت شظايا زجاج محطّم متناثرة في أرجاء الغرفة.
كأنما أُلقيت زجاجة خمر، إذ كانت رائحة النبيذ القوي تفوح من السجادة، وفوقها تناثرت قطع قماش طويلة ممزقة، وريش يبدو أنه انسكب من وسادة، مبعثرًا في فوضى عارمة.
نظر أسروس إلى هذه الأشياء بنظرات شاردة، ثمّ لمح فجأة مرآة جداريّة محطّمة، فارتجف كتفاه.
كان وجهه المنعكس على سطح المرآة المتشقّق إلى عشرات القطع يبدو مخيفًا.
شعر برعب وهو يتراجع إلى الخلف، فسمع صوت حفيف خلفه.
استدار بسرعة فائقة، فوجد تاليا ملقاة على السجادة بلا حراك، فتجمّد في مكانه.
شعر وكأنّ أنفاسه توقّفت.
كانت ترتدي ثوب نوم رقيقًا وتنظر إلى السقف.
وجهها الخالي من الحياة جعل عَمُودها الفقريّ يرتجف.
حرّكت ذراعها النحيلة كغصن البتولا، والتقطت حفنة من الريش المتساقط على الأرض ونثرته في الهواء.
تطاير الريش الأبيض كالغبار في الهواء الضبابيّ.
كانت تنظر إلى هذا المشهد بعيون مشوشة، ثمّ حرّكت عينيها ببطء لتنظر إليه.
تراجع أسروس دون وعي إلى الخلف.
تحرّكت شفتاها المتشقّقتان المغطّاة بقشرة الدم الجافّة، وأخرجت صوتًا خشنًا.
“أجئتَ للتفرّج؟”
“أنا، أنا… جئتُ فقط للاطمئنان عليكِ…”
توقّفت عيناها المدمّرتان على باقة الزهور التي في حضنه.
شعر أسروس بحرارة في أذنيه.
لسبب ما، شعر كأنّه يرتكب خطأً بحقّها.
أغمضت تاليا عينيها كمن أنهكه التعب.
“… ضعها هناك واخرج.”
تردّد أسروس، ثمّ وضع الباقة على الرفّ بجانب السرير.
لم يعد يعرف ماذا يفعل.
نظر إلى أخته بنظرات حائرة، ثمّ غادر الغرفة.
في الرّدهة، رأى بيرينس، الذي كان ينتظر، وجهه الشاحب، فعقد حاجبيه، وكأنّه يشتبه في أنّ شيئًا سيئًا قد حدث.
لم يشرح أسروس شيئًا، بل سحب يده وقال:
“هيّا بنا نعود إلى القصر الرئيسيّ.”
ثمّ ركض في الرّدهة الصّامتة كقبر.
لم يكن يعلم ممّا يهرب.
فقط أراد مغادرة هذا المكان البارد الرطب بأسرع ما يمكن.
نظر خلف كتفه إلى باب الغرفة المفتوح نصف فتحه، ثمّ نزل السلالم راكضًا، وكأنّه حيوان يفرّ من فخّ، خرج من القصر المنفصل دفعة واحدة.
****************
كان الألم يشبه نملة تزحف في عروقه.
كان الألم الناقر يصعد من ساقيها إلى ركبتيها، فخذيها، ثمّ الحوض والخصر.
لم يكن الألم قويًا كما كان من قبل، لكنّه كان مزعجًا بنفس القدر.
نزعت تاليا الجلد القاسي كالقشرة لتستخرج تلك الحشرة المزعجة.
تدفّق الدم من الجرح المفتوح. لم تبالِ بالألم الحارق، وحفرت بأظافرها في اللحم الأحمر المكشوف، فدخلت المربيّة، التي وصلت لتوّها، ورأت المشهد فأطلقت صرخة حادّة.
“أرجوكِ، توقّفي عن هذا!”
ألقت المربيّة الصينيّة التي كانت تحملها بعنف وأمسكت بيدها.
نظرت تاليا إليها بعيون باهتة، ثمّ وضعت يدها الأخرى على الندبة.
“لمَ تفعلين هذا حقًا؟”
أمسكت المربيّة باليد الأخرى، وتنهّدت بعمق.
“الندبة قبيحة أصلًا، فكيف إذا ازدادت سوءًا؟”
نظرت تاليا إليها بعيون خاوية.
كانت المربيّة دائمًا تمدحها وتصفها بالجمال.
كانت تقول إنّها تُشبه طفولة سينيفيير تمامًا، وكم كانت مُخلصة لها.
لكن، حتّى في عيني المربيّة، بدت تاليا الآن مشوّهة.
نفضت تاليا يدها بقوّة ودفعت كتف المربيّة.
“اخرجي! لا أريد رؤية وجهكِ!”
نظرت المربيّة إليها بنظرات حادّة، ثمّ سارت بخطوات ثقيلة نحو الرفّ، والتقطت وعاء العصيدة وزجاجة الدواء وقدّمتهما إليها.
“كُلي هذا واشربي الدواء، ثمّ سأغادر حتّى لو أمسكتِ بي.”
مدّت تاليا يدها لتلقي بالوعاء، لكنّ المربيّة، التي اعتادت على هذا، تراجعت بسرعة.
أرسلت إليها نظرة شديدة.
“إن لم تأكلي، فلن أحرق لكِ أعشاب النوم.”
نظرت تاليا إليها بنظرات مليئة بالحقد، لكنّها أخذت الوعاء أخيرًا.
لم يعد لديها طاقة للمشاجرة.
أمسكت الملعقة وأدخلت الطعام الطريّ في فمها آليًا، كأنّها تأكل الطين.
تحمّلت الغثيان وأفرغت الوعاء، ثمّ ابتلعت الدواء المجهول، فأدخلت المربيّة حزمة أعشاب جديدة في المبخرة وأشعلتها.
استنشقت تاليا الدخان الكثيف وتمدّدت على السرير.
بدأت وعيها يتشوّش وأحاط بها النعاس.
تنهّدت براحة وهي تشعر بحواسها تتلاشى، ونظرت من النافذة.
كانت سماء المساء تتلألأ باللون الأحمر عبر الزجاج الشفّاف.
مع غروب الشمس، كان الظلام الكثيف سيغمرها قريبًا.
حتّى في حالة التشوّش، شعرت بالخوف.
كانت تخشى قدوم الليل.
كانت ذكريات انتظارها لأحدهم في الظلام تُخنقها.
لكنّ الصباح كان أكثر رعبًا.
لم تكن ترغب في عيش يوم آخر بهذا الجسد البائس.
أغمضت عينيها بقوّة وتلوا كلمات صلاة حارّة.
“ليته، أثناء نومي، يمرّ كلّ الوقت الممنوح لي دفعة واحدة.”
لتتحرّر إلى الأبد من هذا الألم.
لكن، كالعادة، لم تتحقّ أمنيتها.
استيقظت تاليا على يد تهزّ كتفيها، ورأت ضوء الشمس يتدفّق من النافذة، فتنهّدت بحسرة.
يبدو أنّ يومًا بائسًا آخر سيبدأ.
أمسكت جبهتها النابضة بالألم.
فجأة، سمع صوتًا غريبًا.
“حان وقت الاستيقاظ، سموّكِ.”
استدارت تاليا بدهشة، فرأت ظلًا داكنًا طويل القامة بجانب السرير، فجلست بسرعة.
كانت امرأة طويلة القامة وقويّة البنية تنظر إليها بعيون رماديّة كالفولاذ.
انحنت المرأة بأناقة وقالت:
“أرجو العفو عن جرأتي بدخول غرفة نومكِ دون إذن، سموّكِ. أنا ترانيا ميلدرين، رئيسة خادمات قصر الإمبراطورة. أتيتُ بأمر الإمبراطورة لخدمتكِ اليوم.”
نظرت تاليا بحيرة، وجالت عينيها في الغرفة ببطء.
لاحظت أنّ الغرفة نُظّفت، وكان هناك حوالي عشر خادمات يرتدين فساتين تحمل ختم قصر الإمبراطورة، يقفن في انتظار.
التعليقات لهذا الفصل " 57"